نصوص أدبية

رحلة البحث عن الهوية

شعورها بالرتابة، أو بحثا عن معنى يملأ الفراغ في ذاتها .

*****

 

السوق ضاج بحركة المارة والمشترين صباحا، وصراخ الباعة يتعالى لإغراء الناس باقتناء السلع المعروضة بثمن مناسب، فيبدو السمك قد جلب للتو من البحر واللحم مازال ينبض بحرارة الحياة والغلال قائمة على أغصانها ... والجنة في انتظار الشارين .

 

تسلل الخدر إلى جسدها الذي كان يسير بتؤدة تكاد دفعات الأيادي توقعه والأرجل تدوسه، تتعثر ولكنها سرعان ما تقاوم ارتخاء مفاصلها لتواصل السير. عينان ذابلتان مشبعتين بحلم الأرق الذي لم يفق بعد من شريط الذكرى. أنفها الدقيق يلتقط روائح الأسماك المعروضة على "منصات الدكاكين"  . سرت في نفسها رعشة الحنين إلى مراكب الصيادين، سرعان ما غمرت شعورها روائح غدير آسن لما صفعت الشمس تلك الأسماك فتخثرت وانبعثت منها روائح مقرفة .

*****

 

شعرت أن جسدها متخثر كسمكة مهترئة، وهي تحس به على عتبة الثلاثين على أبواب التحلل والتفسخ .. معنى ذلك عطن لا يدرك حدود الشك واليقين ... من يصدق أن زوجها بعد كل هذه المدة لم يتوصل بعد إلى فك عذريتها ؟.

*****

 

تتشابه وجوه الباعة وهم يرتدون مناديلهم البيضاء الملطخة بالدماء، هذا يهوى على اللحم بساطور ويكسر العظام، وآخر يضع الأسماك في قرطاس بحركات بهلوانية متتالية، والجميع في حالة حركة . أحست برغبة في التقيء، ولكنها ابتلعت ريقها المر وقد تحول طعم القهوة التي احتستها صباحا إلى حامض حارق . تساءلت :  ـ ما معنى أن يقذف الإنسان أحشاءه ؟ .. كان ذلك شعورها وهي تقاوم الدوامة التي تعصف بها . ألا يكون ذلك شعور بتلوث الحياة ؟ !

 

ما انفكت الروائح المقرفة تزداد عفونة والقطط المتربصة تحرك عيونها راصدة ما يتساقط من فوق منصات الباعة، وقد زادت رائحة السمك في تنمرها . ذكرتها تلك الرائحة برائحة جلود الخرفان المملحة أيام عيد الأضحى . أعين المشترين الجائعة تتفرس في البضاعة المعروضة . هذا يريد "حوتة" تن كبيرة وذاك اقتنى سمك "النازلي" الذي لا يمتلك أشواكا تؤذي أطفاله. وتلك المرأة التي تمضغ علكة "غمزت" للبائع لكي يوفي لها الكيل..غادرت هي السوق وفي حلقها بقية طعم الحموضة .

 

استقبلها ساحة " باب سويقة " ببناءتها الحديثة التي انمحت منها بقية المشاهد الراسخة في ذاكرتها منذ أيام الطفولة . شعرت بتكسر الحلم في أعماقها وتكثف الخدر الجاثم على كتفيها، طرفت عيناها من جراء أشعة الشمس الحارقة ... استوت الذاكرة مع الحاضر وسيطر عليها الشعور بالتعفن وتراءى لها في شكل ديدان تتحرك وتتناسل وتتكاثر، وفجأة ومض المعنى في فكرها وأضاء القلب المعتم بإشراقة الأمل يهيأ لها أن الخلق قد يتحقق من "حمإ مسنون" .

 

اتجهت إلى القباضة المالية لتقتني طابعا جبائيا من أجل تغيير بطاقة هويتها التي ما زالت تحمل صفة " آنسة " ... وهي تقطع الممر الشاسع المؤدي إلى سلم الصعود للطابق الأول، ارتجت الأرض من تحتها ثم عادت إلى ثباتها دون أن تنهار البناية ... كان عمق الانسلاخ عن الماضي أشبه باجتثاث تلك الصورة العالقة في هذا المكان، فقد شيدت القباضة المالية على أنقاض المقهى القديم الذي طالما جاءته رفقة أقاربها الصغار أيام عيد الفطر. في هذا المكان كان يحلو لهم التجمع لاقتناء ما طاب من المرطبات والمشروبات عند توفر نقود " المهبى" ... تدحرجت آخر حجرة في تلافيف الذاكرة وتوارى كل شعورها بالحنين إلى الماضي وانعكس وجهها غريبا في بلور الباب الكبير المؤدي إلى القاعة الواسعة . شعر  في شكل ظفائر خالية من أشرطة الطفولة الملونة . ملامح مجهدة تلبس الوجه الذي كثيرا ما بدا على صور أيام العيد ضاحكا ...

 

حاولت دفع الباب فلم تقدر وأحست بجسدها صغيرا كما كان يعدو في كل الأزقة عندما كانت صبية ... عندما لم تكن قادرة على دفع مثل هذا الباب . ثقل جسدها وانتابها الدوار ووجدت نفسها داخل الدوامة .

*****  

 

يستفيق الذهن النائم من ذهوله ويتوازن الجسد المترنح في حركته على الفراش، وبدأ المعنى الغامض يتبلور من خلال إدراك يتمرد على زيف الجسد المتداعي، أفاقت على صوت الطبيب يعلمها أنها حامل .

ـ حامل؟ ممن؟ ومتى؟

ساورها الشك في أن الطبيب يكلم شخصا غيرها . وأن ما حصل مجرد تبادل للأدوار . فهل يعي هذا الرجل الذي يتصنع الفرح عوضا عنها ما يقول؟!

طمأنها الطبيب: "اطمئني الجنين بخير! " 

حدقت في السقف وعيناها ما انفكتا تتفرسان في المجهول .

ـ ألن يولد مشوها كالحلم ؟!

رد الطبيب: "لكنه حقيقة مكتملة ، يحصل أن تلد امرأة عذراء، الأمر لا يتطلب إلا عملية جراحية  عند الولادة ! ".

 نخرها القلق، تراكم الذباب في ذاكرتها على الأسماك المعروضة، أطل وجه زوجها وكشر عن أنيابه وضحك ضحكة الانتصار الساخرة  مخترقة أسوارها المنيعة . تساءلت عن شكل الآتي، عن ملامح الطفل القادم وأسئلة أخرى لا تنتهي ...أسئلة تكبر كلما اقترب موعد الولادة .. من يدري قد تولد من رحمها طفلة جميلة كالقمر ؟ وأشرق الضوء على ستائر الغرفة الداكنة . اقتنعت أن المعجزة قد تصبح وضعا يتكيف معه الإنسان .

 

كان لها الكفاية من الوقت لكي تراجع كل الطريق الذي قطعته مع زوجها في رحلة البحث عن طفل .. لم يكن من السهل أن تقر بعجزه عن بعث الفرحة في منزل الزوجية بتوفير ذلك الطفل الذي يبعد عنهما الوحشة والكآبة .

 

كلما تذكرت كل الأدوية التي تجرعتها وكل الفحوص التي خضعت لها لكي يلازمها الشعور بحموضة الحياة ورائحتها اللزجة، اقتنعت أنه لا يمكن أن تصبح أما في يوم ما ... ولكن كل الفحوص كانت تنتهي إلى أنها كالأرض الطيبة التي لا ينقصها إلا البذر... ولكن كيف لزوجها أن يلزم التعقل وهي تسعى لإفهامه أن البذور الميتة لا تخصب ؟ ..

في النهاية .. قد تصبح المعجزة وضعا يتكيف معه الإنسان ... لم يبق إلا أن يقتنع زوجها بأنها حامل ! ...

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1290 الاثنين 18/01/2010)

 

 

 

 

 

في نصوص اليوم