نصوص أدبية

الصخرة والبحر والإلهام

فانبعث إلى أنفه الماضي، وأعاد إليه الشعور بالاختناق في الغرفة الضيقة . هذا السرير الحديدي وهذه الطاولة القديمة والخزانة المتآكلة الحواشي هي أهم ما تضم هذه الغرفة المعلقة بأعلى هذه العمارة المتداعية للسقوط في هذا الزقاق الذي لا يؤمه إلا الطلبة وبعض الفنانين المعدمين من كتاب وشعراء ورسامين شبان .

تساءل : كيف يجدون طريقهم إلى الإبداع بين روائح البول والسمك النتن وبقايا الأطعمة المتعفنة المنبعثة من القمامة التي ما انفكت القطط تنبشها ليلا نهارا ؟ . علقت تلك الروائح بأنفه منذ أن هم بصعود الدرج الخرب . كاد يسقط وقد أفلتت حافة السلم المتآكل من يده . تجهم وجهه وهو يشعل الشمعة . لم يتمكن بعد من تسديد ثمن فاتورة الكهرباء المنقطع تياره منذ أسبوعين . ظلام الغرفة يزيد في حلكة الظلام الذي يسكن أفكاره .

تذكر بداية انشغاله بالبحث وكيف قرأ الأسطورة وبعد أن أن أتم قراءتها نظر إلى المرآة الكبيرة المواجهة له، فشعر أن الغرفة ضيقة وكريهة، وأنها تحاصر صورته وتضعه في مواجهة جدار يحجب عنه الشمس . لم يتفطن إلا والمرآة تتهاوى قطعها تحت قبضته، ولكن الشمس لم تدخل إلى حجرته ولم تزح الظلمة من أفكاره، بل فاضت دماؤه من الجرح واكتشف درجة حماقته البالغة وهو يدور في الغرفة باحثا عن خرقة يلف فيها اليد النازفة .

تذكر ذلك المشهد المحفور في ذاكرته عندما كان طفلا  وقد خرج ليسوق العربة في العاصفة عبر منعطفات الجبل، مواجها المطر والريح والصقيع . كان الحصان حارنا يصك الأرض بحوافره رافضا السير على الطريق، ولكنه بقي يصارع الطبيعة والحيوان إلى أن انبسط السهل أمامه وبدت ذؤابات الأعشاب تتماوج تحت هبات العاصفة، عندها ترك العنان للحصان يسير خببا .

ما إن قرأ الأسطورة حتى عادت إلى ذاكرته تلك الحادثة، استرجع صوت الريح المزمجرة مقترنا بدوي الرعد والسماء الكالحة . بعثت فيه تلك الحادثة وهو طفل شعور بالرضا عن النفس . ولكنه الآن يقف أمام مغامرة أخرى تفتح هوة في خياله تبدو له كصدى هدير ذلك الرعد الذي كانت أذنا الحصان تنتصب لقعقعته .

ترك كتب التاريخ والفلسفة والأدب تنام على طاولته الهرمة، وأغمض عينيه وهويتخيل " أوليس " ناشف الريق وهويرتد من شاطئ إلى آخر دون أن ترتسم أمام ناظريه ملامح الطريق التي تقوده إلى نهاية الرحلة . تخيل البحر وهو ينفتح على تلك التساؤلات التي تولد تساؤلات أخرى ولكنها لا تنفتح إلا على أخرى إلى حد الإرهاق والشعور بالضياع وانتفاء تشكل الأفق المرتقب .

*****

الظلام يحجب الأفق، لقد انعكس سواده على نفسه فشعر بالانقباض وسار نحو حوض عرائس البحر . كان يولي وجهته إليه كلما نشف فكره، وشعر بفراغ مقيت، فلا تنطبع في مخيلته سوى صحراء جرداء أو شجرة عرتها الرياح من الأوراق فصارت شاحبة شحوب روحه .

انتابه الشعور بالشجن الذي يحاكي وقع أحلامه الضائعة فيقرع أذنيه بضجيج رهيب . ساءل نفسه بخشوع : ـ " أكلما شعرت أن الجو المأتمي يأسرني، ينبعث صوت عروس البحر  ليستأصل أشواك ألمي ويبدد قلقي وأشعر أنني ناصع الوجدان، فترتسم على وجهي علامات الارتياح وتصير خطواتي أكثر عزما ؟ "

لكنه الآن يسير مثقل الخطى، متوتر الأعصاب، خائر القوى . كان كلما شعر بهذه الحالة، يولي وجهته نحو تلك الصخرة التي عزفت الطبيعة على إكمال نقشها وقربها يسترسل صوت فتاة تنشد بعذوبة كلمات اللوعة والشوق فيبلغ قمما من الضوء، لم يحلم بها من قبل . أدرك في أعماقه أن هذا الصوت الخفي ينبعث من حنجرة عروس البحر التي لا تظهر لكل البشر.

أي سحر يشده غلى هذا المكان الهادئ ؟  رغم كل محاولاته لكي يبتعد على ذلك المكان إلا أن الصوت كان يجذبه إليه، فيعود من جديد وهويسعى رافضا أن يصدق أنه أصبح أسير ذلك الموقع . وازداد حنينه الملتهب ولم يخمد لهذه الصخرة الرابضة على البحر . حين يجلس هناك يشعر برغبة قوية في اختراق المسافات، ويصبح الزمن مراحل تتمدد في الذاكرة وبشكل من الأشكال تتداخل الأحداث في تفكيره ويصبح غير قادر على التمييز بين ما هو واقع حواليه وما هو رغبات وتوق في أعماقه . يستمع إلى دقات قلبه النابضة بالحيرة، إلى حد يدفعه إلى الجنون . وكم جرب الجنون في أحيان كثيرة حين كان يحاور أمواج البحر. ولكنه كان في كل مرة يعود أكثر شوقا لعبور تلك الحدود التي تفصل بين واقع الآخرين وما يتراءى له من خلال ذلك الصوت الذي ينبعث من قاع الشعور فيتعالى في هدوء ويشمخ في كبرياء ويصبح طغيانا يملك عليه إحساسه .

قال : لم يصدقني كل من أخبرته أنني أسمع صوت فتاة تنشد ألحانا عذبة قرب الصخرة ... كان صوتها ينساب برقة ثم يتدرج نحو الهدوء ويستحيل إلى همسات سرعان ما تختفي ... وكم وددت تحطيم الشك الذي انتابني أمام المرآة ... فكنت أتأمل نفسي وأتساءل : هل أنا أهذي ؟ هل فقدت صوابي وصرت أطارد  أشباح هواجسي ؟ كم أنا بحاجة لأبدد هذا الشك ... لكن لماذا رفضوا أن يصدقوا أنني مازلت أسمع ذلك اللحن ؟ فحين أسمعه أشعر كأنه يتدفق في شراييني، ويبعث فيها حياة متدفقة بالمعنى ......

يقول الآخرون إنه قد تغير، وكثيرا ما أشعره الآخرون من خلال كلمات المواساة ونظرات الإشفاق أنه في حاجة إلى طبيب أكثر من قبل، وكان هونفسه يعتقد أنه قد تغير منذ أن أصبح يسمع ذلك الصوت وأصبح أكثر ثباتا في الرؤية كما ينعكس ذلك من خلال رسومه وأن ما يرغب في التعبير عنه يتشكل على اللوحة بأكثر طلاقة وإقناع، ولم ينكر أحد أنه أصبح رساما جيدا منذ استماعه إلى ذلك الصوت الأنثوي الهامس .. وكان يتساءل : هل أن ذلك الصوت هو صوت الإلهام الذي يتشكل في مساحات السكون ؟ هل يكون بصدد الحلم حين يجلس على تلك الصخرة ؟ ولكنه في كل مرة كان يراجع أفكاره من جديد لكي يتذكر كيف بدأت حكايته مع عروس البحر، وبعد أن يعمل الذاكرة طويلا يتوصل إلى أن ذلك كان مند سنوات قبل ان يحقق شهرته ويعلن تفرده، وعندها تتداخل الرؤية وتختلط المواقف في ذاكرته ويمسي على غير يقين ...

كان يهوى الرسم ولكنه كان في كل مرة يمسك فيها القلم والفرشاة، يمنى بخيبة لأن الآخرين ينظرون إلى رسومه دون اهتمام، وأصبح يحس بالحاجة لكي يقنع نفسه بأنه لا يتقن فن استعمال الألوان، والتعبير عن الأحاسيس بالرسم . وكما قد يتحول الإنسان من مجال نشاط إلى آخر لأنه لا ينجح فيه كان يهيئ نفسه للإقلاع عن الرسم لكي يفتح لنفسه طريقا مغايرا . كان في البداية يرسم كل المواضيع بألوان صفراء ولكن كل المحيطين به نصحوه بالتخلي عن الرسم لأن الجرأة تعوزه . ..جاء اليوم الذي قادته فيه قدماه إلى الصخرة كما لو أن القدر قد قاده بشكل من الأشكال إلى موطن الإلهام، ومنذ ذلك اليوم، انقلبت حياته تماما ...

يذكر جيدا ذلك اليوم المشهود الذي اقترب فيه بدافع لاإرادي من تلك الصخرة . في ذلك اليوم نهرته أستاذة الرسم قائلة : لوحاتك باهتة، تنبعث منها رائحة الموت ! ... لا تواصل الرسم بروح سقيمة ! ..ظلت كلماتها تقرع أذنيه طويلا وتؤجج حسرته . غض بصره وقال بصوت منكسر : إنك تعدمين رغبتي في الرسم !  ..

وفكر في نفسه أنها تعدم فيه الرغبة في الحياة ... شعر أنه على شفا حفرة اليأس، فتوجه نحو البحر محاولا التركيز وتعديل أوتار نفسه المبعثرة . شعر بالذوبان أمام البحر، وانتابه الشعور بضآلته . فراوده الأسف عندما أدرك أن البحر سيد وجب استشارته عندما تتشعب الطرق وينسد الأفق، وكان كله يقين من تلبس وجوده بالرسم الذي استحال لديه رغبة جامحة وملحة في الحياة والتميز .

حين تأمل البحر تراءى له أول خيط يقوده إلى حلمه . وعندها انبعثت الهمسات التي تحولت إلى أغنية، كلمات نفذت إلى أعماقه . وها أن الهمسات الأنثوية توقظ فيه ذلك الحلم .. أغرته الصخرة فأمعن فيها النظر، وتأمل نقوشها قائلا : ـ" نقوشها تشعرني وكأن قوة آدمية قد عزفت عن تشكيلها، إذ بقي جزء منها دون نقش . ترى هل نقشت عليها مياه البحر تلك الرسوم بعامل الزمن ؟ "

تتبع الزخارف المرسومة على صفحة الصخرة باهتمام ودقة، فاكتشف صورة غير واضحة لعروس البحر سرعان ما بحث لها في خياله عن الخطوط الباقية التي لم ترسم ... أطلق تصفيرة لامبالاة وهو يستعرض سبب مجيئه إلى البحر . أوهم نفسه أنه مصمم على لقاء عروس البحر مهما كانت الشروط التي تمكنه من ذلك . قال بصوت مسموع يخاطب البحر :

ـ كم أود الإبحار في أغوارك لأبحث عن أغنيات تعتقل قلبي علني استشف سحر الحياة ! ...

كان يتخيل شكل عروس البحر وهو يتملى ملامحها الأولية على صفحة الصخر، وهو يكمل تفاصيل ملامحها في الخطوط التي تضيفها مخيلته، وهو يتمنى محاورتها، وتحسس ملامحها بأنامله، ولكنه في النهاية لم يجد تحت أصابعه إلا الصخر المتغضن الذي بدت له ألوانه متماوجة تحت أشعة شمس الاصيل . انصهرت صورة عروس البحر في ذلك الحلم الذي باغته مند أن اعتقلت تلك الأفكار مشاعره وحررته من جسده، واستحالت الصورة التي في خياله امرأة مضنية، يأسره هواها ويذيبه الشوق إلى رؤيتها . لقد بعثرته تلك الأحاسيس، وأوجدت في حياته نسقا مغايرا للحركة والنوم والرسم والحديث مع الآخرين . وبعد مدة اكتشف أنها قد انتشلته من المرايا التي كانت ملامحها تتعدد على صفحاتها دون أن يدرك أيها تمثله حقا، وبشكل من الأشكال أقنع نفسه بأن تلك المرأة قد نفضت عنه التربة التي تعلو ملامحه فأصبحت صورته الضبابية المتداخلة التقاسيم، أكثر تعددا وتلونا وتماوجا، وأصبح من الصعوبة بمكان أن تثبت في وضع يتمكن خلاله من التركيز على ملامحه كما يريد أن يكتشف نفسه من خلالها .

أدرك الصخرة الرابضة على شاطئ البحر، فجلس عندها مستمعا إلى الصوت العذب ينشد في هدوء وتأن الأغنية التي نقشت كلماتها في ذاكرته منذ استمع إليها في المرة الأولى . ثم تناهى إليه صدى صوت حزين :

ـ مجنون أنت يا من سلكت دروبنا ! ... من قادك إلى موقعنا ؟ هذا الدرب عفت عنه الأيام ومحوناه من الذاكرة، وضللنا من حاول الوصول إلينا .

تبين ـ أو هكذا خيل إليه ـ شعلة من الشجن تندفع من هذا الصوت الذي يحاكي أمواج البحر الصاخبة، فانتابته قشعريرة، وشعر بقلبه يغوص في قاع البحر وقد أدرك في قرارة نفسه أن الوجع يدفعه غلى المياه المجهولة . فشرع يقتحم أمواج البحر وقد أدرك في قرارة نفسه أن الوجع يدفعه إلى المياه المجهولة . فشرع يقتحم أمواج البحر، باحثا عن مصدر الصوت، وقال : " لقد استهوتني أغانيك الهامسة... ولكني لا أراك !..."

وما إن أتم كلامه حتى تجهم وجه السماء، واتسم بالكآبة، وسرعان ما استجاب الريح إلى ايقاع اللحن المتصاعد وقد اكتسب صرامة وثورة . انقذف تحت تأثير الإعصار إلى أسفل الصخرة ككرة من الصوف، وفقد الرشد، وحين استفاق لم ير جمالا يضاهي جمال البحر الهادئ وقد انعكست عليه أشعة الشمس وخيل إليه أنه يلمح عروس البحر أمامه وهي تسبح بحركات بارعة، فاتسم وجهه بالبشر وتساءل : " من أنت ؟ ..." انساب صوتها رقراقا :" أنا من أفقدتك صوابك وأدخلتك مملكتنا !..."

باغتته كلماتها فالتفت يمنة ويسرة وقد أيقن مدى صحة ما يسمع، ووجد أن الرمال قد اختفت، وتوارت الصخرة، وبقي وحيدا، سجينا داخل غرفة بلورية، تطوف بها الأمواج من كل جانب . تأملها جيدا فوجدها واسعة وقد رسمت على جدرانها كائنات بشرية غريبة، تبعث الرعب في النفس . وعلى الجدران أيضا، صور أشخاص يتم تعذيب كل منهم بطريقة مختلفة عن الآخرين . أخرسته المشاهد ومزق قلبه الشعور بالرهبة . فهذا قطع لسانه وذاك مزق قلبه، والآخر يشطر إلى نصفين والآخر يصلب ورأسه إل أسفل ...

أفرغ ذهنه من كل الأفكار، وتساءل بغرابة : " هل أنا في مقبرة الذكريات ؟ ..." شعر أنه يسقط في الهاوية . حاول التمسك بأي شيء، لكن الأفكار كانت تتسارع في مخيلته دون أن يقدر على تثبيتها لتأملها بشكل جيد، وكلما حاول الركض وراء ملامحه وجدها تتغير وتتبدل بسرعة أكبر .

انفتح الباب ودخلت عروس البحر . نسي مشاعر الرهبة والضياع وانفتح فاه منجذبا بجمالها ... ابتسمت ليزداد وجهها إغراء، ولكن ابتسامته لم تخل من الغموض وكأنها تكتم سرا دفينا . قال : " من أنت ؟ ولم سجنتني في هذه الغرفة المرعبة ؟ ... ولماذا هذه الرسوم المنقوشة كالأشباح ؟ ..."

ـ ألم أقل لك أن عنواننا خفي عن كل العيون وكل ما تراه مجرد مرايا للنفس ؟

أعقبت ذلك بكلمات عتاب لأنه كان غير قادر على أن ينظر أبعد من نهاية أنفه، ويتجاهل ما في وضعه من أشياء أكثر أهمية من الصور القاتمة . انحنت لكي تفتح كوة بلورية مرقت منها ثم أغلقتها وراءها ورآها تسبح بين الأمواج بزهو، وقد تراقص ذيلها في خيلاء . تابعها بنظراته وهي تتجه نحو الصخرة التي انفتحت لها فرآها تمرق من خلالها . وسمع الصوت الهامس :

ـ الجانب غير المنقوش من الصخرة هو الباب الذي تنفذ منه داخل النفس ! ...

شعر بطاقة غريبة تتسلل إلى عقله فتخدر وغاب في نوم عميق إلى أن بلل الماء وجهه فاستيقظ . فتح عينيه، وجد نفسه ملقى على الرمال قرب الصخرة وقد وقف عند رأسه رجل هرم إلى جانبه شاب في مقتبل العمر . ابتهل العجوز بالشكر إلى للإلاه حين رآه يفتح عينيه وابتسم الشاب كما لو أن المشهد قد أراحه . أخبره الشيخ أنهما قد أنقذاه .. لم يدرك ما تعرض له إلا بعد برهة . تذكر أنه كان يقتحم البحر، وكان الصوت يعلو أكثر كلما تقدم إلى الأمام . وشعر به يجذبه ويغريه بالتقدم ، ولم يكن قادرا على مقاومة الإغراء، إلى أن شعر بالغرق وتراءت له العاقبة المحتومة عندما أدرك أن قوة جبارة تمتصه وتبتلعه دافعة به إلى الأعماق .

 قال الشاب : ـ" لا تنتظر أن تجد من ينقذك إذا هممت بالانتحار ثانية !  .."

التحمت كلماته بتفاصيل وجهه الأسمر الذي عبثت به الشمس وصبغته مياه البحر .

لمعت في ذهنه صورة حاول أن يسترجعها من أحداث ماضية لكنه لم يقدر . قال :" لماذا لم تتركاني أغرق ؟ ما الذي قادكما إلي ؟ ..." . نزع الشيخ مظلته التي تعلو رأسه، فبدا شعره الأشعث وقال بترو : " أو تنوي إعادة الكرة مرة أخرى ؟ " .

فاجاه بنظرة واثقة وابتسامة عريضة وقال بترفق : ـ" لقد جئت لتأمل جمال البحر ...". ارتبك وعجز لسانه عن إتمام الحكاية وهوموقن أنهما لن يصدقاه، وقال بتلعثم : ـ" إثر ذلك حاولت السباحة ولكن .." . هز العجوز رأسه وقال في شك : " المكان لا يصلح إلا لسباحة الحيتان المفترسة . وقد تنهش جسدك إذا ما حاولت أن تقتحم مياهها مرة أخرى قبل أن تتمكن من الهرب ..." . ألقى الشيخ تلك الكلمات ومضى في خطوات متسارعة نحو اليابسة .

ـ أشعر بثقل في ذراعي فهل تساعدني ؟...

انحنى الشاب ومد له يدا متعاطفة، ثم أحاطه بذراعيه قائلا : ـ" اعتمد علي عند السير  ..."

ـ كثيرون لم يجدوا من ينقذهم .. هذه الصخرة تغري بالانتحار، فلا يمرموسم دون ان تغيب أحدهم ! ..

استطرد الشاب وهو يسنده : "حاول الكثيرون الانتحار قبلك، ولكن لسوء حظ البعض منهم أنهم كانوا يجدون من ينقذهم كلما حاول أحدهم إلقاء نفسه من أعلاها !.."

ـ أصحيح ما تقول ؟

ـ" نعم ...) وهز كتفيه دون اكتراث ( ... يقال إنها مسكونة لكنها خرافات من لا يجدون أشياء مهمة يملؤون بها فراغهم ... لم افاجأ أبدا ـ منذ أصبحت أدرك ـ بشيء غريب قربها ... كثيرا ماجلست فوقها طويلا في الليالي الحالكة السواد، ولكني لم أسمع عندها إلا صوت الأمواج الغاضبة ..."

ثم رتب على كتفه مواسيا : ـ" للوهلة الأولى ظننتك مجنونا عندما تناهى إلي صوتك وأنت تخاطب الفراغ !.... ثم لما أبصرتك تقتحم البحر في حركات جنونية . أدركت أنك في حالة غير عادية !.... دعوت أبي سريعا واستعنا بالقارب لإنقاذك !. لقد أخذ منا ذلك جهدا كبيرا ! عندما أخرجناك من البحر وسربنا بعض الهواء إلى رئتيك، أدركت أنك ستعيش احداثا أخرى !. ... على كل جهدنا لم يذهب هباء !...".

نظر إلى الفتى بريب وتمنى في قرارة نفسه أن يعود إلى الصخرة، ويقتحم البحر من جديد، وهو يسمع بقية صوتها يغيب معها عندما كانت تنفذ من الكوة البلورية، كان في لهفة للعثور على صاحبة الصوت .

انتهت الحكاية دون أن يمسك إلا ببقايا خيالات لا يعرف مدى صحتها . قذفه البحر كما يقذف زعانف الأسماك الميتة، في داخله كان صوت خافت يهمس له : ـ" لماذا تعاند في البحث عن المستحيل ؟".

ـ أنا لا أبحث عن كلمات بل عن وجود الآخر الذي يعني الحياة !... أنا أبحث عن ذاتي .. عن يقيني وعن !...

ـ لا حقيقة يمكن اكتشافها في الإبحار غير الموت .

ـ ولا معنى للوجود دون السعي وراء ما في النفس !. ...

ـ لم يتبد لك من هذا الإبحار إلا الجنون !.

من أعماقه تواصل الصوت هامسا : "حاول أن تخلص الذاكرة من رواسب الزيف ! تطهر من أحلام لا حقيقة وراءها وارسم لنفسك حياة ذات جدوى ! .."

ضغط على أذنيه ليستمع إلى أمواج البحر الهامسة حينا والصاخبة أحيانا، ومن مكان ما في الذاكرة انبرت عروس البحر تفجر الكلمات المطموسة بتأثير النسيان .. فشعر أنه قذف به في أعماق البحر وأحس أنه يغوص في هوة بلا قاع ..

كان في حاجة لكي يجد ذلك النزر القليل من التماسك لكي يتشبث بإحساسه بالأشياء من حواليه . ولكنه كان يغرق .. عبر عن شكره بكثير من الحرج والتلعثم لهذا الفتى الذي ما زال يسنده بعد أن أنقذه من الغرق . وكان تفكيره متشتتا وهو يقود سيارته، وقد تداخلت الصور في ذاكرته وصوت البحر الهائج يدق في رأسه والإعصار يتقاذفه . بعد رحلة العذاب، ها هو يستيقظ على وقع الحياة من جديد ولم يتوصل أن يفهم لماذا تدخل القدر  ليؤجل موته .

 

*****

كف عن التفكير حين لمح البحار الشاب يلوح له عن بعد . توقف وأسكت محرك السيارة ثم اتجه إليه . قال له البحار وهويصافحه قرب قاربه : ـ" ما بك شارد الذهن  كأنك تتصفح عالما غريبا عنك ؟ " . وجد من الصعب أن يشرح له شعور الإنسان الذي يتحرك في عالم وعقله مشدود إلى عالم مغاير .

ـ لم أفهم ما الذي جعلك تتحدى البحر الهائج في ذلك اليوم؟...

ـ راودتني يومها رغبة تمزيق العلم الأسود المنتصب كالحارس .. وما إن اقتحمت البحر حتى تجهمت السماء وانعكس لونها الرمادي على الأمواج ووجدت البحر يلقي ما في جوفه على السطح ..

ـ لا تنكر أنك تصرفت بتهور! ..

ـ لقد قيل لي أن عروس البحر تسكن ذلك المكان وتتراءى حين تتعالى الأمواج ..

ـ ترددت هذه الأسطورة منذ زمن لكنها مجرد خرافات ! ..

اعتاد أن يجلب جريدة لكي يجلس على الصخرة إلى جانب البحار الشاب، وقد يتحدث أحيانا عن أشياء أو عن أخرى . وقد ينقطع بينهما الحديث ويبقيان فترة يحدقان في الأمواج .. وأصبح كثيرا ما يأتي ليجلس إلى جانب البحار الشاب الذي يلقي شباكه  من حين لآخر متأملا أعالي الموج حيث تنعكس أشباح الأسماك وهي تظهر على السطح قبل أن تغيبها الأعماق . لم يترك له البحار الشاب أي فرصة للخوض في حديث عروس البحر من جديد . كان السؤال الذي يحرق صفحة لسانه : " هل يمكن أن تظهر مرة أخرى ؟ ...". بعد أن يتملى صفحات الجريدة طويلا يتركها للبحار الشاب الذي لم يكن يقرأ منها إلا "أحداث المجتمع" إذ يجد فيها موضوعا خصبا للحديث بينهما عن تلك الجرائم التي تبدو صورة أخرى لما يحدث بين الأسماك في البحر، ولكنه لا يرغب كثيرا في نقاش مثل هذه المواضيع لأنه يعتقد أن البحر ليس مجرد أسماك تنهش بعضها البعض، بل في مكان ما منه هناك ذلك العالم الذي قادته إليه عروس البحر، ولكنه موقن أن البحار الشاب لا يرى في ذلك إلا مجرد أسطورة لا أساس لها في الواقع، لذلك يفضل أن لا يتحدث معه طويلا عن نظرة كل منهما للبحر .

بدت له مواضيع الجريدة على درجة كبيرة من التفاهة، ألقى بالصفحات الملوثة بالحبر إلى البحار الشاب وقد اختلطت عليه الصور والشخوص والمواقف . وفي زاوية ما من ذاكرته ظهرت تلك الفتاة التي كان يأنس إليها وهي تعنفه قائلة :

ـ لا يكفي أن تكون كسولا وتصبح بعد ذلك شحاذا لكي تتوصل إلى ضمان حياة مشرفة .

ـ وما العمل ؟

ـ جرب الإبحار!

قطع عليه البحار أفكاره وهويقول :

ـ البحر مورد رزق لا ينضب . ولكن لا يلجأ إليه إلا من تظطره مرارة الفقر لذلك !...

ـ ومن يقنع "هدى" بصدق ما تقول ؟

ـ ومن تكون "هدى" هذه ؟

ـ "هدى" .. لم أرها منذ مدة ... فرت من جحيم أوهامي وغابت وراء الصخرة ..

أشعره صوت البحر بالانزلاق في الأعماق . أغمض عينيه وتذكر "هدى" التي كان يلتقي بها في معارض الرسم المتعددة، عبثا ظن أنها تقاسمه عشقه للفن التشكيلي، والمعاني التي كان يبدعها في لوحاته، والحلم بحياة مشتركة بينهما، لكنه علم أخيرا بتصميمها على الزواج من كهل مقتدر بعدما نعتته بالحالم المعدم ونعتت رسوماته بهلوسات لا ثمن لها، وعلقت على بحثه بأنه لن يقوده إلا إلى متاهات الجنون ما دام غير قادر على الإبحار الحقيقي ... أي إبحار تقصد ؟ لن يعثر في زاوية ما من ذاكرته على معاني المغامرة ... وجدها تقف عائقا أمام مواجهته لنفسه تماما كهذا البحار الذي يجلس قربه، يثنيه دوما عن تصديق ما عاشه حقيقة، ولكن كيف له أن يثبت ذلك ؟ هدى سبب تأزمه وما عليه إلا أن يجتثها كما تجتث الأعشاب الطفيلية ... نظر إلى الأفق بحيرة البائس وانتابته حالة الصمت العميق . كان صمتا يحوله إلى انغلاق على النفس، يعسر على البحار أو غيره إخراجه منه . اشتعلت في عينيه كتلة من المرارة وعكس وجهه مشاعر الأسى .. تفطن إلى أن جلوسه على الصخرة لم يكن مريحا، بدت له الصخرة متعددة النتوءات، وشعر بها تنغرز في جسمه كالمسامير . أيقن أن رجوعه إلى البحر لم يجعله ينقذف إلا إلى دوامة " كابريدس" . نخره الشك وبدأت الصور تتراكض في مخيلته وتتابع لكي يكمل بعضها البعض . وجد من الأفضل أن يختلي بنفسه لكي يراجع حساباته منذ لحظة تداعيات الحلم لأول مرة . انصرف ملوحا بيده، دون أن يلتفت إلى البحار الذي أمسك الجريدة وبقي يشيعه طويلا إلى أن غاب مع السيارة .

*****

قلب البحار الشاب صفحات الجريدة وقد أصبح يشتريها بنفسه منذ غاب ذلك الرجل الذي يهوى الحديث عن عروس البحر .

شدت انتباهه في ركن" أحداث المجتمع" صورة لوجه بدا له غير غريب عنه . كان وجه ذلك الرجل الذي يهوى الحديث عن عروس البحر وتحت الصورة تفاصيل عن قتله لصديقته "هدى" لأسباب تتعلق بهجرانه إياه .

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1289 السبت 16/01/2010)

 

 

 

في نصوص اليوم