نصوص أدبية
بعد عشرين عاماً
قبل الكأس الأخيرة قال النادل:
- لم يبقَ غيرك في الحانة.
حدّقت في الساعة المعلّقة على الجدار، كانت تشير إلى الواحدة بعد منتصف الليل. يحاصرني القلق في ظلّ حواس غائمة، فلا باب أطرقه ولا صباح ينقذني. أختنق بأنفاسي المتقطّعة وبسعالي الجاف، تعتريني رعشة مزدحمة بتساؤلات غير واضحة " إلى أين سأذهب وكلّ الذين عرفتهم قد رحلوا؟". سألت النادل عن بائعة الهوى "سلمى: "
- هل ما زالت تقطن الزقاق؟ ترتسم الدهشة على ملامحه. يقترب منّي، يهمس في أذني:
- نعم، لكنّها شاخت وما عادت تلك الزهرة الفواحة التي تجذب عشاقها.
لا أدري لماذا ذكرتها الآن. أكرع كأسي، أخرج مسرعاً، أحثّ الخطى إليها، غير مبالٍ بالمطر. كنت وحدي أسير في الزقاق، يسبقني ظلّي إليها، سألت نفسي كيف ستكون بعد عشرين عاماً؟ يخفق قلبي شوقاً للأيام الخوالي " مهما تكن فهي سلمى الفاتنة... ألم تذكر ضحكتها وغنجها الآسر؟"... يا لك من قلب! أبعد الشيب تحنّ وتخفق لتلك الأيام؟
أحاول أن أستمطر ذاكرتي، لعلّي أقتنص ملامحها بعد هذا الفراق الطويل، سأراها كما الأمس مترعة بالضياء، أغنية تقطر ندى، تقاسمني حلكة الليل، سأستعيد أنفاسي التي تركتها فوق جدائلها عند ليلة بحّت بها مواويل الفجر، وألثم عنقها بلهفة عاشق مجنون، وأملأ جرتي من خمرها المشعشعة.
وقبل أن أطرق بابها ارتجفت ضلوعي لتطرق باب القلب، فإذا بالماضي بكامل أرقه يسطع في ارتعاشة دقّاته المتوالية على باب سلمى:
- من الطارق؟
- أنا...
- من أنت؟ وماذا تريد في مثل هذا الوقت؟
- سلام عليك يا سلمى، لقد هزّني الشوق إليك، ألا تفتحين...؟
- صوتك ليس غريباً عنّي، انتظر دقيقة واحدة.
وانتظرت عشرين عاماً أخرى؛ ليشرق وجهها من خلف الباب.
عبد الكريم الساعدي
..........................
* القصة مستوحاة من قصيدة قرأتها قبل عشرين عاماً