نصوص أدبية

رب الناس الآخرين

صالح الرزوقنعومي ألديرمان

ترجمة: صالح الرزوق

***

عاش السيد بلوم حياة خالية من المشاكل حتى التقى بجانيشا. هذا يحصل لبعض الناس. بعض الناس مثل السيد بلوم يذهبون إلى كلية طب العيون تلبية لإلحاح أمهاتهم حتى لو أنهم من أعماقهم يرغبون بالسفر إلى بلدان ومسافات بعيدة. البعض، من هم على شاكلته، يحلمون بجزيرة توابل وعذراوات غامضات ولكن ينتهون بطبق حساء تيلما وبالابنة البدينة لدكتور العيون السيد ليفكوفيتش. والبعض، مثل السيد بلوم، يعتني بعائلة ويفحص العيون الملتهبة ويسرق الذرة التي يقتاتون عليها ليلا، وينسى تماما مرور السنوات التي كانوا خلالها يشتاقون للوقوف عراة الصدور على شواطئ رمال ذهبية. وأن يذهبوا إلى أماكن لم تطأها قدم بشر، وأن يحبوا كما لم يحب إنسان من قبل. البعض يجد الراحة هناك، وآخرون يجدون السخط والقلق. أما السيد بلوم، ولدواعي دهشته البالغة، وجد جانيشا.

كان في السوق، ويقف بين العباءات وأثواب الساري والآلهة الخشبية وأشياء للتعليق على الجدران. وفي الوسط تمثال رخامي لرجل بأربعة أذرع، وبرأس فيل. أو لعله فيل بجسم رجل له أربعة أذرع. كان زهريا مشرقا، وبعينين ناصعتين وعريضتين وبغطاء رأس ذهبي. كانت إحدى أياديه  تصنع إشارة الموافقة، والثانية تدعو المشاهد للابتعاد. ولاحظ السيد بلوم فورا أن هذا عبارة عن إله، وماذا يمكنه أن يكون غير ذلك. يرحب ويحذر بنفس الوقت؟. حمل التمثال، وكان ناعم الملمس تحت  أصابعه. وكان هناك شاب يعتني بالمتجر. وكانت خصل من شعره الأشقر المتسخ تغطي عينيه. قال:"احذر يا جدي؟. إن كسرته يجب أن تدفع، هل فهمت؟".

وفكرت السيدة بلوم بقصة جدنا الأول إبراهام، الذي  أدان والده بالأفودا  زارا، ويقصد عبادة الأصنام. وفي صباه، وحين آمن برب واحد، حطم إبراهيم أصنام أبيه. فعاقبه والده. فقال إبراهيم:" كلا يا والدي، أنا بريء مما حصل. أكبر الأصنام هو الذي فعلها. حمل عصا وحطم كل ما تبقى".

قال والده:" أيها المغفل، الأصنام لا تتحرك". ورد إبراهيم:"لماذا تعبدها إذا؟". ولكن الحكاية لا توضح إذا اهتدى والد إبراهيم في ساعتها، أم، بالعكس، إذا تابع عقاب ابنه بعقوبة أشد ليتخلى عن إيمانه، وهو ما كان في ميزوبوتاميا القديمة أهم مما هو عليه اليوم.

وفكر السيد بلوم بكل هذا وهو يمسك جانيشا بين يديه. تلك العينان رقيقتان جدا، ومليئتان بحب أي شيء تقعان عليه. وتلك الذراعان قويتان جدا، لو كانت بجانبه لا يمكن أن يفشل أبدا. لم يلمس السيد بلوم في كل حياته تمثالا من قبل، ليس قبل أن يعتقد أن خطيئة أفودا زارا يمكن أن يكون لها تأثير عملي. نظر لانحناءة الجذع الناعم،  كانت قوية ولكن مريحة.

قال:"أود أن أشتريه".

لبعض الوقت، اعتقد السيد بلوم أن إخفاء جانيشا ممكن. لف الرب بكيس بلاستيكي، وحزمه بمئات الرقع القماشية الرقيقة الخاصة بتنظيف العدسات، ووضعه خلف حامل أطباق عيد الشكر في قاع خزانة في غرفة الأشياء المهملة. ولكن ذهب حرصه أدراج الرياح. كانت زوجته دائما تحتاج على ما يبدو لشيء موجود خلف تلك الخزانة وكان عليه أن يذهب لإحضاره.  وأحيانا كان أحد أولاده  يترك الباب مفتوحا. وكلما اقترب السيد بلوم من غرفة الأشياء المهملة، كان تمثال جانيشا يتسلل من الرزمة ومن الكيس البلاستيكي ويلوح له، بشكله الأصلع ولونه الزهري.

قال السيد بلوم لنفسه: إنه يريد أن أعبده، وأدرك أنه محق، أليس هذا ما يريده الأرباب دائما؟.

الحب والهدايا، أو الخوف والحروب، أو أحيانا كليهما. ولكن كيف أعبده؟.

واحتار السيد بلوم، فهو لم يعبد تمثالا من قبل، وليس لديه أدنى فكرة عن الطريقة المناسبة لذلك. نظر في كتابه المقدس. وقرأ:"لا تصنع لنفسك أي صنم ولا أي تمثال. لا تسجد لها ولا تعبدها". ويتابع الرب فيقول:"مذبحا من تراب تصنع لي وتذبح عليه محرقاتك وذبائح سلامتك، غنمك وبقرك". ولم يكن لدى السيد بلوم أغنام أو أبقار، ولم يكن يرغب بتقديم هبات من مجال مهنته وحرقها. في إحدى المرات أحرق زوجا من النظارات بطريق الخطأ وسببت له الأدخنة الغثيان. ولكن السجود والصلاة على ما يرى أمر يمكن تدبره بسهولة.

وضع السيد بلوم جانيش في غرفة المهملات على مسند أحذية مصنوع من النخيل الآسيوي. وحرص أن يغلق الباب أولا. وبدأ السرور على جانيشا، وكان البريق الناري في عينيه  يشير لمباركة تامة. وببطء، ودون أن ينسى مشكلة شرايينه في ركبته اليمنى، ركع، ثم انحنى حتى لامس جبينه الأرض.

وترنم بصلاة ألّف هو كلماتها:"يا جانيشا العظيم. أنا أشكرك بقلب مستسلم على تشريفك إلى بيتي وتكريمي بهذا الحضور. ها أنا أصلي لك يا سيدي وإلهي جانيشا، وآمل أن تبارك كل الحائرين هنا. وأرجو على وجه الخصوص، أيها الرب العليم والرحيم، جانيشا، أن تكتب لابنتي جودي النجاح في سنتها الأولى من دراسة القانون، فهي تجده صعبا وشاقا. أأأأأأووووه أيها القادر والقدير جانيشا".

بعد أن قال ذلك حاول أن يركع مجددا، ليتابع صلاته. ومع أن روحه استعدت لمديح وشكر جانيشا، لكن ظهره لم يساعده. كان ضعيفا ويعاني من آلام مبرحة. وأنّ من موجة آلام في مؤخرته اليسرى. تأهب، ومال إلى الأسفل، بانتظار أن يتراجع الألم، وبهذه الوضعية وجدته زوجته بعد عشرين دقيقة.

قالت له:"بحق الله، يا روبين، أخبرني ماذا تظن نفسك فاعلا هنا؟".

قال:"آه يا سندرا. ظهري يؤلمني مجددا. ويلتهب مثل النار". وأمل أن يلهيها فترة كافية ليزحف إلى الخزانة، مع جانيشا ويخبئه ولكن أدركت ساندرا الغاية ببداهتها.

قالت ثانية:"روبين، هل ذلك تمثال؟. هل تعبد صنما في بيتنا، وأنا مشغولة باحتفال الشكر والحاخام سيأتي على الغداء في يوم الشابيس (السبت بلغة الاشكيناز - المترجم)؟".

رد السيد بلوم:"كيف يمكنك أن تقولي مثل هذا الكلام يا ساندرا؟".

كان السيد بلوم متزوجا لمدة 30عاما وتعلم خلالها شيئا أو اثنين. تابع كلامه:"كلا. وجدت هذا التمثال في السوق واعتقدت أنه يناسب لون طلاء وأثاث هذه الغرفة.

كانت السيدة بلوم تلح عليه منذ سنوات ليعطي البيت قدرا أكبر من وقته.

وأردف:"كنت أفحصه حينما تعثرت وسقطت وألحقت الضرر بظهري".

قالت ساندرا:"هههممممم".

قال السيد بلوم:"والآن ظهري ملتهب ويؤلمني. هل لديك اقتراح لتخفيف الألم؟".

كان قلب ساندرا لطيفا لكن لسانها حاد، فأسرعت إلى الحمام وبحثت عن أنبوب المرهم المسكن.

في نفس الوقت، حاول السيد بلوم، دون أن ينجز أي نجاح يذكر، إعادة تمثال جانيشا إلى رزمته، وغطى وجهه ليضع حدا لقلق زوجته. ولكن جذعه كان ينزلق، ولا بد أن القماش الواقي من الصدمات انكمش قليلا. ولدى عودة ساندرا، كانت جانيشا لا تزال جالسة على الأرض. دلكت المرهم المخفف للألم فوق مؤخرة زوجها، وهي تنظر بعمق إلى الرب. وأخيرا، التقطت التمثال بأصابعها التي يفوح منها عبير المينتول، وبدأت تتفحصه بنظرات نفاذة.

قالت:"ألست معي أنه يناسب غرفة المعيشة. فلنضعه على الرف. سيصبح له معنى طقوسي".

وهكذا احتل جانيشا مكانه في وسط بيت بلوم. وطبعا اعترض الأولاد، كما يفعلون دائما.

قالت جودي على طعام الإفطار وهي تقضم الكعك المحلى بالسمسم:"إع..أعتقد أنه ينظر لي".

قال دافيد وهو يلمس جانيشا بظفره ويحمل حقبته المدرسية:"يوك. إنه قذر. أراهن أنه ملوث بالجراثيم".

قال السيد بلوم بصوت معتدل:"هذا التمثال أجوف. اسمه جانيشا". وتساءل بقلبه لماذا يختار الرب أن  يحول الأطفال الأبرياء الى مراهقينيرتكبون الأخطاء.

ودحرج دافيد نظراته. وتنهدت جودي. ثم ذهبا إلى المدرسة. وعندما حمل السيد بلوم الأطباق إلى المطبخ توقف لحظة أمام جانيشا، ونكس رأسه قليلا، وترك لقمة من الكعك في المقلاة التي أمامه.

***

ولم يسع السيد بلوم إلا أن يلاحظ أن حياته تحسنت بعد دخول جانيشا عليها. وعندما أضاعت السيدة روزينبلات، من امبراطورية روزينبلات للفواكه المجففة، موعدها الرابع على التوالي، لم يتأخر السيد بلوم عن فكرة توبيخها. وبالعكس شعر بالتسيد والتماسك والقوة ذات الأهداف الواضحة. وحمل سماعة الهاتف دون تردد وقال: "يا سيدة روزينبلات، تم الآن تبديل موعدك وأصبح في الرابعة والنصف. وإن لم تحضري إلى مخزني في الرابعة والنصف، لن يكون لعدسات بلوم أي حاجة لك".

قالت السيدة روزينبلات:"لكن...".

كرر القول:"لا حاجة لنا بك بعد ذلك".

قالت السيدة روزينبلات:"لكن يا سيد...".

قال السيد بلوم:"شكرا. وطاب يومك".

ظهرت السيدة روزينبلات، بالضبط في الرابعة والنصف. وقادها السيد بلوم إلى غرفة فحص العيون، ورتل صلاة هادئة شكر فيها جانيشا.

وازداد اهتمام بقية العائلة أيضا بالرب مع تقدم الأيام. كانت نظرات جانيشا رحيمة وعطوفة، وملأت غرفة المعيشة بجو مسالم وهادئ. ولاحظ السيد بلوم أن ساندرا وجودي ودافيد ينفقون ساعات أطول في تلك الغرفة. واعتاد دافيد على كتابة واجباته المنزلية على الطاولة تحت أنظار جانيشا. ولاحظ أيضا أنه رغم عدم ارتياح جودي ورفضها للتمثال، تركت أمامه على الرف يوم أداء امتحانها الفصلي الشارة التي تضعها على سترتها. وانتبهت لنظرة والدها وهي تستدير لتنصرف، وهزت منكبيها بعصبية وقالت:"من أجل الحظ، كما ترى". وتفوقت جودي على نفسها في ذلك الامتحان بنظر المعلمات، وأصبح لجانيشا في بيت العائلة مكانة عاطفية دافئة.

في البداية، لم يتكلم آل بلوم عن جانيشا خارج البيت. ولكن هندون ليست مكانا تختبئ فيه الأسرار. وربما كانت ميكيلا، صديقة جودي في المدرسة، أول من لاحظ وجود حفنة من خبز الحساء الأصفر أمام الرب وكانت تقدمه له جودي كهبة قبل كتابة الواجب المنزلي.

وتساءل بنجي صديق دافيد لماذا يفرك دافيد رأس ااتمثال قبل كل جولة نهائية في لعبة التنس الإلكترونية. وسريعا، ما تناقل الناس الخبر، وأصبح من المعروف في هندون أن آل بلوم- نعم بلوم للعدسات، نعم ساندرا بلوم، من رابطة الآباء المعلمين، ونعم، دافيد بلوم الولد اللطيف الذي مضى عامان على تعميده كشخص بالغ- عائلة بلوم هذه، تنصب في بيتها تمثالا وتعبده.

ولكن الكتاب المقدس يذكر صراحة أن وجود صنم في بيت يهودي مسألة لا تمر بسهولة. ألم يعاقب 3000 رجل بالموت لعبادة العجل الذهبي؟. وألم يتم إلقاء جيزبيل من النافذة بسبب عبادة الأصنام، ثم تمزيقها بمخالب وأنياب كلاب هائجة؟. طبعا، اهتم مجلس بلدية بارنيت بهذه الواقعة في هندون. ولكن أحدا لم يوقظ السيد بلوم في الليل، ولم يلقه فريق من المخصيين من النافذة، وإنما تلقى مكالمة هاتفية ترجوه أن يزور الحاخام في أقرب فرصة تناسبه.

كان الحاخام شابا، وأنهى تعاليمه الدينية للتو. وكانت لحيته مشذبة، ووضع بعين الاعتبار في سلوكه مكانة السيد بلوم الاجتماعية.

قال وهو يحرك أصابعه:"و الآن. آه.. يجب أن أكلمك يا سيد بلوم.. عـ....إه، عن تمثالك".

قال السيد بلوم:"آه، مفهوم". ولم يشعر بالإهانة. فقد وجد منذ دخول جانيشا لحياته، أنه لا يمكن الاعتداء على مزاجه بسهولة بسبب المنغصات. وشعر بقوة الشكيمة.

قال الحاخام:"نعم". تخلل لحيته بأصابعه بقلق وتابع:"الحقيقة يا سيد بلوم أنه تدور شائعات. يوجد كلام. وأنت تفهم أنني لا أستمع للأقاويل، ولكن شخصا بمنزلتك، ومحط ثقة المعبد يا سيد بلوم...".

قال السيد بلوم بهدوء:"أقاويل؟".

وأسرع الحاخام بكلامه:"عن تمثالك يا سيد بلوم. الناس يتكلمون عن تمثالك". وأربكه هدوء وصمت السيد بلوم. فأضاف:"الحقيقة يا سيد بلوم، إن مؤمنا في هذا المعبد لا يحق له. لا يحق أن يمتلك...".

و تطوع السيد بلوم بالكلام فقال:"ربا؟".

قال الحاخام:"صنما. لا يجوز لشخص بمنزلتك أن يمتلك صنما في بيته، ولذلك.. إه.. يجب أن تتخلص منه، رجاء".

وفكر السيد بلوم بالتبدل الذي لحق ببيته بعد وصول جانيشا. وطبعا، هذا لا يعني أن العائلة فقدت شخصيتها. وأنه لم يعد هناك أي شعور أو مرارة. فقد تابعوا الجدال والتشكي، واستمرت الأخطاء كما هي. وفوق ذلك، كان يبدو أن حضور الرب برأسه الشبيه بالفيل منح كلا منهم قوة استثنائية. وفكر السيد بلوم: ربما هذا من وحي خياله. ولكنه لم يكن مستعدا للتخلي عن هذا الرب.

قال:"أعتقد أنني لن أفعل ذلك".

وقطب الحاخام وجهه ومال إلى الأمام وهو على كرسيه، وتحول لإنسان جامد وهادئ.

ثم قال:"والآن انظر يا سيد بلوم. بإمكاننا أن نتفاهم حول المشكلة، أليس كذلك؟. أنا وأنت نعلم أنك لا تعبد هذا الشيء. ولكن ألا ترى أن وجوده خطيئة؟".

قال السيد بلوم:"ولكن نعم".

قال الحاخام بجنان ثابت:"آه، على الأقل أنت تفهمني".

قال السيد بلوم:"كلا. أعني أنني أقدسه".

واستوى الحاخام فجأة بكرسيه كما لو أن السيد بلوم، بائع النظارات اللطيف، صفعه على وجهه.

وبعد صمت طويل قال:"آه. يجب أن نناقش هذا الموضوع. ربما لاحقا، في الغد؟".

وفي اليوم التالي، اتصل الحاخام مساء ودعا السيد بلوم للتداول حول المسألة في مكتبه في المعبد.

قال الحاخام وكان من الواضح أنه مضطرب قليلا:"يا سيد بلوم. أود أن أتكلم معك حول الله".

ابتسم السيد بلوم وقال:"هذا اختصاصك أيها المبجل، وليس مجالي".

ابتسم الحاخام بدماثة وقال:"جيد. جيد. ولكن يا سيد بلوم حدد الله موقفه من الأصنام بشكل واضح. وفي الوصية الثانية كما تعلم. ذكر أنه لا إله غيري. ولا تتخذ لنفسك صنما تعبده. هذا واضح تماما".

وافق السيد بلوم على مضض.

وتابع الحاخام:"لا أرى كيف يمكن أن تعلن أنك تعبد تمثالا ولا يزال لك اسم في مجلس المعبد، ها أنت تفهم المشكلة يا سيد بلوم. ولا أجد وسيلة تسمح لنا باستقبالك في المعبد أبدا".

قال السيد بلوم بتواضع:"و لكنني أحترم القوانين وأرعاها. ولا زلت أصلي إلى الله. أنا يهودي دون شك".

باعد الحاخام ما بين يديه، وابتسم بعصبية وهز رأسه وقال:"آه، ولكن أنا الله ربك وأما إله غيور، هكذا ورد بالنص".

وفكر السيد بلوم بجانيشا، وبعينيه الواسعتين والهادئتين، وبأيديه المفتوحة بترحيب قل مثله.

وقال:"إذا كان الله عظيما جدا، لماذا يغار؟. أعتقد أنه لا ضرورة لأن ننكر ونخفي أنفسنا".

اسودّ وجه الحاخام، وقال:"أرى أنه يجب أن نتكلم لاحقا حول هذه المسألة يا سيد بلوم".

في اليوم الثالث، تلقى السيد بلوم مكالمة هاتفية. كانت في الصباح الباكر، قبل موعد افتتاح مخزن السيد بلوم بساعة. واعتذر الحاخام على التبكير وقال:" يا سيد بلوم، فكرت كثيرا بكلامك. أعتقد أنه يجب أن أشاهد التمثال بنفسي. وأتساءل هل يمكن أن تأتي به إلى هنا، إلى المعبد. في هذا الصباح؟. وأعتقد أنه يمكن حل المسألة كلها إن حملت التمثال إلى هنا".

ووافق السيد بلوم على ذلك. فهو يستفيد كثيرا من المعبد وحاخاماته، وهو يهودي فعلا. ومهما كانت ملاحظات الحاخام، فالاستماع لها مصدر اعتزاز للسيد بلوم. حزم السيد بلوم جانيشا بملاءة رقيقة، ووضعه على أرض صلبة. وحينما فعل ذلك، لامس جذعه المنحني بمهابة. وتساءل هل يريد الحاخام، مثل النبي إليشا، أن يطلب من جانيشا بدخول مباراة مع القدير، سيد الملائكة. وكان مهتما ليرى أيهما سينتصر.

انتظر الحاخام السيد بلوم عند بوابة المعبد. كان المبنى قديما ومهيبا. شيد عام 1920، وأحجاره الصلبة آوت أجيالا من المصلين، وشهدت العديد من الأغنيات المرحة والتراتيل. قاد الحاخام السيد بلوم في ممرات المعبد، ولكن ليس إلى صالة الصلاة الأساسية ولكن عبر سلالم حلزونية معطرة برائحة السدر وتوصل إلى منصة الفرقة، التي تعلو الخزانة المقدسة حيث تودع لفائف التوراة. ومن هنا كان بمقدورهم أن ينظروا إلى صفوف متدرجة من المقاعد في المعبد، وهي تلك المقاعد نفسها التي تمتلئ كل جمعة وسبت بمئات من اليهود، القادمين لعبادة الإله الواحد الأحد.

فتح الحاخام نوافذ منصة التراتيل الخلفية، وتنفس بعنق عدة مرات ثم التفت إلى السيد بلوم.

سأل:"هل أحضرت الصنم؟".

ولاحظ السيد بلوم أن الحاخام يبدو أقوى وأيضا أقل اضطرابا. فرافق بإشارة من رأسه.

قال الحاخام:"لنره إذا".

اخرج السيد بلوم الرب من اللفافة، وفك الملاءة الناعمة وقدمه له باحترام. واعتقد أن الرب الآن أثقل قليلا من يوم شرائه له. وانكمش أنف الحاخام بقرف. وقال:"ألا تعلم يا سيد بلوم أن هذا الشيء صنع بيد بشرية؟. وهو مجرد خزف وطلاء؟. كيف تقدس شيئا أنت صنعته؟".

وانتفض السيد بلوم بلا مبالاة. وبدا له من المستحيل أن يتاكد إن كان الحاخام لا يفهم تمثاله. وأخيرا، بمحاولة للإجابة، قال:"تبعت قلبي وعيني". ولكن أعتقد أن هذا لم يفسر عشر ما أمل بقوله.

نظر الحاخام إلى السيد بلوم لفترة طويلة. ثم بابتسامة صغيرة وضع ذراع السيد بلوم تحت ذراعه وجره إلى مكان قرب النافذة أيضا. كان المعبد في قمة مرتفع، ويمكن رؤية هندون من نوافذه، إذا نظر الإنسان من الزجاج الملون.

قال الحاخام:"يا سيد بلوم، أتمنى أن تعلم أن الله يحبك".

وأومأ بلوم بصمت. ونظر لوجه جانيشا المفكر والهادئ.

قال الحاخام:"لم أواجه حالة من هذا النوع. يجب استشارة المجلس الأعلى".

ووافق بلوم بهزة من رأسه أيضا.

قال الحاخام:"لهم رأي واحد. يا سيد بلوم يجب أن تفهم أن ما أفعله لمصلحتك". ثم بحركة خاطفة، لم تترك للسيد بلوم فرصة ليعترض، انتشل الحاخام جانيشا من بين يديه. واحتفظ به لدقيقة، ووضعه قرب صدره تقريبا كأنه يحميه ثم رماه لمسافة واسعة من نافذة المعبد. وبصوت هش ومنكسر تحطم جانيشا إلى آلاف القطع على الأرض الممهدة تحته.

قال الحاخام وهو يحني ظهره:"والآن يا سيد بلوم. ألا تشعر أنك أفضل. ها قد خلصتك من ذلك الشيء المنكر؟".

لم يرد السيد بلوم. نظر للأسفل على الباحة الممهدة للمعبد وشاهد اللون الزهري الناصع مع الشظايا الذهبية، تلمع تحت عين الشمس. وأخيرا، سمح للحاخام أن يبعده عن النافذة ويعيده إلى بيته.

لاحقا في تلك الليلة، سمح السيد بلوم لنفسه بالتسلل إلى المعبد بصمت. فقد كان أمين الصندوق لعدة سنوات ولا تزال لديه مفاتيح المبنى- دخل من البوابة الحديدية للباحة. وأحضر معه فرشاة ثياب ناعمة، وصندوقا خشبيا كان في غرفة المعيشة. مع حقيبة علقها على كتفه وفيها شيء أو شيئان أثقل. وببطء، وهو يحرك يديه بدوائر، كنس غبار جانيشا وحمله في الصندوق، وبعد أن انتهى، حفر حفرة صغيرة في أحد حوضي زهور الزينة، ودفنه هناك. وتساءل هل يجب أن يرتل بعض الكلمات على الضريح، ولكن لم يرد في ذهنه أي كلام مناسب.

ثم، وهو يتحرك بلا صوت، فتح باب البناء الأساسي للمعبد وتسلل منه. نادرا ما كان يأتي لهذه المساحة المغلقة وحده وليلا، وليس بلا مهمة ضرورية وخاصة. جمد قليلا، وفكر بالساعات العديدة التي يغلب عليها التأمل الهادئ والتي نعم بها في هذا المكان، وهو يستمع للتراتيل ونبرتها، هنا، ولأحاديث الزملاء، والحفلات والصلوات العامة وهي تصدح، والاحتفالات المرحة وأيام الجفاء والمعاناة. في اليوم التالي، أدهش موظفي المعبد أن يجدوا ان أبواب المباني مقفلة وأقفالها محشوة بالشمع. وخشية من الأسوأ، استدعوا صانع أقفال، وبعد جهد جهيد، تمكن من إزالة الأقفال من الأبواب. ودخل الموظفون- ومعهم جمهرة من الناس سمعوا أن شيئا ما يجري في المعبد- وبدأ الجميع يفحص ما حوله بذعر.

كان المعبد أطلالا محطمة. المقاعد مكسرة، والستائر ممزقة، والشمعدانات ملتوية، والنوافذ مهشمة. وفي الوسط كان السيد بلوم يقف والفأس بجانبه والعرق يغطي ثيابه.

قالوا له:"لماذا فعلت ذلك؟".

قال:"أنا؟. أنا؟. أنا لم أفعل هذا. هذا ما فعله القدير".

ونظروا حولهم مجددا للمقاعد التي تحمل علامات وآثار ضربات الفأس العميقة. وللأماكن التي تمزقت فيها المفروشات بما يتناسب مع فعل بد بشرية.

قالوا له:"الله لا يفعل شيئا!. والله لا يمكنه أن يخرب بهذه الطريقة".

فقال:"لماذا تعبدونه إذا؟".

ولكن لا نعلم هل شعر المستمعون بالامتنان لهذه الإضاءة التي تشع من وراء كلماته..

 

في نصوص اليوم