نصوص أدبية

أهلا صديقي اليهودي

 لا يهمه الغير إن كانوا لا زالوا منشغلين بها أم أهملوها كباقي وظائفهم الوجودية؛ شدّد على نفسه القيام بذلك ومهما كانت الإعاقة البشرية تقف له بالمرصاد ومهما كانت العيون والرصاصات تتصرده.

 

 بعد خروجه من السجن تشتت مقاومته وفقد الكثير من الزخم الإعلامي الذي كانوا يحيطونه به، لم يحب يوما الهالة الإعلامية بقدر ما كانت تضايقه وتجعله أكثر مسؤولية على كل فعل يقوم به وكل تصريح يدلي به؛ لم يعد يهتم لأمره أحد ولا يقف إلى جنبه أحد، أدرك بأن الزمن يغيّر في الناس كثيرا، أدرك أمورا أخرى أشد مرارة وأكثر وقعا على النفس، قالها في نفسه: "لا يهم من رفض الوقوف لجانبي ومن خان، في النهاية الإنسان بشر، كلمة مقيتة وأكثرها شتما وسوداوية لأنها تحمل الشر وتأكده الباء".

 

لم يكن يهدف من خلال ما ألتزم به اتجاه الآخرين إرضاء لفضول نفسه ولا إرضاء لجهة ما، لا هو واقع تحت تهديد ولا تحت ضغط أحد، كان يرى مصلحة الآخرين في صمته لبعض الوقت لتمر العاصفة دون أن تأخذ معها ما زرع من سنين.

ليس بطلا بالقدر الذي يراه الآخرين كذلك، وما وقوفه في وجه الحكومة ثم تنازله عن كل مواقفه إلا في سبيل غاية يقبرها داخله.

 

يوم عزلوه عن الناس وأقاموا عليه الحضر حتى في مخالطة الناس وأجبروه على الإقامة بعدم مغادرة المنزل إلا بأمر الرقيب والشرطة، لم يكن يأبه لذلك أبدا.

 يتحمل عناء الذهاب إلى المخفر البعيد بآلاف الأمتار، ليأخذ التسريح بالتجوال وزيارة بعض الصحاب، يرفضون طلبه كما العادة؛ كان على علم مسبق بذلك، لكنه يحاول دون يأس.

 عزلوه عن كل شيء، صار وحيدا على الكرسي الخشبي القديم الذي يجلس عليه قريبا من النافذة، انتظر كثيرا زيارة أصدقائه السابقين ومؤيديه، أنتظر كثيرا الذين صرخوا باسمه مرارا، لم يزره أحد من زمن وتحوّل منزله إلى إشارة خطيرة تمنع الاقتراب كثكنة سرية عسكرية في منطقة محظورة على المدنين.

كتب على أوراقه إدانته لنفسه، عن لومه بعض الأصدقاء ومعاتبته لهم، كان يعلم بالذي يتعرضون إليه لأجل نسيان فكرته ونسيان حتى اسمه، كانوا بضعا من أصحابه لا غير وكان يعرف الذي يحدث لهم، مثله تماما.

أنتظر المواكب التي توافدت عليه من قبل ومن كل مكان، ومن كل الأقطار، ربما تطل عليه كما كانت تطل بلا انقطاع، لم يجرأ أحد على زيارته، وهاهو لا زال يجلس دائما وحيدا على الكرسي الخشبي البني اللون المصنوع من السملل .

يحمل الكرسي لخارج المنزل كلما داهمه الملل وأمام باب بيته كان يسند كتفيه الباردتين النحيلتين للحائط وينعم بدفء الشمس، يقول متنهدا دائما " وحدها الشمس تمنح الحياة، يقولون عنها الكوكب الميت؛ يا للمفارقة الميّت يعطي الحياة للأشياء وللكائنات الحية الأخرى."

 يحب رؤية الوجوه الآدمية علّها تمر أمامه ليعود إليه شيء من بريق الماضي فيزداد تشبثا بما لديه، لعله عزائه الوحيد ليرى الضحك والفرحة المخبأة في العيون، ليحس المعاناة في نبض قلوبهم ويسمع الخوف من خلال أصواتهم؛ ومع هذا لا أحد يمر ولا يرى فيما يرى أحدا إلا أخاه الذي يأتيه بين المرة والمرة يتفقده ويتفقد حاجاته، أو يرى الذين يحرسونه ويعسونه، العسس لا يجرؤون على التحدث إليه أو الاقتراب منه، كان يبادلهم الابتسامات وهم عابسون في صمتهم وفي الذي أمروا به؛ كاميرات المراقبة لا تغفل عنه لحظة واحدة خشية الفرار، لقد غيّر فيهم الشيء الكثير كل هذه الشهور التي ضربوا فيها الحصار عليه.

 ألفوا وجوده بينهم، في ضمائرهم وفي عقولهم وفي تفكيرهم، لم يكن خطرا بالدرجة التي وصفوها لهم وأطلعوهم عليها كأنه قنبلة موقوتة، لم يكن إلا إنسانا مسالما محبا لمبدئه. في الحقيقة الكراهية أن يهدد إنسانا وجود حياتك، ولهذا كرهوه ما دام يهدد وجودهم الزائف .

لا زال ينتظر وعبر النافذة يترقب بين الفينة والأخرى قارعا للباب، لكنها نفس الوجوه الدائمة الحضور، أخوه والمخبرين والعسس، لا أحد يجرأ على الاقتراب من بيته هي الأوامر والتعليمات، لا أحد يتضامن معه.

أحس بالتعب، استلقى على الأريكة شاردا بعقله، سمع جلبة خارج بيته، ضوضاء، صراخ عالي يطوّق خصر الشارع، أسرع للباب الخارجي، كان بعض العسس يمسكون برجل يعرفه من زمن، الرجل غيّر الوقت فيه شكله وملامحه، أستطاع الرجل أو بدا أن العسس احترموا رغبة الزائر ورغبة الرجل المحاصر الذي يشددون عليه المراقبة؛ لقد عرفه، أخيرا وبعد كل هذه المدة تذكره أحدهم، على الأقل تذكره صديق، والوحيد الذي تذكره.

ــ أهلا صديقي اليهودي... لا زلت على مواقفك؟

ــ وسأظل عليها، أفعل ذلك ليس مجاملة للعرب ولا لحكوماتهم.

ــ أعرف ذلك جيدا، أعرفك صديقي.

ــ جئتك اليوم لتعيد على مسمعي الحكاية التي كنت تقصها عليّ دوما عن قبر اليهودي، عن حياته وعن موته وعن دفنه في الريف حيث سكن جدودك في الدرع الاحمر... ألم تقل انه كن صديق جدك؟

ضاحكا: ــ سأحيكها لك صديقي.

ــ ألا تسألني عن تأخري في زيارتي لك كل هذه المدة؟

ــ لن أسألك

ــ كنت في ...

قاطعه: ــ لا تكمل كل له ظروفه وأعذاره أنت على الأقل استطعت اختراق هذا الحصار وقمت بالواجب.

تدخل العسس من جديد وأنهوا هذه الزيارة السريعة، كانوا يبادلون الرجل نظرة التعاطف وهو يراقب فعلهم بابتسامته المعهودة.

 

مرت شهور وشُيع الرجل إلى مثواه الأخير، بكاه الجميع إلا صديقه اليهودي الذي أخبر المواطنين السعداء من شعبه الذين ينسون بسرعة خلال لقاء صحفي أجري معه، ولأنه كان آخر من رآه وتكلم معه حضي بالمقابلة لقد أخبرهم عن الجملة الأخيرة التي سمعها منه حين أفضى إليه بمخاوفه :

 " أن الأموات يمنحون الحياة للكائنات الموجود، كالشمس التي لا حياة فيها والتي بدونها تستحيل الحياة."

 

                      خالد ساحلي

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1295 السبت 23/01/2010)

 

 

في نصوص اليوم