نصوص أدبية
في الساحة.. مشاعر مختلطة
بعد أن أوصل المتظاهرة الجريحة الى أقرب مفرزة طبية، عاد عباس يقود عجلة التكتك الى المكان الذي نقلها منه. كانت هناء قد التحقت بالتحرير، بعد أسبوع واحد على انطلاقة التظاهرات الشبابية التي سرعان ما تحولت الى انتفاضة جماهيرية، شاركت فيها أعداد كثيرة من الطلبة والأدباء والفنانين والمحامين وأعداد من العاملين في المجال الطبي، وغيرهم من قطاعات مختلفة. كانت هناء واحدة من أولى الشابات اللواتي شاركن في التظاهرات، كمتطوعة لإسعاف الجرحى، لكنها سقطت هي نفسها متأثرة بإصابتها نتيجة إطلاق رصاص حي وقنابل دخانية تحتوي على غازات سامة قامت بها عناصرٌ أفرادها ملثمون ومدججون بالأسلحة، أسمتهم الحكومة بالطرف الثالث. وهي تسمية وهمية تبين أن الغرض منها محاولة التملص من مسؤولية العنف الذي تمارسه قوات أمنية، ليست محسوبة على الشرطة أو الجيش، كما جرى الحديث عن ذلك لاحقاً. لم يكن الغاز الذي إستخدم ضد المتظاهرين تحتويه القنابل مسيلاً للدموع فقط، بل وحمل مواداً قاتلة، حسب معطيات وتقارير إعلامية مختلفة. بعض تلك القنابل وجه مباشرة الى الرأس والجسد مما تسبب في حالات قتل لمن أصابتهم هذه القنابل، نتيجة ما تحتويه من مكونات كيمياوية، ولثقلها الذي يزن عشرة أضعاف القنابل المسيلة للدموع العادية، التي عادة ما تطلق في الفضاء لتفريق متظاهرين.
وعلى أثر إصابتها دخلت هناء إبنة التاسعة عشر عاماً والطالبة في معهد التمريض العالي، في غيبوبة. فحملها المسعفون الى التكتك الأقرب اليهم، الذي إنطلق بسرعة قصوى الى حيث تركها تعالج من الجروح.
أدار عباس عينيه في المكان الذي سقط فيه الشهداء والجرحى، فلم يجد أثراً لأحد منهم. إذ تم، وعلى وجه السرعة نقل المتظاهرين المصابين بجروح صعبة الى مواقع أخرى لطبابتهم، والقتلى الى أقرب مستشفى. ولم يبق في المكان سوى بقايا دخان وغازات تلوث الجو، وبضعة أشخاص يستأنفون أعمال التنظيف وطلاء الأرصفة، ورسومات غرافيتي على جدران نفق التحرير. وهي الأعمال التي كانوا يقومون بها قبل رمي القنابل المسيلة عليهم من قبل مكافحة الشغب. بعد دقائق عادت أيضاً جموع غفيرة من المشاركين في إنتفاضة تشرين الى الساحة وهم يرددون الاغاني والاهازيج الشعبية مطالبين بإستعادة الوطن من أيدي الفاسدين "نريد وطن"، وغيرها من الشعارات والمطالب.
أركن صاحب التكتك عجلته قرب أحد الأرصفة، ليس بعيداً عن منطقة السنك ليستريح قليلاً. وكانت هذه المنطقة قد شهدت معارك غير متكافئة بين مسلحين ملثمين ظلوا يطلقون النار فترة من الزمن وشباب عزّل ينادون بتعديل الميزان الذي مال كثيراً.
شعر عباس بخدر في جسمه، إذ مرت عدة ايام وليالي لم يذق فيها طعم النوم، وإحتاج لإستراحة، ولو قصيرة، ليستعد، بعدها، لجولة جديدة من المساعدة في نقل المصابين، حيث عاودت قوات مكافحة الشغب، التي أسماها المنتفضون، تهكماً، قوات مكافحة الشعب، إطلاق القنابل الدخانية والرصاص الحي، التي سقط على أثرها عدد من المنتفضين جرحى في الساحة وعلى جسر السنك، بعدما حاولوا إزالة الحواجز الكونكريتية التي نصبتها القوات الأمنية، بهدف العبور الى الضفة الأخرى من دجلة وصولاً الى المنطقة الخضراء، حيث مقرات الحكومة والبرلمان..
هرع المسعفون الى المكان وقاموا بنقل الجرحى الى مواقع خلفية من أجل اسعافهم ، لكن بقي جريح واحد لم يتمكنوا، وهم قلة في هذا المكان، في ذلك الوقت من الوصول اليه، نتيجة استمرار الرمي بكثافة على مجموعة من المنتفضين الذين تحصنوا خلف السواتر.
لم يكن عباس قريباً من المكان، لكنه لاحظ كيف كان الشاب الجريح يصارع من أجل الزحف خلف قطع كونكريتية مهشمة. لم يستطيع أن يبقى مكتوف اليدين دون عمل شئ، هكذا تربى على الشهامة ونكران الذات، رغم معاناته وأهله من العوز وضنك الحياة، حيث لم يبق من عائلته سوى والدته التي تحاول أن ترتق معيشتهما، بعد أن فقد أبيه وأخيه الأكبر سناً في إحدى حروب النظام السابق.
إستطاع عباس إكمال الثانوية، لكنه لم يستطع إكمال دراسته، فلجأ الى أن يعمل عتالاً في سوق الشورجه، حتى جاءه الفرج ذات يوم، من أحد أصحاب محلات الأقمشة التي كان ينقلها عباس على كتفه من المخزن الى المحل. فقد إشترى صاحب المحل لعباس عجلة تُكتك لينقل بها البضائع. لم تسع عباس الأرض من فرحة عارمة غمرته حينها.
إستمر عباس في عمله في نقل الأقمشة، وبعد انتهائه من هذه المهمة يقوم باستخدام عجلته لنقل كبار السن من السوق الى اماكن سكناهم القريبة، فيحصل منهم على أجرة بسيطة، كل حسب إمكانيته. أصبحت هذه العجلات وسائط رخيصة للنقل، كما ساعدت الشباب العاطلين عن العمل على الحصول على ما يمكنهم من تدبير المعيشة. لكنه وعندما انطلقت التظاهرات الشبابية في ساحة التحرير وتحولت الى انتفاضة عارمة، وجرت مواجهتها بالغازات المسيلة للدموع وغيرها، حيث سقط جرحى كثيرون، أصبح التكتك وسيلة لنقل الجرحى والمصابين بدلاً عن سيارات الاسعاف التي لم من غير الممكن تسييرها في المناطق الضيقة وشق طريقها الى مكان المصابين. وهذه مهمة التكتك، السريع التنقل عبر الازدحامات.
لايدري عباس كيف ومتى حدث ذلك. فقد وجد نفسه بين جماهير الشبيبة المنتفضة، الى جانب عدد كبير من أصحاب عجلات التكتك التي لقبت بإيقونة الإنتفاضة، لما شكلته من رمزية لامعة، من بين دلالات شتى أفرزتها منذ الاسبوع الأول. في بداية الأمر كان يمكث في الساحة ساعة أو ساعتين، لكنه إعتاد في الأيام التالية البقاء لساعات متأخرة من الليل. يساعد في نقل الجرحى والمصابين، ولكن أيضاً الزائرين الى قلعة الثوار، المطعم التركي، الذي سمي بجبل الثوار.
تحرك عباس بعجلة التكتك على نحو سريع وأوقفها في مكان قريب من سدة كونكريتية وسحب نفسه حتى وصل الى الشاب الجريح. كان كتفه ينزف وهو في شبه إغماء. لم يكن لدى عباس أية مواد طبية أو إسعافات اولية، فقام بتمزيق قميصه الى قطع (خرق) ربط بها الجرح بغية إيقاف النزيف. ثم حاول سحب المتظاهر الجريح الى التكتك. لكن كثافة الرمي وثقل الشاب منعاه من فعل ذلك. في تلك الاثناء تقدم اليه، وتحت وابل الإطلاقات، رجل كبير السن وبيده كيس من القماش مليئ بالاسعافات الأولية. أخذ عباس الكيس من الرجل وأخرج منه الضمادات ومواد التعقيم وبدأ بتطهير الجرح وشدّه بلفاف. لم يكن عباس قد تلقى أي تدريب على الاسعافات الأولية، لكنه كان يشاهد كيف يعمل المسعفون في ساحة التحرير وتعلم منهم.
جلس الرجل الى جانب عباس يتطلع اليه بعيون حائرة وهو يقوم بإسعاف الشاب. ثم أمسك بيده وشرع يقبلها متوسلاً إليه أن يعمل مابوسعه كي ينقذ هذا الشاب. سحب عباس يده بسرعة، وبكى لبكاء الرجل الذي امتزجت دموعه بكلمات خرجت متعثرة بحزنها :
- أنكم مازلتم شباب ولابد أن تعيشوا، فالوطن بحاجه لكم. أما أنا إن مت فلا بأس، فأنا كبير بالسن وعشت حياتي طولاً وعرضا. وقدمت كثيراً للوطن. كانت كلماته تلك تمهيداً لفكرة طرأت في باله، قد تكون شبه انتحارية، من إجل انقاذ الشاب الجريح إذ قال الرجل الى صاحب التكتك:
- أنا سأخرج الى رجال الشغب وأسير باتجاههم، وأنت أحمل صاحبك واذهب به الى أقرب مفرزة طبية.
رفض عباس طلب الرجل المسن وأقنعه بالعدول عن عما فكر القيام به، اذ قال له، والدموع منهمرة من عينيه:
- حجي، لو نطلع سوية لو تبقى معي نتدبر أمر نقل الجريح.
إضطر الرجل البقاء خلف الساتر، حتى سنحت الفرصة بوصول مجموعة من الشباب من الجهة الاخرى، مما جعل عناصر الشغب يتراجعون قليلاً، فتمكن عباس والرجل المسن من حمل الشاب الجريح الى التكتك، الذي انطلق بهم كالحصان الجامح، الى المفرزة الطبية التي نقل اليها عباس الفتاة. وكان الرجل المسن وهو يمسك بكتف الشاب الجريح بيد، واليد الاخرى تمسك بباب العجلة للتخفيف من شدة اهتزازها التكتك الذي يقوده عباس بطرق خلفية وبسرعة من أجل ايصال المتظاهر الشاب الجريح بأقرب وقت ممكن.
ما أن وصلت التكتك الى مكان المفرزة الطبية حتى هرع افرادها وهم يرتدون الرداء الأبيض وحملوا الفتى على سدية الى داخل خيمة العلاجات. عندئذ التفت عباس الى الرجل المسن شاكراً له ما قام به.
التفت الرجل اليه وهو يحاول أن يداري غصّة في حلقه. ثم قال:
- يابني، على اي شئ تشكرني.. أنا قبل الخامس والعشرين من تشرين الأول، كنت في عداد الموتى من شدة اليأس. والآن حييت من جديد. بعد هبتكم هذه لتصحيح المسار الذي حرفه ساسة الصدفة. قال الرجل، الذي واصل كلامه وهو يداري قطرات دمع غافلت جفنيه وانزلقت على خديه فبللت لحيته:
- لا اخفيك سراً، يا بني، بأنني كنت خائفاً على إبني الوحيد، الذي عصى أمري والتحق بالتحرير، لأنني كنت خائفاً من أن أفقده مثلما فقدت أخيه في مجزرة سبايكر، فبقيت أتابعه ومعي كيس الإسعافات الأولية، لأنني حلمت به جريحاً، وهذا ما حصل بالفعل. لكنني لما رأيتك كيف تخاطر بحياتك لتسعفه، إنتابتني مشاعر مختلطة. أدعو له بالشفاء ليعود الى الساحة. وإن ذهب شهيداً فسأحل محله.
***
قصة قصيرة:
طالب عبد الأمير