نصوص أدبية

عرافة من حلم المستقبل

محسن الاكرمينحلم يتكرر

لم تكن تعرف من حياة إيثري إلا ذلك الحلم الذي عاوده مرات عديدة، وكان يوثر إسرارا على مكاشفة العرافة به و بتفاصيله المملة. كان إيثري وهو يحكي حلمه الليلي المستنسخ بالتكرار، يتودد من العرافة الجميلة أن تجد له تفسيرات وتخريجات غيبية لا قدرته له على إدراكها في متسع واقعه الفضّ، كان يتسنى من العرافة الجميلة أن تعرّف له زوايا المستقبل من خلال ما أتاها حجابا من ماضي الأزلام.

هي العرافة الجميلة التي تسلك كلماتها الشفاه مثل البلسم الشافي، هي العرافة التي تؤثث عيون رموشها تفتح نوارة عبادة شمس فصل ربيع مطير. من زينتها المتناسقة، كانت العرافة تجاوز بين لباس الحاضر والماضي، كانت تستحسن ألوان رسومات لوحات التشكيل الانطباعية، كان يحلو لها تجديد أوراق لعب "الكارطة" عند كل جلسة جديدة.

عرافة جميلة تتصدق على الآخر المرتبك في جلسة الاستماع بالكلام الجميل، لم تكن قط قد امتهن القتل السلبي في كلامها، بل كل تجاربها قد علمتها أن من الكلام المليح تكون "الحاجة مقضية". معرفة إيثري الشخصي بالعرافة الجميلة، مكنته من حظوة المعاملة ومتسع الانصات. فقد كان انطباعه من إنصات العرافة له بإمعان، قد خلق عنده ثقته مستفيضة من كلامها والتي داومت على أن تعرض عليه فرصا سهلة للعلاج الروحي من جروحه الداخلية ومثيراتها الخارجية الناقصة.

حلم إيثري الذي كان يعاود مخيلته النومية، قد كان هروبا في غابة منحدر جرفي، كان هروبا عشوائيا من فزع غير مرئي، ومع أناس لا يذكر ملامحهم الخصوصية، ولا يعرف لهم اسما و لا صفة. الكل يركض باتجاهات عشوائية من غير وحش غابة مفترس، الكل يركض بمسارات تبحث عن موطن الأمان، الكل يركب أنانيته الفردية ويطوح بمن تقدم عليه أرضا ويزيد من سرعة الجري بدون خط وصول. من مفزعات إيثري حين توقف حديثه للعرافة الجميلة أن المنحدر انتهى بواد سحيق، انتهى بأشباه بشر عري مكدسين مثل السردين في علبه الرخيصة، من مفزعات إيثري حين وصل حد الوادي السحيق لم يقدر على القفز ماء، لم يقدر على أن يختلط جسده بأدران من يعش في مستنقع الوادي بالعويل والصياح والتمسك بالقشة التي لا تنقد حتى بعوضة المستنقع بعينها.

**

عرافة من الزمن الحديث

انتصبت أعين العرافة الهلالية بالتزين المستملح الفاتن، ولم تبح الشفاه المطبقات ولو بكلمة، انتصبت العيون بأوامر متابعة الحكي دون مهاودة مع المهانة التي يمثلها قوم مستنقع الوادي الفاضح. لم تستكن نبرة إيثري نكوصا عن الكلام، بل ابتسم أمام العيون الغجرية، وارتأت له حرية التحرر من كل نقص وعيب في الشخصية السفلية المشكلة بالآهات، ولن يتم ذلك إلا بنفض متتال لكل الكلمات الراسبة بالسلبية، وهو بمثابة تحدي إيثري لذاته، ولزمن عيشه.

لم تكن شهادة الحلم الموالية أن تمرر إلا عبر كلمات جميلة تماثل قوة حضور غنج العرافة، يقول إيثري: ارتأت الحرية لي ألا تكون بين الأجساد العارية في منحدر الوادي، ارتأت لي أن أعاود كرّة الهروب في المتجه الأصعب تسلقا، ارتأى لي الأمان في شق طريق وسط الغابة. يقول إيثري: تحركت بسرعة إعادة التسلق، فلم تكن مناولة العوائق الطبيعية ولا الذاتية ممكنة بظن السهولة، بل كانت كل المحاولات تتم من خلال قوة المناولة المتكررة، وصدق الثقة في نجاح والوصول خط الأمان.

إيثري انتفض بعدا عن الأجسام الموحلة بالعري في قعر الوادي السحيق. إيثري وجد نفسه أمام ظبية مستلقية أرضا ولا تتململ من شدة ثقل حملها القريب الوضع. إيثري وقف عينا لعين مع الظبية التي علمته أن الوقوف بعد الهروب ما هو إحساس بالأمان وتخطي الفزع، علمته أن الشغف الوحيد في الحياة حين يهزم الإنسان خوفه الداخلي، و يتخطى أحزانه، ولما حتى آلام ذاكرته المجرورة من الماضي .

ارتد جسم وذاكرة إيثري بمجلس العرافة الأنيقة الأصابع، ارتد طرف عيونه المائلة أرضا نحو ملامسة محاسن العرافة بالقرب، تململ بخفة نحو تعديل جسمه المتهاوي أرضا بالكسل، وانتظر حتى انتهت العرافة من رش بخور شرقي بدخان متوج على غرفتها المظلمة، تحدثت العرافة وهي تلامس كف ايثري قائلة: على سلامتك، ثم أقسمت العرافة بغليظ القسم ألا يعود إيثري إلى بيع روحه للموت، أقسمت له أن المهانة والتمرغ في الوحل وعري المواقف سيراها تحترق بلا دخان، ولن تحدث عندك أثرا لضغط النفسي راجع، أقسمت له أن متعة استعمال الفولاذ واللحم لن تدون لذة قوة حسية، أقسمت له أن الموت والحياة معبر لتجسير الأفعال الخيرة وقتل الشر، أقسمت له أن تعريف الفرح يكون بين مرحلتين من حزن، أقسمت له أن العرق والتبرج العطري ما هو إلا خداع من الجسم لتمويه الفريسة.

على سلامتك إيثري بهذه الكلمات نهضت وقوفا العرافة الجميلة وشدت ايثري وقوفا بتساوي الخصر. الآن، الدم الصافي من قوة عزيمة الظبية دم يسير في عروقك بالأمان، أما معاودة المناولة هو في هزيمة الألم الذي يلفك في شرنقة بيت العنكبوت، هو في القتال المستميت لأجل الحرية، هو في مجابهة بشاعة عري وادي منحدر المستنقع، هو في بناء الحياة وسد فجوة الألم.

***

(ويلات ذاكرة حالمة)

محسن الأكرمين

 

 

في نصوص اليوم