نصوص أدبية

صاحبي رو دان

وبما أني كنت متحررا من طفيليات الغباء التي تنخرأحيانا قشرة عقلي لذت بالصمت ولم أسعى لمضاعفة كآبته وهمومه.

فتحت بيتي القماشي متوسط الحجم وثنائي اللون،لأنتزع من أحشائه قطعة طعام ملفوفة بإتقان. ابتعتها من المحطة قبل صعودي على متن القطار. ولما تأكدت بأن صاحبي مصرا على التوحد والخلوة لم ادعوه ليشاركني طعامي المتواضع. كي لا أزعج صمته. وعلى أي حال لم اشعر بأي تغير في وزن الحمولة المُعدوية. حيث أن وجبتي الغذائية معدة لإشباع قطة على اكثر تقدير. اتكأتُ على بيتي المنفرد الآن بأثاثه الدائم، بالإضافة إلى كنزة صوفية كنت أحيانا استغني عنها حسب مزاج الطقس. فألقيها داخل جدرانه السوداء الباهتة، واغلق بابه الرمادي الباهت هو الآخر. وتوجد ثمة غرف صغيرة خلف الباب تسكن إحداهن محفظتي الجلدية، والأخرى استأجرها نقالي بشكل بشع. لأنه لم يمارس وظيفته بشرف، حيث يتأخر بالخروج من حجرته في اكثر الأحيان، وأنا في أمس الحاجة أليه للرد على اتصال ما. فأحاول سحبه بالقوة وحينما انتزعه أخيرا من مكانه يكف عن الصراخ ويفوت علي إجابة المكالمات الواردة. مما حداني أن ارميه خارجا في إحدى نوبات الغضب غير أسف على حجرته الشاغرة. فهو على أي حال عاطل بجح وبقائه كعدمه. ويفصل بين الحجرة الشاغرة التي تأن ألان تحت ضغطة كوزي والحجرة المسكونة بالمحفظة ممران صغيران جدا ينام في الأول قلمي الحبر شامخا بلونه الفضي اللامع، بينما شغل الآخر قلم جاف من النوع الرخيص تحاشك معه نزيل من فصيلة أقلام الرصاص الشهيرة، نتيجة لأزمة السكن الحالية. وقد استظل الجميع بسقف الباب الكبير المزود بسقف ثانوي سري يشغله باستمرار أحد الكتب المعدة للقراءة، بينما ينام الدفتر في حجرة الاستقبال الكبيرة في وسط البيت ناعما بدفء الكنزة.

 قطع القطار محطات كثيرة غاسلا نوافذه الزجاجية بالرذاذ المطري المتكاثف من ورائها وكأنه يحاول أن يثير صاحبي. لكن محاولته ضاعت هباء العواصف إذ لازال غاطا في صمته مبتلعا حبل الفراغ متدليا فيه إلى قاع هاويته السحيقة. عدت انظر أليه بقلق ضاعف تدفقه دندنة القطرات، وعواء العواصف وحركة القطار المزلزلة على السكة المبتلة. وقد دفن الظلام دفتي القطار داخل فكه، وأبقاني تحت رحمة ضوء المقطورة المركز بشكل مقرف..

ظل صاحبي ملتصقا بالنافذة بينما تسلط بمقدمة بدنه أمام ناظري. بدا متماها مع الظلام وغير منفصل عنه، وان كان يسبح في ضوء العربة. توقف القطار في محطة جديدة وتوقف معه المطر إذ يبدوا انه يأس من صاحبي أخيرا، وهو متسمرا على نقس جلسته الأولى، متكئا على قدمه الخشبية الوحيدة . نظرت إلى كنزته الجلدية كانت متحاثة من الحواف، وهي جاثمة بلونها الجوزي الغامق على ركود صاحبي وقد ناسبت كآبته. وفي أعلى الردن الأيسر ارتدى قفاز جلدي ثنائي اللون جميل الطراز، لكنه ساكن بشكل ملفت. وقد ادخله بين قضبي السلة الحديدية في أعلى العربة فتدلى وكأنه ثعبان يحاول أن ينقض على أي حركة مباغتة تحاول أن تعكر مزاج صمته . واستراح القفاز الأيمن على حافة المصطبة العليا خلف رأسي، ومن تحت الكلاب الحديدي على جانب العربة انحدرت قبعته الصوفية ذات السحنة الزرقاء الشاحبة، وقد غطت كل ملامح وجهه فلم يبدو منه أي اثر. والتف على عنقه حبل عريض هو الوحيد بألوان مشعة وزاهية، وتحمل انطباعات عن الحياة. فوجئت بهذا التناقض وتساءلت عن السر في ذلك فعللته حيينها بكون صاحبي بارع في الاحتفاء بكل رموز الموت فقط . انه يصر على أن يخنق رقبته بحبل زاهي الألوان لأنه قرف حياته ومستعد للشنق بكل رحابة صدر. توقف القطار في محطة تالية وهي كبيرة مُلئت بالمصابيح الكهربائية وتزاحم الناس وقوفا وجلوسا على مصاطبها بانتظار القطار الذي سيقلهم إلى مساكنهم . صحا الطقس وقد ازداد نقاء والتمعت قطرات المطر على زجاج العربة، وكأنها شظايا كريستال أو ماس.  هبت شحنات حركية في سكون القطار إذ صعد لمتنه بعض الأفراد الجدد جلس في نفس العربة، التي شغلتها وصاحبي بل إضافة إلى شخص استغل الرحلة بسرقة غفوة طويلة انفلتت منه ولابد خلال ساعات النهار، شخصان وجلس في العربة التي تقابل مسقط نظري بعض الأفراد أيضا. تركت صاحبي غارقا في سكونه وتحسست الجو الحركي من حولي . إذ بدأت ثمة حركات صوتية تنثال في المكان، وقريبا مني تثاءب كيس مهسهسا بقوة بعد أن حمله صاحبه وألقاه إلى جانبه بحدة. صدح مكبر الصوت منبئا عن المحطة التالية، وعدت إلى نفسي وقد شعرت بلسعة في معدتي ومرارة في ريقي أحدثها الطعم اللاذع لقطعة الطعام، التي تنتمي لصنف الوجبات السريعة. لكنى لم اندم لابتياعها على أي حال. فبالنسبة ألي من المناسب أحيانا أن اكسر الصمت بأي معول مهما كان سيئا. فلابد أن أزعج سكون الصمت وأزلزل بشاعة الفراغ قبل أن يزعجني ويبتلعني في أحد أفاعيه الخطيرة..

عاد القطار إلى مواصلة سيره مجلجلا بعجلاته سكون الليل، وبدأت روائح الأعشاب والأشجار المنقوعة تعطر مغارتي انفي برطوبات صافية وعذبة. حفزته ليعب من عبقها بعد أن فتحت النافذة قليلا، بينما لا يزال صاحبي على نفس سكونه. استمرت الجلجلة منحدرة واخيرا أعلن مكبر الصوت بلوغ المحطة الأخيرة خلال دقائق . ارتديت قبعتي الزرقاء الشاحبة وكنزتي الجلدية التي ضاعت بقعها المنقشعة تحت ذراعي، وافلت القفازين من ردنيها وارتديتهما. بينما لففت رقبتي بشال زاهي الألوان، إذ يجب الاحتفاء بكل شيء حتى وان كان برمز يذكر بالموت شنقا. فالموت لازما ولابد منه لتستمر الحياة وما علي سوى أن أعيشها بكل تفاصيلها وتناقضاتها . أرحت أخيرا شريط بيتي الأسود على كتفي، وأمسكت القبضة الخشبية المعقوفة لمظلتي، واتجهت خارج القطار. وجدتُ باستقبالي رياح عذبة لفتني بحنانها من كل اتجاه ...

  

................                         

* القصة ضمن المجموعة القصصية (من طقوس الفنان).

في رحلة من "لاهاي" إلى "دود رخت"

13/11/2008

ليلاً

  

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1070  السبت 06/06/2009)

 

 

في نصوص اليوم