نصوص أدبية

طوق الخزامى

في الصباح الغير باكر، تصايح ثلاثة رجال ملثمين لإنزال الجثة من على سرير طمرته الحجارة والأتربة، كانت لأبي خزامى بائع الورد الودود . كم تمنى  ذلك العجوز المسكين أن أقترن بأبنته الوحيدة، أن أكون بجانبه في محنته،إلا أن أوهامي كانت لا حدود لها، تشبه إلى حد ما أوهام من يقتني بطاقة يانصيب، والموافقة على هكذا مشروع كمن يضع العصي في دولاب دوار، ستنسحب عليه إخفاقات لها ما يبررها، تقودني على عجل إلى نقطة توقف نهائية وإجبارية هي محطتي الأخيرة حيث لا ارغب .

لم تكن خزامى في خارطة مشاريعي العبثية والانهزامية سوى محطة للتزود بأحدث بمبررات الهروب، ذلك الهروب الأحمق، والقابع في نهايات مدببة، لأشواك  طالما غرزت في أنامل خزامى الرقيقة وهي تهيأ لفافات الورد للزبائن، كانت تبتسم لوخزاتها الدامية، ففي قلبها ما هو أعمق وأغزر نزفا . حينها تثور ثائرتي لإصرارها على التحدي، اخترع قصص تخاذلية كاذبة، اسمعها لوالدها، ارويها بصوت مرتفع، علها ترمي لفافات الورد، أو تغضب، يتسلل اليأس إلى قلبها، تغادر المشتل . وفي نهاية ثرثرتي كانت تبتسم لتفاهة ما سمعته، تتناول بعدها ربطة من الزهور، تعمل منها لفافة على هيئة نخلة باسقة، تغطيها بورق السيلوفين، وتقدمها بابتسامة  لزبون ظل يجوب أرجاء المشتل هاربا من  سذاجة روايتي وعفونتها في بقعة تفوح منها روائح عبقة تدعو إلى الغبطة والانشراح، في حين يظل العجوز يضحك لدقائق دون انقطاع .

يخيل إلي وأنا أرى خزامى تقدم الورد للزبون، وكأنها أهدته قلبها، طوته بورقة السيلوفين وقدمته هدية له نكاية بي . يا الله، ماذا اصنع !!!، هل اخنق الزبون، أدمر الزهور، أشعل عود ثقاب بأغطية الورد، احرق المشتل، كنت ساعتها اركض وراء الطيور والعصافير كالمجنون، متذرعا بإتلافها للورد،أطلق صيحات وكلمات نابية غير مهذبة، اقصد بها خزامى وأبيها وأبي والزبون وعمه وخاله !!! . لا أريد احد أن يشاركني خزامى، حتى وان كانت الخزامى من الورد، هي لي وحدي، وهذا العجوز الذي اسمه أبوها يجب أن يتنازل عن حبه الخرافي لها، والذي أبقاه عازبا طيلة عشرين عام . ولكن، هذه الطالبة الجامعية الساحرة تفيض من الحب ما يصعب إخفائه في صدر فتاة لم تر أمها، وأب عجوز مقعد . هل الكبرياء الذي تسبح في فضاءاته صنيعتها ؟؟، أم هو محض افتراء لجذب الانتباه . ثم ما سر هذا التفاؤل الغامض في بيئة تلفها القسوة والضياع والمستقبل المبهم، أنتصر فيها الموت والحرمان والمجانين !!! . هل هو نوع من الرضا، أصرار على تحدي النكوص، ربما استسلام مقنع ... ك الذي يغمرني الآن حد الاختناق .. لا أدري !!! .

 عبثا أن استمر هكذا في تحديها، في غيرتي الجامحة من نجاحاتها، وفلسفتها الحياتية الثرية لما يدور حولها من نجاح أو إخفاق . لا املك سلاحا للتحدي، وليس لي قلبا كبيرا يؤهلني لخوض المنازلة كالذي يخفق بين حناياها . هي تنظر إلى العالم بمنظور يختلف عن ما أراه، وكم تمنيت لو كنت فعلا غريمها . أما هذا الاهتمام الذي توليني إياه اعتقد انه ينم عن عطف لا يخلو من بعد إنساني نبيل، وقد يكون حب هادئ لم تتبلور هيئته بعد في قالب المراهقة والذي تتعاطاه من هن في سنها، وغالبا ما يكون فاضح ومتهور .

في آذار المنصرم، دخلت المشتل خلسة، دون أن تشعر هي بقدومي . كانت تقرأ كتابا للشعر بين ألواح الورد، تردد قصيدة بصوت مرتفع، بدت لي وكأنها تغني موشح أندلسي بعذوبة متناهية الجمال، تلقنه للزهر وللطير ولفراشات توقفن عن الطوفان . أردت مفاجأتها، احتميت بين شجيرات الدفلة، كانت مضطجعة على بساط مخملي شفاف بين ألواح الورد، بدت وكأنها حورية مبحرة، فقدت بوصلتها، حائرة، متعبة، توقفت قليلا عند شواطئ خالية، نائية، مترامية الأطراف، تبحث بين رمالها عن سر جنوح الحياة. لم أشأ العبث بخلوتها، بل آثرت التمتع عن قرب بعذاباتها وصراعاتها الخفية الامتناهية، وهي تحاور قلقا أدمنته مذ نعومة أظفارها .

أنشدت بعدها بصوت خفيض، حزين وهادئ، لأحمد شوقي وأسمهان، ما أبكى الزهور واناح الحمام، لم أتمالك نفسي، أجهشت حينها ببكاء مر شل كياني، تركني ك جرذ جريح بين كومة الدفلة .

 

هل تيم ألبان فؤاد الحمام

فناح فأستبكى جفون الغمام

أم شفه ما شفني فأنثني

مبلبل البال شريد المنام

يهزه الأيك إلى ألفه

هز الفراش المدنف المستهام

وتوقد الذكرى بأحشائه جمرا

من الشوق حثيث الضرام

كذلك العاشق عند الدجى

يا للهوى مما يثير الظلام 

له إذا هب الجوى صرعة

من دونها السحر وفعل المدام

يا عادي البين كفى قسوة

روعت حتى مهجات الحمام

تلك قلوب الطير حملتها

ما ضعفت عنه قلوب الأنام

عند الغروب، توقفنا مشدوهين قرب ألواح الورد، نختار من بين ورود الخزامى، ما نصنع منه طوقا، نضعه على نعش العجوز . وحسب وصيته أن يغمر النعش بأصناف الورد، وان لا تتوشح خزامى بالسواد . كنت برفقتها ونحن نواري العجوز الطيب الثرى، وكما أخبرتني هي بالأمس، بعد أن اخفت خزامى حقيبة سفري بين شجيرات البرتقال دون أن ادري .

   

   مهدي الشمسي

17-1-2010

[email protected]

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1290 الاثنين 18/01/2010)

 

 

في نصوص اليوم