نصوص أدبية

"خطوات القط الأسود"

تناهى  إليها بكاء إبنها في غرفته المجاورة، أحست بالقلق من سعال إبنها المتقطع، أزاحت ستار الباب قليلا لتطل على الحديقة. الريح ما انفكت تولول عاصفة بالأغصان، إبنها يتقلب على الفراش ويبكي. حملته بين ذراعيها وهدهدته متفحصة وجهه الشاحب الذي اختفى عنه كل تعبير. أحست أنها سجينة في ساحة محاطة بأسوار تتوسطها بوابة ضخمة مغلقة. طالما تاقت للخروج إلى الشوارع ذ ات الحركة الدائبة.

جسد إبنها يهتز بين ذراعيها. بدا وجهه تعبا كوجه أبيه كما بدا لها في المرة الأخيرة عندما التقيا. تذكرت زوجها الذي تركها تواجه وضعها بمفردها بعد أن رفضت الالتحاق به إلى"كندا ". أمها غادرت البلاد أيضا ولم تعش بين أحضانها إلا عقدا من الزمن، افتعلت الخصام المتكرر مع زوجها لكي تطلب الطلاق وتلتحق بأفراد عائلتها ب" ليل" في فرنسا. والدها قرر إثر زواجها  العيش في الريف وترك لها المنزل.

سمعت مواء قط. أطلت من الإطار البلوري لتلمح قطا فاحم السواد، امتعضت واتجهت بنظراتها نحو إبنها. عادت بها ذاكرتها إلى حكايات أمها وهي تطرز اللحاف ذات مساء. كانت تتحدث عن ذلك الجني الذي يتقمص صورة قط أسود، ازدادت التصاقا بأمها وهي تمرر أصابعها على أثر مخالب القط على ساقها عندما داست ذيله دون أن تتفطن إلى وجوده إلى أن أحست بوخز الإبرة في جلدها. سعال إبنها يزداد حدة ومواء القط يزداد إلحاحا وهو يخمش الباب.

صرخت به من وراء الباب طاردة إياه، لكنه بقي يرمقها بعينين متوحشتين. لم تفهم لماذا اهتمامها بهذا القط السائب وحرصها على طرده؟ ! أخرجها خيال الطبيبة المتقدم من الباب من تساؤلاتها وسارعت بفتح الباب لها، وما إن انفتح الباب حتى انفلت القط داخلا وعلقت الطبيبة على ذلك قائلة " إنه يبحث عن الدفء ! ". فحصت الطفل وقامت بحقنه وكتبت لها وصفة الدواء مطمئنة إياها ككل مرة ثم انصرفت.

تبددت كثافة القلق وتقلصت وخزات البرد وهي تتجه نحو الصيدلية بعدما أخرجت القط وهو ما انفك يلتصق برجليها ويموء. حين قطعت بعض الأميال وواصلت الصعود في اتجاه الشارع الرئيسي سمعت مشيا حثيثا التفتت فإذا به القط الأسود.

صارت تلتفت إليه من حين إلى آخر وهي تقطع الطريق شبه الخالي. توقفت فوقف، انعرجت إلى اليمين فغابت خطوات القط عن سمعها. اقتنت الدواء وعادت مسرعة، ولم تكد تبلغ عتبة المنزل حتى تناهى إليها رنين الهاتف، أسرعت الخطى ورفعت السماعة وهي تلقي نظرة فاحصة نحو إبنها. وصلها الصوت أليفا.. كيف لا وهو صوت أمها المتهدج، أمها الغائبة منذ زمن، تعلمها أنها تخاطبها من" تونس" وتريد رؤيتها في مكان تختاره وفي وقت يناسبها.

نظرت إلى الساعة فوجدتها تشير إلى الثانية والربع بعد الزوال فردت بلهفة : " نلتقي في آثار" قرطاج" على الساعة الثالثة "، انقطع الخط فاتجهت نحو إبنها تناوله الدواء وطلبت من سكينة شقيقة زوجها أن تمكث بجانبه وتعتني به ريثما تعود. انجرفت إلى شعورها بالحنين نحو أمها متناسية حاجة إبنها الملحة إليها.

 

امتطت سيارة أجرة فوصلت إلى قرطاج قبل الموعد المحدد. لم تتساءل لم اختارت أن تلتقي والدتها في هذه المنطقة الأثرية، ف "قرطاج" أعمدة ثابتة تشدها. رجلاها تخطوان برفق، تتمرغان في التراب المبلل.. بين هذه الأعمدة كانت تقضي أوقات فراغها، تتأمل صور ذكرياتها وهي تتصفح مشاهد عاشتها رفقة والدتها وهي طفلة. هذا المكان مرآة لرجليها تتوقان للحركة، تبحث فيه عن وجه أمها الغائب.. كم مر من الوقت وهي تترقبها؟ الساعة تجاوزت الثالثة : لم لم تأت؟ هل نكثت وعدها؟ هل أوهمتها بالقدوم؟ غيابها شارف عقدين من الزمن، لقد أقسمت على الرحيل دون عودة إثر طلاقها... هل تغيرت ملامح وجهها؟ الأعمدة الجاثمة تكسوها الخدوش والندبات.. وجه أمها هل شوهته التجاعيد؟

أصابها الصداع وهي تخمن عزوفها عن المجيء.. الدوار يهدد ثباتها... الأعمدة الدائرية الشكل تشدها الأرض ولا تشد سقفا. وضعت يدها على ذقنها وطفقت تتأمل الخطوط المنحنية المرسومة أوشاما على الأعمدة.

الرذاذ المتساقط جعلها ترفع وجهها نحو السماء.. السماء عيون قلقة. قسماتها الرمادية غامضة كشفت لها وجه أمها وهي تقف أمامها كتمثال صخري. نظرت إليها طويلا. تسللت إلى أعماق عينيها فراودتها ومضات الذكرى. استمعت إلى ألحان حزينة، وقرأت قصص خلدها التاريخ وترك بصماتها كآثار نحتت على وجهها الذي يفيض إيحاء. قرأت بين طياته ثورة على ما حسم. إثر تلك النظرات الخاطفة اندفع جسدها نحوها كرضيع يكتشف جسد أمه ويبحث عن اللذة الأولى، لذة الالتقاء، استواء الأجساد المنفصمة، التحام الروح المنشطرة. تراءت لنفسها طفلة تمسكها أمها بين يديها وتديرها. تنتشي وتضحك.. وجسدها يحلق في حركات دائرية تتمنى أن لا تتوقف. رفعت وجهها نحوها لتشرح بهجتها بلقائها وحركات يديها تندفع إلى الأمام فبدت كراكب يحرك مجداف قاربه.

لمحت شعلة من المتابعة الدقيقة لحركاتها، ورصدت عينين ترقبان مجريات الأمور بأدق ما يكون، لكنها لم تعقب بكلمة. وظلت تتفحصها بعمق، كانت تغطي رأسها بشال حريري أسود وترتدي بدلة داكنة. غطت عينيها بنظارات سوداء فأخفى وجهها المتجمل بالمساحيق تعابيره.

قالت: السماء المتجهمة تنذر بنزول الأمطار فلنسرع إلى السيارة.

  السيارة الفخمة تشق الشوارع بسرعة جنونية، تلاحق المجهول بتهور، تدحض كل رغبة في الحديث، لا تعبأ بالأنهج والبناءات والمارين. تجتث الحنين إلى الماضي، إلى تفاصيله، إلى تصاميمه الهندسية، إلى قباب المنازل. أمها تقود السيارة بسرعة فائقة وأصابعها مشدودة إلى المقود. كم هي جميلة أمها رغم تجاوزها سن الخمسين، ملامحها ظلت شابة أما وجهها الجذاب فقد بدا كوجه دمية من الشمع. عطرها الفاخر ينبعث كطقس ثائر...

كانت أمها تحبذ أن تركض وراءها بين أشجار اللوز والبرتقال والليمون. أوقفت السيارة إلى جانب الطريق، تناولت سلة بلاستيكية من المقعد الخلفي، وأخرجت منها مغزلا قائلة: "أتذكرينه؟ كنت تجلسين طويلا قرب جدتك وترقبينها وهي تغزل الصوف، شغفك به جعلني أحمله معي وأحتفظ به ". أدركت أن أمها جعلتها تواجه حلما مكررا وتعيش حالة بحث عن أشياء مفقودة.. المغزل لم يبد لها قديما. يبدو أنها اعتنت به وحفظته من التلف كما حافظت على نضارة وجهها المشرق الذي تحول إلى قمر مكتمل.

أرادت "هدى" أن تلج خيط الماضي في إبرة الحاضر فدعتها إلى منزل العائلة لتتعرف على حفيدها فردت بآلية : ـ سأوصلك ثم سأعود ليلا، فأنا مضطرة الآن لتسوية بعض الشؤون العالقة.

.. أمام المنزل لمحت القط الأسود يحرك ذيله. انقبضت وأسرعت نحو إبنها فوجدته يغط في نوم عميق. فحصت جبينه وتنفست الصعداء إذ تقلصت درجة الحرارة المرتفعة.

طمأنتها "سكينة": "لقد غيرت ملابسه وناولته طعامه"

اتجهت إلى المطبخ فتأكدت أن لديها ما يكفي من الأكل...

 *****

تهاوت على الكرسي وشرعت تقرأ كتابا حول" نظرية الأحلام"  ل "فرويد" إذ تقيأت بعض الكوابيس. انعكس الليل على الإطار البلوري للباب. انغمست في القراءة، لكن انقطاع الضوء الكهربائي جعل الظلام يخيم على الغرفة بوجوم غريب. بحثت عن علبة الكبريت في جيبها فلم تجدها. تذكرت أنها وضعتها على الطاولة. تلمست طريقها نحوها وحين اقتربت وهمت بتناولها، ارتطم مرفقها بالمزهرية فسقطت وتهشمت. ابتعدت قليلا عن الشظايا الخزفية المتناثرة وأخرجت عود الثقاب لإشعاله فتراءت لها كوتان من الضوء تسرعان في الفضاء البعيد كفوانيس غير مشدودة إلى أعمدة، خالتها للوهلة الأولى شهبا تجري نحو مستقر لها. ظلت تقترب وتقترب إلى أن استقرت في الحديقة تحت شجرة الليمون التي تطل على الغرفة، ثم ثبتت نحوها ترمقانها بتوهج. استنارت بالأشعة التي انتشرت بكثافة. تبينت موقع علبة الشموع فأشعلت شمعة وضعتها قرب فراش إبنها في الغرفة المجاورة ثم فتحت الضوء. سرعان ما اختفت محدثة أصوات ركض..

عادت بسرعة إلى الغرفة فسمعت خطوات تقترب. تقرع الأرض وتحدث دويا كصوت الطبل. التفتت فرأت شابا، أطل وجهه متفحصا. عيناه البرقتان أشبه بشمعتين، استرسل منهما بصيص من النور. جلس على كرسيها بلا مبالاة ثم تناول سيجارة.. انبعث دخانها كثيفا وامتزجت رائحته الخانقة برائحة الجعة التي يبدو أنه تناول منها كمية هائلة. أحست بالقرف والغثيان. جالت نظراته في كامل أرجاء الغرفة كمن يبحث عن شيء معين ثم ركز عينيه المشتعلتين أسئلة نحوها.

صرخت: ـ من أنت؟ وماذا تريد؟

لم يجبها بل أخرج زجاجة من " الويسكي " من معطفه ومدها لها قائلا :

ـ إن أردت أن يكون علاجك مجديا فاشربي جرعات من هذا "الويسكي " الرفيع. لا تنظري إلي هكذا فلن يؤذي معدتك، هيا نفذي ما أقول !

ـ لكنني لست سقيمة ! هل تلاحظ علي علامات المرض؟

ـ كلنا في هذه الحياة سقيم.. فلتجربي العلاج.. هيا.. تشجعي..

نظرت إليه بشك لكن حاجتها إلى الوهم جعلتها تتناول جرعة كبيرة والشاب يتابعها باهتمام، ثم طلب منها أن تجلس على الكرسي وتغمض عينيها  مبينا أنه سيفعل نفس الشيء. انغلق الظلام على ذاته حين أغلق الغريب عينيه وانطفأ وهج الشمعتين.

ران صمت طويل وكأن كلاهما يريد أن ينتزع جذوة الحديث من الآخر. قال: ـ" ألا تشعرين أنك صاحية الذهن وأنك تنزلين درجات السلم لتجمعي صور ذاكرتك وتتكلمي.. هيا فلتجربي الهذيان.. احلمي.. احلمي وفسري لي ما ترين".

صار جسدها ثقيلا. جثمت على الكرسي فكادت تسقط إلى الوراء. اقترب منها الرجل. نزع حذاءها، فنهضت لتتجه نحو السرير وقد شعرت بوخزات شظايا المزهرية. صرخت متألمة ثم جلست على الفراش وأصدرت آهات متقطعة وانبرت تتمتم :

ـ كل المرضى الذين استرخوا على هذا السرير لم يصرحوا لك بالحقيقة وأنا مثلهم.. فلتغادر العيادة من غير رجعة.

واصل الشاب تهكمه وهو يعلمها أنها انقلبت من مريضة إلى طبيبة، وطلب منها أن تخلع منديلها الأبيض، وتستلقي بارتخاء، ثم ركز رأسها على الوسادة في اتجاه زاوية الغرفة وكأنه سيلتقط لها صورة،  ففاجأتها أسارير وجهها وهي تتشكل في أشكال شتى : انبسطت، انكمشت وتقلصت، فضحكت وذعرت وصمتت. مرت هذه الحالات بسرعة خاطفة، فقهقه ضاحكا : ـ " ألم تقضي جزءا من حياتك تقلبين كتب علم النفس باحثة عن تفسير لأحلامك وأنت تنتقلين من حالة إلى أخرى. هيا انهضي من حلمك الآن ! "

ناولها زجاجة الويسكي ثانية فأبعدتها قائلة :

 ـ أريد أن أنهض أنا مشحونة بالبوح، أريد أن أتكلم كي تسمعني، أريد أن أقلب الدور الذي جسدته داخل هذه العيادة.

 عندها جحظت عيناه وفتح يده مبديا أظافره الطويلة لتنهش جلدها. كادت تمزقه وتنتزع لحمها، فصرخت.. تحسست أصابع رقيقة تداعب خصلات شعرها برفق، فتحت عينيها فوجدت أمها بجانبها،  "حملقت" فيها وقد ساورتها الريبة.

*****

قالت الأم: ـ " أهو كابوس الرجل الذي يتحول إلى قط؟ "

ـ نعم وكيف علمت؟

ـ ألم تذكري حكاياتي حول ذلك " الرهبان الوصيف 

ـ بلى !

ـ يقال إنه فال خير وبشارة بالسفر والثروة.

مسكت رأسها بكلتا يديها وتساءلت :

ـ هل تراءى لك في صورة قط أسود؟ !

ـ لقد كان سبب رحيلي عن هذا المنزل، وكاد يؤدي بي إلى الجنون حين كان يراودني ككابوس متوحش.. ولكن بعدما سافرت أيقنت أنه "  رهبان " كريم.

 وضعت يدها على جبينها متذكرة شيئا لم تقله :

ـ لقد أحضرت المغزل معي كي لا يؤذيك هذا الرهبان.

رفعت وجهها نحوها مستفهمة وقد ازداد وقع الكلمات غموضا :

ـ حين كانت جدتك تغزل الصوف كان القط الأسود ينزوي في الشرفة يتأملها ثم يجيئني في الحلم على شكل رجل مسجون يطلب مني أن أحرره، وحين تأخذ جدتك المغزل نحو بيتها يتراءى لي في صورة معتوه مفترس  !

تأملت "هدى" الغرفة فلمحت المزهرية فوق الطاولة وقربها علبة الكبريت، كما لم تلمح أي أثر يدل على وجود شمعة.

نادت " سكينة " لتسألها :

ـ ألم ينقطع الكهرباء؟  !

نظرت إليها برهة وكأنها لم تتوقع ما تقوله ثم أردفت :

ـ كل ما أعيه أنك ظللت الغرفة بالستائر عندما عدت متعبة وأردت أن تنامي قليلا  !

ـ والكتاب؟

ـ عن أي كتاب تتحدثين؟

ـ كتاب" نظرية الحلم" الذي شرعت في قراءته؟

ـ عفوا  ! لم أنتبه إليه، بل لا أعتقد أنك تصفحته أصلا  !

ثم اتجهت نحو المكتبة لتخبرها أنه هناك بين الكتب الأخرى. تناهى إليها بكاء إبنها فأسرعت إليه وطوقته بكلتا يديها وكأنها تخشى أن يلحقه الأذى. انبعثت على وجه والدتها إشراقة وهي تقلبه وتردف :

ـ عيناه الزرقاوان أشبه ببحر عميق

ـ تماما كعيني والده  !

ـ كعيني القط الأسود أيضا  !

ـ لكن بشرته بيضاء تماما كبشرة والده

تساءلت : ـ هل مازلت تحتفظين بالأدباش القديمة في الغرفة المتروكة؟

ـ نعم كل ما يقدم أو يكسر أرميه هناك.

طلبت منها أن تصطحبها إلى هناك. تساءلت عن السبب، ومدت الصغير إلى"سكينة"، وتبعتها إلى الغرفة المنزوية في الحديقة كشخص منوم لا يعي أنه يصير معصوب العينين.. قلبت أمها الأدباش إلى أن امتدت يدها إلى صورة قديمة رسمت بالدهن الزيتي، وما كادت " هدى " تنظر إليها حتى قاومت رغبة جسدها في السقوط. وجه الطفل المرسوم يتطابق مع ملامح إبنها.. كادت تشك في ان اللوحة قديمة لولا تهرؤ إطارها وألوانها الباهتة  والتوقيع الزمني الذي يشير إلى انقضاء حوالي عقدين من الزمن.

قالت الأم : ـ لقد رسمت يومها عيني القط الأسود وأحطهما بألوان رمادية. إثر ذلك وجدتني أرسم وجه طفل قلق كسماء الخريف، تناثرت أوراق الأشجار حولي، وحطت ورقتان على وجنتيه.

حدجتها "هدى" بنظرة قلقة شحنت بتساؤلات الضياع والرعب من الآتي. صوبت عينيها الناطقتين وجوما نحو السقف. ساد صمت طويل عطل تدفق اللغة، استشعرت ضيق الغرفة.. اختنقت.. ما كانت الصورة تضغط على أعصابها لولا الألم الذي جرعته لها.. لن تطلب منها أن تطوي صفحات الرداءة لكن الأمور رغم غموضها تكشف عن جروحهما سويا. ليستا أفضل من بعضهما فكل واحدة استعملت كورقة لعبت بها الريح.

 قطعت أمها سيل تخميناتها :

ـ لماذا تسقطين العبث على الصورة؟ ألا تشعرين أننا نعدم خيالنا في لحظة حماقة بل قولي إنها لحظة العدم الخاوية من الذاكرة.

 ما كادت تقوى على الحركة لتجابه كلماتها.. ارتخت رجلاها فجلست على الأرض وطوتهما.

عكست كلمات أمها الشعور بالذنب حين أردفت :" أشعر أنني قمت بزرع الأشواك في بستان فرحك. كنت أشرح لك بشائر القط الأسود وكأنني أردت أن أختزن معنى الحياة في السفر والمال لا غير.. لكن الذي حصل أنني دون دراية مني سخرت من إبنك وصوبت له نظرات الاحتقار لأنني كشفت لك هذه الصورة، لكن المفاجأة كانت شديدة الوقع علي إلى درجة أنني لم أنجح في بتر شعوري بالاهتمام. كنت أتأهب للتواصل مع ماض أبدعته.. لكن يبدو أن الذاكرة ليست بهذا اليسر".

 

كادت" هدى" تصرخ في وحهها وهي تندد بهذا الماضي : ـ "عن اي ذاكرة تتحدثين؟ يبدو أنك لم تختبري لحظات ضعفي الآن. أحسني كمن بنى بيتا دون أساس ويخشى من هول العاصفة "

برقت في عيني أمها شعلة من الحنق وهي تلمح ارتعاش أطرافها ولون وجهها الباهت، بل شدت كتفها لتقول بتشنج :" لقد حاولت أن أحاسب نفسي على أشياء كثيرة : تركك دون أم، كشف الصورة، لكن كل شيء قد قضي وصار من حقي كشف المستور."

ألقت كلماتها وغادرت الغرفة لتستمع "هدى" إثر ذلك إلى اشتغال محرك السيارة.

أطل وجه " سكينة " وقد شحن فضولا. فسرت لها أنها كانت تسترق السمع وتراقب ما يجري من ثقب الباب وعقبت أنها ما كانت لتصدق أمر الصورة لو لم تلمحها مرارا، ولكنها لم تكن تدرك أنها قديمة. ثم انحنت لتطوق " هدى " وتحاول ايقافها. ثبتت يدها على خصرها وهي تسندها وتساعدها على المشي، وحين وصلتا إلى غرفتهما  أجلستها على الكرسي برفق ثم حملت لها إبنها قائلة :

ـ انظري  ! إنه يبتسم لك. نظراته حالمة تماما كنظرات أخي.. غدا سأجلب لك صورته من الألبوم وهو في هذا السن، فالشكل متطابق.

ـ تماما   ! إنه متطابق لأنه يشبه والده أليس كذلك؟

ـ وهل يراودك الشك؟ إن الحقيقة أعمق من تلك اللوحة. فقد ولد هذا الطفل من رحمك ولم تجلبيه من ملجإ الأيتام. فكيف تعبث بك الصورة بعنف؟.

وجهت " هدى " نظرها نحو الإطار البلوري للباب لتلمح بعض الأشجار التي تعرت من الأوراق. اتضح شعورها بالانكسار، بأن الأشياء تنحرف عن ممر سيرها الطبيعي. بادلت إبنها الابتسامة فازداد وجهه بهجة. ضمته إليها بشدة وكأنها تتوجس خيفة من إصابته بمكروه. تراءت لها اللوحة تلاحقه وتركض وراءه، فراودتها رغبة في تحطيمها. إنها تكره الماضي وتحبذ إبنها كصورة للحاضر رغم أنها باتت تدرك أن الحاضر غريب بل مغرب في شذوذه...تخيلت تلك اللوحة محطمة منقسمة إلى أجزاء في حين رأت أمها عاجزة على إعادة تشكيلها، إذ ذاك اختفت الصورة عن ذهنها إلى حيث ألقت الريح أوراق الشجر.

 قطعت وقتا طويلا وهي تمشي داخل الغرفة جيئة وذهابا. أعادت إبنها الوديع إلى فراشه وأحضرت بعض القهوة لتحتسيها رفقة سكينة...

كانت تحتسي فنجان القهوة بعصبية إذ لاحظت سكينة ارتعاش أصابعها ورسوم الإجهاد التي حفرتت وجهها وأذبلت عينيها. نظرت إليها باهتمام ثم ألقت عليها خبرا خاطفا كالبرق.

ـ لقد وصلتك رسالة اليوم.

ـ من من؟

ـ لم يكتب الإسم على ظهر الرسالة لكنها وصلت ضمن البريد السريع.

أسرعت نحو غرفتها وما هي إلا لحظات حتى عادت وبدت على وجهها تعابير الأسف الشديد.

ـ أرجو أن تعذري حالة النسيان التي تنتابني من حين إلى آخر ولكن سبب ذلك حالتك المتردية هذا اليوم.

تناولت هدى الرسالة بغيظ مكتوم.. كان من الأجدى وضعها على الطاولة منذ وصولها.. فتحتها.. كان المرسل زوجها كما تبين من الطابع البريدي يكاشفها أنه يرفض العودة إلى المنزل" المسكون"، وفسر إصرارها على البقاء فيه ورفضها السفر معه على أنها غير قادرة على تمييز نفسها في الظلام. كتبت الرسالة بعبارات ساخرة وكلمات لاذعة عرت موقفها من البقاء داخل منزل العائلة، ورغم أنها كانت تصر على عدم مواجهة الحكايات التي حيكت عن مشاركتها الأشباح لهذا السكن إلا أنها حقدت على زوجها وأرادت تمزيق خطابه لكن" سكينة" افتكته وقالت :

ـ  لقد قرأته ولم أشأ تسليمه لك إلا حين لمحت امتعاضك من هذا المكان المقرف.

شعرت بالضيق فتحت الشباك وتأملت الأشجار التي لفها الهواء فحولها إلى أشباح تحركها الريح. انبعثت بعض النسمات الباردة فغطت كتفيها بشال صوفي.. كم هي بحاجة لتجديد عهدها مع الهدوء رغم أنها لم تجد مؤنسا غير أسوار المنزل أما " سكينة "  فقد تحولت إلى رقيبة ترصد كل شاردة.

 دخنت سيجارة علها تبعد عن ذهنها بعض التوتر إذ ذاك لمحت القط الأسود قبالتها. عيناه اللامعتان مشرقتان. نظراته المستقيمة لامست الجراح. طفق ينظر إليها  بعينين رائعتين، أبصرت فيهما تفتح أزهار اللوز والبرتقال. رأت فيهما ربيع طفولتها. نظرات زوجها. انبعث من موائه رنين الانطلاق. اقتربت منه وحملته بين ذراعيها فاستكان في خشوع. ألقت السيجارة المشتعلة لتهدهده كأنها تقوم بترويض نفسه المتوحشة المنذرة بالشر أو تريد أن تتلقى إجابة عن ذاكرة كاملة، ورغم مشاعرها المعقدة وشعورها باختلاط هواجسها، فقد حاولت أن تقنعه بأن أجراس المواجهة قد رنت، وأنه آن الأوان للتساؤل عن فحوى الحقيقة على شراستها. بغتة انتبهت إلى النيران المضطرمة تأتي على الأعشاب والأشجار. ألقت القط بعيدا وهرعت نحو سكينة لتساعدها على إطفاء الحريق، أما هي فرغم برود أطرافها فقد اتصلت بالحماية المدنية وأسرعت بابنها نحو منزل الجيران..

 

كان الحريق الذي حل بالحديقة هائلا، نجح رجال المطافئ في إخماده بشق الأنفس.. حاولت أن تمحو مشاهده التي صادفتها... تساقط الرذاذ على الأشجار المحترقة. رأت بين طياتها أحرف الموت كتبت بلون الرماد فصارت أشبه بهياكل عبثت بها النيران.

الحديقة لوحة اختفت عنها روح الطبيعة. لا تحمل روح الإنسان المبدعة للجمال. رائحة التراب الممتزجة بالماء والزرع والرماد تخنقها كخليط معقد مركب من عناصر الحياة والموت.

أمها كانت تبدو مختنقة. لذلك تركت أشلاءها مبعثرة ورحلت. الجميع فعلوا مثلها. تساءلت: " هل أراد القط الأسود أن يطرد كل من في المنزل ليخلو له؟". خطرت ببالها فكرة أشبه بحلم. أكيد أنه يدرك معنى مرسوما في إحدى الأركان وعليها أن تعثر عليه. اكتفت في بداية تنفيذ هذه الفكرة بفتح الشباك.

تساءلت " سكينة " بضجر: ـ لم تصرين على فتح الشباك؟

كادت كلماتها تندفع أكثر لتبدي تبرمها من تصرفاتها غير العادية لكنها تراجعت، فردت "هدى"  شارحة : ـ إنها عادة أحبذها حين تسري إلى ضلوعي النسمات الباردة.

قاطعتها ـ   لكن هذه النسمات اختلطت برائحة الهواء الملوث إثر الحريق.

ـ فعلا لكن المطر المنذر بالنزول سيطهر التربة من بقايا الحريق والهواء من الغاز السام.

ـ فعلا أنت صائبة.

في تلك اللحظة لمحت القط الأسود تحت شجرة الليمون مغمض العينين، متجمد الحركة. انبعث من فمه سائل أصفر وقد صار جثة لا حراك فيها.. ركضت نحوه فوجدته ينام نومته الأخيرة ولا تبدو عليه أي حروق.. هكذا رحل القط الأسود أيضا.. ربما عاد هذا اليوم ليودعها. ربتت عليه بيدين باردتين مرتعشتين. لفته بشالها الصوفي ثم شعرت بتسمر قدميها كأنها استيقظت على وقع حلم دفين.  

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1293 الخميس 21/01/2010)

 

 

في نصوص اليوم