نصوص أدبية

وطن...

"إذا انعتقت الرّوح وتعتّقت أشرق الوجه بنور ربّه وأضاء.." كان يذهب إلى الشاطئ لتحيّة الصباح والضّوء.. يشاهدها وهي تستحم في البحر ولا تنطفئ.. كان يسمّيها قرص الجمال وعرس الزّمان.. مشهد عجيب مبهر: شمس تتوهّج نورا ونارا.. بحر ممتد كأنه مرآة صقيلة ولا أصفى ولا أنقى.. لا البحر يشتغل ولا الشمس تنطفئ.. كان يتساءل في سرّه: ترى من علّمهما فنون التواصل والانسجام ؟!.. كأنّ بينهما برزخا لا يبغيان.. تبارك ربّي أحسن الخالقين.. يفتنه الأحمر الأرجواني فوق صفحة الماء ويستهويه.. فينزل البحر ويسبح باتجاهها.. يتماهى بهذا المشهد البديع.. ينعش به روحه العطشى.. يبارك تواصلا بليغا في سكونه قويّا في استمراره.. كأنه الحياة السرمدية.. فانظر.. ماذا ترى ؟! ..

مازال يذكر الإطار الذي علّقه والده عند سريره أوّل يوم ذهب إلى المدرسة – العلم نور – كأنه يريده أن يكون له تعويذ ه!؟.. عندما اكتشف الشاعر أوكتافيوباث وقرأ له: "وجدت نفسي قبالة جدار وفوق الجدار لوح كتب عليه: هنا يبدأ مستقبلك.." وجد في ذلك اتفاقا غريبا.. تذكّر آية المشكاة المعلقة في غرفة المعيشة.. كتبت بخطّ فارسي جميل.. كان يشعر بغبطة غريبة وانشراح لا يعلم مأتاه كلّما تأمّلها "الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة.." يذكر الملصق الجداري في غرفة الاستقبال "شمس وبحر".. تذكارات محفورة في الذاكرة كأنّها الوشم.. لعلّها تحوّلت إلى علامات مضيئة.. كان والده الخلدوني* يحب ترديد الحكم والمأثورات على مسمعه.. على قدر أهل العزم تأتي العزائم.. العلم يبني بيوتا لا عماد لها.. الناس عالم ومتعلّم.. إذا لم تشغل نفسك بالطاعة شغلتك بالمعصية..

فجأة تذكّر يوهان – إبنة الأرض الرائعة كأمها – تعرّف عليها في متحف اللّوفر.. يوهان دي كاربونيير طالبة فرنسية تتم دراسة المرحلة الثالثة في تخصّص البيولوجيا.. بادرته بالسؤال فجأة.. كما الأشياء المهمة.. تأتي دون إشعار مسبق.. لتأخذنا على سجيّتنا.. تداهمنا ونحن في غفلة من أنفسنا..

- عفوا سيّدي.. أنت إسباني؟..

- لا.. هل أستطيع المساعدة؟!..

- لطف منك شكرا.. ظننتك من الوفد الإسباني.. فهم يغادرون ويبحثون عن صديق لهم حسبتك هو.. المعذرة..

- هل أنت موظّفة بإدارة المتحف؟..

- لا.. أبدا.. أنا طالبة أدرس البيولوجيا..

- يظهر أنّك شغوفة بالفن..ّ؟

- نعم إني أجد فيه امتدادي الطبيعي.. وأنت؟

- باحث في الحضارة.. مهتم بالأدب المقارن و.. شاعر..

- رائع.. ياله من اتفاق عجيب.. لديّ نفس الاهتمامات..

- جميل أن تلتقي البيولوجيا مع الحضارة والأدب المقارن والشعر..

- لنقل هو أمر طبيعي.. باعتبار أننا أبناء الأرض.. كما أنني ذات أصول هندية ويونانية..

- أمر مبهر.. وكيف ذلك؟..

- جدتي لأبي هندية وجدي لأمي يوناني..

- لعلك تحملين في دماءك قبسا من طاغور وكازنتزاكي؟..

- قرأت لهما بعض الأعمال.. إنهما عظيمان..

- أرى في اختيارك دراسة البيولوجيا عودة إلى الأصل..

- أكيد.. يسعدني أن أجد من يفهمني.. فهل تسمح لي سيّدي بمرافقتك في هذه الجولة.. أنا هنا بمفردي..

بعد ساعة من هذا اللقاء نشأ ت بينهما ألفة.. كأنهما تعارفا على مقاعد الدراسة منذ زمان بعيد.. قال لها:

 - هناك أناس يتعارفون أفقيّا وهم الأكثر ..وهناك آخرون يتعارفون عموديّا وهم الأقلّ والفكر أقصر الطرق بيننا وبين أنفسنا وبيننا وبين الآخرين ..

- هناك أناس نشعر معهم بحميمية غريبة.. إنه سر من أسرار التكوين.. إننا في النهاية مجموعة ألغاز!..

أخبرها أن له ديوانا شعريا وبعض الترجمات والأبحاث.. وأنه محاصر بالالتزامات والواجبات التي تحول بينه وبين ما يحب..

أخبرته أنها تنوي الإقامة في الهند حيث يعمل والدها مهندسا متعاونا.. ولديها مشروع بحث عن الرموز في الفن الهندي..

طلبت منه أن يطلق عليها إسما عربيا.. سماها صباح الشيرازي.. أنت الآن أميرة شرقية.. فرحت حتى كادت أن تدمع.. استمرت علاقتهما وتوطدت.. عشقهما للإنسان ألهب فيهما محبة الفنون.. فكانا يزوران المتاحف والمسارح والمكتبات ومعارض الرّسم التشكيلي والنحت.. عندما تكون في صحبته كانوا ينادونها سيدتي.. مرة وبعد أن با لغ أحد الفنّانين في التّرحيب بهما لأنه رأى فيهما بعبارته معنى حيّا وجميلا أفضل من جميع رسوماته ودعاهما إلى الغداء في نزل فخم.. وقال وهو يودّعهما: أنتما مستقبل العالم.. كم هو نادر أن تجتمع هذه الصفات بهذا الانسجام في رفيقين.. قالت له: أشعر أني محظوظة لأنّي في صحبة أمير شرقي وأشعر أني محل تقدير بسبب ذلك.. ثم أضافت وهي تنظر إليه بحب كبير: كم أنا سعيدة بك يا عزيزي.. كانت تعبّر عن نفسها بلا تصنع وبعفوية ساحرة ولذلك كان حديثها يسعده..كانت طرازا فريدا من البشر.. جمعت بين وضوح الفرنسيّين واندفاعهم وروحانيّة الهنود وتواضعهم ودفء اليونان وحساسيّتهم.. ترى من علمها فنون التواصل والانسجام فكانت ذلك التركيب العجيب الأصيل النّادرحقّا؟ ..!.

 كان يجد في وجهها معنى يستعصى عن الوصف.. تقف اللّغة أمامه خاشعة صاغرة.. كان يجد فيها الأنثى الخالدة التي تشدّ إلى فوق..

حدثها مرة عن الشّابي وقدم لها قصيدته "يا ابن أمّي" منقولة إلى الفرنسيّة.. قرأتها مرارا.. بل قل غابت فيها.. ظهر عليها الانبهار والتأثّر.. قالت وهي تنظر في الفراغ: كم هو مؤلم أن يرحل عن الأرض شاعر بهذا الإحساس.. ثم أضافت كرجع الصّدى: لعل في ذلك حكمة؟! .. طلبت منه أن يسافر معها إلى الهند لتقدّمه إلى والدها.. كان آخر ما قالت وهي تحضن يده اليمنى براحتيها وتتملّى وجهه وقد انعكست عليه الأنوار في ذالك اللّيل الباريسيّ: هل تقبل أن تكون أمير حياتي.. يا من وهبتني إسمي؟ !..

وجد في خاطره عبارة ابن حزم الأندلسيّ: الحبّ أعزّك الله أوّله هزل وآخره جدّ دقت معانيه لجلالتها على أن توصف فلا تدرك إلا بالمعاناة.. المعاناة.. المعاناة.. المعاناة.. المعاناة.. ترددت في داخله كأنها الرعد.. في داخله شوق يتحرّك كالبركان إلى أبيه وأمه وأهله وأرضه.. تأتي عليه لحظات حنين تحوّله إلى قطرة ندى فوق وردة في بساتين الوطن.. كم قضّى من ليال بيضاء وهو يتحرّق من الوجد ويطلب من الله براقا.. متى يعود الغريب إلى بيت أبيه وأمّه.. متى يحضن أمّه ويشم من يديها رائحة الجنّة.. متى يملأ صدره من عطر الحبيبة ويقول: أمّاه كم أوحشتني.. متى ينام على صوتها ويفتح عينيه على صلاتها ودعائها.. متى يحضن والده ويمرّغ وجهه على صدره الأبويّ.. يملأ رئتيه من مسك الحبيب ويشمّ رائحته الرّجل الشريف.. متى يعانفه ويقول: كم أوحشتني يا أبت.. رفع والده يديه إلى السّماء وقال خاشعا: الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده.. اللهم أنت الصّاحب في السّفر وأنت الخليفة في الأهل.. يا خير صاحب ويا خير خليفة.. الحمد لله على عودتك إلينا يا ولدي..

قضّى يومين يقتفي أثر طفولته الهاربة.. يتتبّع الجداول.. يتسلّق الصّخور.. يصافح الضّوء والظلّ يحتفي باللون والطيف.. كأنّه يبحث عن شيء لا يسمّى.. ضاقت به كل الأسماء وما احتوته فهي تسمّى به وهو لا يسمّى بها.. تذكر عبارة قالها والده.. وما أكثر ما كان ينطق بالحكمة: "سعيد هو الذي تعلّم كلمة الله وكلمة الرّومي.. سيتنعّم بجنّتين: جنّة الفوق وجنّة التحت!.." كأنه تنبأ أنّ ولده سيحبّ الشاعر الكبير جلال الدّين الرومي؟! ترى من علّمه فنون التواصل والانسجام ووهبه تلك البصيرة النافذة؟!

نظر إلى الأعلى دعا لوالديه في سرّه: ربّ ارحمهما كما ربّياني صغيرا وأدمهما لي تاج عزّ وبخت في الحياة.. تذكر أنّ صديقه بهاء الدين الفنان التشكيلي دعاه لحضور افتتاح معرضه.. يعرف عنه حبّه الكبير والقديم للرّسم وتقديره الخاص لفان غوغ وكلود مونيه.. رآها تطلب دليل اللوحات.. أحسّ فيها شيئا يجتذبه.. يستهويه.. شاهدها وهي تنتقل من لوحة إلى أخرى.. كأنها فراشة الحلم في ربيع العمر.. مرت بجانبه.. نظرت إليه وعلى شفتيها طيف ابتسامة.. قال لنفسه : "إنّ القوة الحقيقية هي ابنة العذوبة كما أنّ اللّّين الحقيقي هو من نتائج العزم.. هذا ما تعلمته من ميكا ل أنجلو.. الرجل الذي صنع من الرخام طائفة من الجبابرة دون أن يفقدها العذوبة حتى الدرجة القصوى.." تقدم خطوتين.. رحّب بها.. سألها رأيها في اللّوحات المعروضة.. عبّرت عن إعجابها بتركيبة الألوان وباختيار زاوية الإبصار وتداخل الضوء والظلّ.. لم يظهر عليها أيّ ارتباك أو تردّد.. إنّها تمتلك ذاتها بشكل مذهل مما شجّعه على متابعة الحديث معها.. قال لنفسه: "هناك نوعية نادرة من الناس لا نعترضها إلا مرة واحدة في العمر.." إنها الخبرة بالحياة والأحياء..

- هل أنت رسّامة؟

- رسّامة وطبيبة..

- كم يكون جميلا لو تسقط الواو فتتماهى الصفتان وتصبح صفة واحدة.. رسّامة طبيبة..

- كما تشاء.. فأنا منذ الآن رسامة طبيبة بلا وسائط.. وأنت؟

- باحث في الحضارة و.. شاعر.. كما أنّ الفنان بهاء صديق عزيز جمعنا حبّ الرّسم منذ سني الدراسة الابتدائية..

تعارفا بكلام قليل.. وافترقا على أمل اللّقاء وفي العينين بقيّة من معنى بعد أن أعارها كتابا جمع مذكّرات ورسائل فان غوغ..

كل ما فيها مشبع باحترام الذات.. مشيتها.. أناقتها الهادئة.. نظرتها المتحفظة.. ألوانها التي تخاطب القلب وتوحي بالسّكينة والثقة.. كان دائما يعتقد أنّ لكل إنسان شيئا من داخله في خارجه وشيئا من سلوكه في فكره.. كل شيء يظهر ويعبّر عن وجوده بطريقة أو بأخرى.. بقي أن نتقن لغة الرّمز.. أقدم لغة وأحدثها في آن.. لغة أرستقراطية وبسيطة يدركها هؤلاء الذين قذف الله في قلوبهم نورا فأضاؤوا.. لغة الماضي والآتي بإطلاق.. اللغة العالمية كما الموسيقى..

تواعدا أمام العيادة.. نزلت من سيّارتها.. رحّبت به بحرارة ظاهرة.. استقرا في السيارة.. قالت وهي تغلق الباب:

- كتابك أطفأ فيّ عطشا قديما وأشعل فيّ آخر أحس أنه أشدّ..

- أنت قارئة ممتازة.. لو كان فان غوغ معنا لسره ما قلت..

- إنها الحقيقة .. كم هي قليلة حقا الكتب التي تحدث فينا هذا الانقلاب!..

- الكتاب لك.. وقد برهنت أنك جديرة به..

- لا أجد كلاما أشكرك به.. أشعر أنّ الصّمت أبلغ..

- صمتنا أبلغ ما فينا ؟ !..

نظرت إليه نظرة طويلة عميقة.. لفهما صمت كأنه غفوة طفل في حضن أمّه..

- أقترح أن نذهب إلى الميناء الترفيهي.. يعجبني ذلك المكان .. أحس فيه براحة عميقة وسلام أفتقده..

- لعله يمنحك إحساسا بالانطلاق.. فالإنسان كائن منطلق..

لم تنتظر إجابته وانطلقت.. يشع من عينيها فرح غريب..

قال لها وهما يقتربان من الميناء والشّفق يصبغ الأفق بالأحمر القاني ونسيم بارد يتسلل عبر النافذة:

- أنت طبيبة بالفرشاة ورسّامة بالسمّاعات.. تسمعين بها صخب الألوان والأشكال والملامح تسبرين بها غور الذات والموضوع..

- كلامك ينير في داخلي مناطق خصيبة غير مأهولة..

- تلك المناطق يسميها أندريه جيد: "حصّة الله" "La part de DIEU"

- إنّك تقيم جسرا بين مهنتي وهوايتي كان يجب أن يقام منذ وقت..

- أنطوان تشيخوف الرّوائي الروسي كان في الأصل طبيبا وكان عند المساء يغلق عيادته ويتفرّغ للكتابة.. يخلد لعدد لا يحصى من الأصوات والملامح والرّؤى كانت تزدحم في جمجمته.. ولعله كان يكتب رواياته على نفس المكتب الذي يكتب عليه وصفاته.؟ !.

- لعله هو الذي قال: "الطب زوجتي الشرعية والكتابة عشيقتي..؟ !"

- نعم إنه هو.. ليته حّد بينهما .. فما أجمل أن تبقى الزوجة عشيقة وتصبح العشيقة زوجة.. ذلك أن القلب لا يعترف بالحدود والتخوم وقد قال وليم فولكنر: "مشاكل القلب الإنساني في صراعه مع نفسه هي المصادر الأصليّة للكتابة..".

- أمّا أنا فأبدو محظوظة.. لقد أشهدت شريكا متميّزا وحدّ بين مهنتي وهوايتي.. أعاد الواحدة إلى الأخرى.. فهنيئا لي..

- لعلّ تشيخوف فعل ذلك.. بل هو أمر مؤكد.. إنها فقط طريقة في الكلام.. لقد كان روائيا عظيما صنع جنّته الداخلية واحتمى بها وحقق توازنه النفسي وهو أصعب شيء عند الفنانين.. والآن.. هو يعرف كروائي لا كطبيب.. الهواية كتبت له الخلود.. إنها حصّة الله ومن يحيها تهبه الأبدية..

عند العودة سلّمها رواية ناظم حكمت: "الحياة جميلة يا صاحبي" وافترقا على أمل اللّقاء.. كان يسمعها وكأنه يرى نورا يشعّ منها.. يشعر معها بامتلاء عجيب.. إنه سرّ من أسرار التكوين.. إنّنا في النهاية مجموعة ألغاز.. كلمات تردّدت في داخله كأنّها الصدّى!؟..

- لقد استبدّت بي هذه الرواية.. يظهر أنك تنتقي قراءتك بدقّة متناهية..

- كيف تقرأ.. ولماذا تقرأ أهم ما في المسألة.. وما تفهمه من الكتاب فهو لك وما لا تفهمه فهو لغيرك.. هكذا قال ميخائيل نعيمة..

- أبطال ناظم حكمت متميّزون.. لقد تعاطفت معهم وأحببتهم..

- إنهم ليسو غرباء عنّا.. إنهم نحن.. فالإنسان هو الإنسان في توقه وطموحه..

- قرأتها في وقت قياسيّ.. وأنوي قراءتها من جديد..

- لا غرابة في الأمر.. فصاحبها هو من قال : "إن أجمل الأطفال لم يولدوا بعد .."

- لماذا لم يولدوا؟!..

- لأنهم أبناء النور!؟..

- وفي العالم بقية من ظلام بعد قرنين من اكتشاف الأنوار! إنها نبوءة شاعر عظيم.. عجيب أمر هذا العالم عندما يعرض عن منابع النور في الآفاق والأنفس!..

- إذا لم احترق أنا.. إذا لم تحترق أنت.. فمن ينير ظلمات هذا العالم؟!.. هكذا تكلّم ناظم.. فسلام عليه في الخالدين..

- سلام عليه في الخالدين..

من الغد اتّصلت به عند الظهيرة:

- أريد أن أراك.. أصبحت مدمنة على حضورك.. معك أشعر بالتوازن وبأشياء أخرى لا أجد لها إسما.. صباح اليوم وأنا متوجّهة إلى العيادة عرفت لماذا أجد في حديثك تلك الحميمية الآسرة.. إني أجد في حبال صوتك أحلامي..

- ترى بأيّ عين وجدتها؟!..

- بعين القلب !!.؟..

كان يشعر أنها تطيل إليه النظر كلما اجتمعا.. لم يكن يكثر من الحديث.. ألحت عليه مرة أن يسترسل في الكلام فقال:

- من يربط الكلام بالفنّ يمتلئ بالسكوت.. بلاغة الكلام وهو يضطرب في الصّدر كأنه الصّبح يريد أن يتنفس.. وبقدر ما تقتصد فيه.. بقدر ما يضيء.. إياك أن تهبي صبحك لمن لا يستنير به ولا يستحقه.. الكلمة حياة ومن يفرط في استعمالها يبتذل الحياة. !.؟

سألته مرّة: حدّثني عن شعرك وكتاباتك؟..

أجاب بعد برهة كأنه لم يسمع سؤالها!..

- الكتابة فعل بحث عن الوطن..

- أليس عندك وطن؟!.. ألم تحدثني مرة عن أمجاده؟!..

- أعني وطن الروح الذي يحوي أخصّ الخصوصيّات وأدق الانفعالات.. يحفظ أشياءنا الحميمة اللّصيقة بالقلب.. وطن لا نحتاج فيه إلى الكلمات لنتواصل.. القصيدة الحقيقية هي التي تكتبنا.. لا تلك التي نكتبها.. وأجمل القصائد تلك التي تستعصي على الكتابة.. تظل مبثوثة كأنها النور المنبعث منذ الأزل والمشعّ في جميع أرجاء الكون.. الشاعر يا عزيزتي كائن أسطوريّ يتغلغل في الحلم ولا يرضى عنه بديلا.. إنه وطن المطلق.. وطن الممكن ومن يقترب منه يُصَبْ بالسكته ويكل لسانه!..

إنها المرة الأولى التي يتحدث فيها بهذا التدفق والاسترسال.. التفت نحوها ليرى أثر كلامه عليها.. كأنه أفشى سرا ما كان عليه أن يفشيه.. وجدها تنظر إليه بذهول وانخطاف.. حوّل بصره نحو الأفق البعيد.. رأى نورسا يحلّق في الفضاء الرحب.. باخرة تغادر الميناء.. صوتها يؤذن بالرّحيل.. يثير في النفس إحساسا كأنه النّزع.. أمسكت يده اليمنى.. احتضنتها براحتيها الدافئتين.. قالت:

- أنت أحلى وطن..

بدا غير منتبه لما قالت.. فقد كان يسيطر عليه ذهول مصده المخّ..

نظرت إليه.. نظر إليها.. تمازج بريق العينين.....

تعانقت النظرتان في وداعة وحميمية آتية من زمان سحيق كأنه الأزل.. خشع المكان .. احتفل النسيم بهما.. كأنه يشهد بدء الخليقة.. كان يراها بعين القلب.. كأنه تلمّس وجهها بأصابع الحلم في زمن قديم.. ملامحها تنبع من داخله.. دفق أنس ومودّة وسكن.. اقتربت منها أكثر.. تأمّلها جيدا.. فإذا هو يرى في عينيها الجميلتين شيئا كأنه الدموع..

 محسن العوني

.....................

*نسبة إلى المدرسة الخلدونيّة بمدينة تونس

 

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1290 الاثنين 18/01/2010)

 

 

في نصوص اليوم