نصوص أدبية

شجرة من غابة مُنْقرِضة

صحيفة المثقفعلى عتبة اليقظة.. دهم مَسمعي ما يشبه دوي انجراف حمولة واد، من مياه وحصى وأتربة.. إنه صوت المحركات الانفجارية يصدر من بعيد.. من جهة ما، وقرقعة إناء متقطعة؛ إنه الجار يتوضأ لصلاة الصبح، وبكاء رضيع ارتفع فجأة في هَدْأة الغَسَق[1]؛ تُبكيه معدته الفارغة، ونهيق حمار ثلم جدار الصمت، وزعيق[2] قطين يتأهبان لنزال دام، وسعال يخدش حنجرة صاحبه.

وجدتني ممددا على ظهري، ورأسي غارق في الوسادة الليّنة. وجهي إلى سطح الغرفة. فتحت عَينـيّ.. أضواء الشارع تُجاهد ظلمة تغرق فيها معالم المكان. كما يومض البرق في ظرف لحظة، فيخطف البصر، وكما يُزلزل الرعد السحب الثقيلة، والجدران.. يُجهر مكبر الصوت بتكبيرة المؤذن، تحمل صداها نسائم الصباح؛ لتُرَجِّعها شعاب نائية.

يستحث الآذان؛ ويُذكّر؛ ويُنذر.. أفي اضطجاعي ما يوحي بالموت.. بالفناء؟ ليل الفجر ضارب في الظلمة الحالكة؛ في السكون الطاغي، والهدوء المطبق.. إنها رهبة القبر.. تخنقني. يعاودني الإحساس بذنوبي الكثيرة.. أفي استلقائي ما يوحي بمومياء لإنسان لفظ أنفاسه؛ فمدد كهنة جثته، في بواطنهم تغــور أســـــرار التحنيط؛ على قاعــــدة من حجـــر الصلصال أو (الكَرانيت)، يشقون بطنه، وينتشلون منها الأمعاء والقلب؛ ثم يعالجون جلده بمحاليل، ويلفونه بلفائف من ثوب.. إنها قماطه وهو وليد لم تتفتح بعد عيناه على الدنيا؛ بطقوس دينية مهيبة تذكر بيوم البعث؟

وما رأيته أيضا في حلمي منذ لحظة؟

أسرعت دقات القلب، وانتظمت الأنفاس في حركة صاعدة وأخرى هابطة، وتفجر العرق من الجسم، وضايقتني سخونة مضجعي، ومَخَطَ الأنف هواء لافحا.. أرزح تحت غمة الحلم.. تغلف قلبي أهواله .. لحظات اللذة يَغْصِبُها منا العمر الطويل، ورغبة الشباب الطافحة، والنفس اليانعة تفور بالحب.. كنت أقول.. وتزحف الشيخوخة؛ فتفتر الأعضاء، وتضمحل الإفرازات، وتخبو الشهوات، فينكفئ الجسد وينطوي على نفسه.. حينئذ تفيض الصدور بدعاء الغفران..

وفي حُلمي بلغت من العمر عِتِيّا.. تشنجت راحتي على العُكَّازة .. أتكئ بجسد واهن.. عروق يدي ديدان بارزة من دم قانئ[3]، وصديد[4].. عظامي تكلّست.. يبس الجلد، في كهف صدري تذهب أنفاسي ثقيلة وتؤوب بحشرجة تختل لها دقات القلب.. صغر وجهي في قبضتي .. تَكَرَّش جلده، وبرز الصدغان، وغار القذال، وذابت الشفتان.. عيناي تلتمسان النظر من عدستين سميكتين، فلا يخب مسعاهما، فأرى أطيافا تروح وتجيء، وهياكلا وأحجاما. ضربت يدا بيد في حزن ويأس.. ويحي ضاع العُمْر، ومسحت ارتجافات أناملي دمعة.. ويحي ولا نأمة عفو من الرّحمن.

رحلتي على سطح الأرض كانت بلا هَوَادة[5]، أسري ليلا لأسرق نعمة الآخرين، وأصبح مُقامرا مفلسا، أو رابح الورقة المغشوشة. أمسي ويداي تلملمان ما تبرأ منه عرق الجبين، لحيتي بيضاء كالثلج، أواري عنها خجل الزلة، وحبيبات العرق يندى بها الجبين. اِنغرست في شعرها أصابعي..كان شيبها كثٍّا.

تلفت حوالي بذهــول.. اِنتفضت مذعــورا.. نساء كثيرات تزوجتهــن، وأبنائي وحفدتي ينزرعون كسيقان السنابل.. في خلاء ضارب في الامتداد، وزوجاتهم حملــن بعد وحام عسير، ينتظرن مواليـــدا، ورأيــت بناء هنا، وبناء هناك، وآخر هنالك، وامتد البصر.. اليابس من الأرض بدا في مقلتي شظية من صخر بلوري مخدوش بوجوه الجداران، ولم أر أثرا للشجر.. البناءات تماسيح شرهة التهمت الشجر واستساغت خضرته. تقهقر عَجَبي، فطأطأت رأسي.. عيناي تنطقان بشهادة إثبات.. في يدي حزوز، بطشت في يوم ما بنبتة لحظة انفلاق البذرة، وبشجيرة تلوح عليها براءة الصغار، وطفحت في يوم ما على الوجه آية حماس يختلج في الأعماق؛ حين هدر بسُعَار مُحرك جرافــة الأتربة؛ والعشب والشجر، ومُمهدة مسالك، وطُرق، ورافعات تخرق السحب بلبنات من الإسمنت، والرمل، وأسياخ الحديد..

بعد مائة عام كان عصر الإسمنت قد ولى، فأقفر تراب البراري بذُرَارة جُدُر[6] خضخضوها عُنوة، فانشقت، وتهاوت، وسُحقت، وجيء بالزجاج المانع لأشعة الشمس، و( الألمنيوم ).. عمود يعلوه آخر، فتعاقبت الأعمدة.. وما بعد السحب ترددت طبقات وعوالم.. مدن في الأرض وأخرى في السماء..

ظل الأشجار كان يُنعشني.. الكلأ حين تجتره الأنعام تداعب رائحته أنفي.. الزهر.. التُّرع.. العيون.. الغربان.. السمّان ..لم يبق من هذا شيء.. حنيني إلى نعيق النوارس.. إلى خوار البقر.. إلى عواء الذئاب.. إلى نباح الكلاب ..إلى صياح الديكة.. إلى زعيق تيس.. إلى صهيل حصان.. وندى الصباح.. وضياء القمر.. وحمرة المساء...

كِسْرة رغيف من طحين الشعير، مُجمّرة على نار وقودها روث الدواب يبسته أشعة شمس الصيف الحارقة، تُشعرني بشظف العيش وبالزُّهد.

في بهو سقفه قبة غارقة في زرقة تتلألأ فيها نجوم سماء، وأجساد في دبيب لا ينقطع.. تروح وتجيء.. تتحلق بقامات مختلفة الطول حول بيت من زجاج.. تحيط وجوهه الأربعة بشجرة ينسرب إليها بمقدار عبر أنبوب أُكسجين مُعبّأ، وتنبت في تربة غير التراب، وتُسقى بسوائل كيميائية، يُسلط عليها ضوء كاشف ثابت، اِسترعت انتباهي لوحة تومض كلمات جملة:

"هذه شجرة من غابة منقرضة "

كتمت السؤال: "أفي مدينتنا شجرة ؟".

قد أثير سخرية قوم لم أعد منهم أنا الذي أهْرَمني الدَّهْـر.

"هل هي حقا شجرة، أم هي فقط صورة لها" مرة أخرى سَرَّ خاطري السؤال، ورنوت إلى الشجرة، وإحساس مُفاجئ بالزهو يغمرني، فافترت شفتاي عن ابتسامة الظفر، ارتخت له تقاطيع الوجه، ودب في العينين، فنظرة خبير بالأشجار باردة.. تسلقت الشجرة في صباي، وعبثت بأعشاش الطيور، وصنعت من فروعها قوسا، ونبالا وسيفا وصولجانا، و تمددت للقيلولة تحت ظلال أوراقها الوارفة وقت الحر.. فمن ذا الذي يَدّعي معرفة الشجر؟ هؤلاء أفراد من أجيال متأخرة لم تر الشجر عن كثب.. كان البناء قد زحف وابتلع طوفانه التراب الخصيب والشجر.

أوراقها لا تهب عليها الرياح، فهي ثابتة.. لونها أخضر غامق.. نظيفة، تعكس بريقا.. يبدو أن يدا تُعنى بها، تمتد إلى طبقات الغبار فتزيلها برفق، وتغسلها بسائل ما، وفروعها مقلمة بعناية، تنفلــق عيدانها عن فروع أخــرى طرية، ووريقات تنِزُّ خضرة يانعة..

تذكرت الجذع؛ فحدجته[7] ببصري.. حفر العشاق أسماءهم في لحائه، وتواريخ هيامهم، وقلوبا تدميها السهام، و قرأت عليه تعييرا، وما نعابه من كلام، وإمضاءات، وكتابات مبهمة، وكنية امرأة ذائعة الصيت، تحكي قصة ليالي المباح في زمان ما من تاريخ المدينة العريق، وبه آثار قيد وسوط، وكلمة الشعب، وخدوش دُبّ، وثقوب منقار الطائر النقار، وحروف تختزل اسم فريق كرة القدم، وفرع متفحم، وشعارات، وأمثال، وآية منشار ميكانيكي، وموعد لقاء محموم،  ومسمار مدقوق، وسلك مغروز..

عاث السُّوس في بعض أجزائه نخراً.. همست له:

"تصنّت بوجد يائس لعاطفة هسيس، ولهمهمات، وللُهاث وأنين.. إني أغبطك في صبرك، فما صبر أيوب عليه السلام إلا النزر القليل من صبرك.. فما أعظم كتمانك، وجميل حِلْمك..لم تلِن أو تنكسر.. وقفت صامدا فلم تنل منك نوائـــب الدهر، ولا عوادي الزمـــن. أوغروا في جسمــك سكاكين وخناجر، فكان نزيف صَمْغك[8] دما، وأضرموا النار في جانــب من جذعك، ولاذ بظلالك هارب من قيظ الظهيرة، وراع غنم تغنى بِنايِه، واستحملت رجلا قضى حاجته، فلم تُبد ضجرا أو تأففا.. أنت زاهد متنسك، اصطبرت أذى الناس. استمسكت بخُلوتِك ولُذت بمِحْرابك؛ فلم تزغ عن طريق التوحيد".

جِذع شجرة يسرد يوميات من حياة مدينة اندرست، وأصبح اسمها فقط على ألسنة الرّواة وفي كتب التاريخ.

كان صفحة من كتاب أجهد عيني، فتنحتا قليلا إلى أعلى رحمة ببؤبؤيهما، فاكتشفتا صدفة أشرطة من أثواب مربوطـة إلى الفــروع في ألوان قوس قزح، ومناديلا، وأحزمة من خيوط مفتولة، وألبسة داخلية، وخضابا بالحناء.. إنه من فعل نساء ضِقن درعا بحماقات أزواجهن، أو كابدن حياة العنوسة، أو أصابت إحداهن لوثة[9]..

فالشجرة إذن كانت تركن إلى جدار ضريح ولي صالح، تتودد إليه، تلتمس حمايته، تعانق فروعها الكثيفة قبُّته بلهفة، وتظلله بأوراقها.. وهو يتشمم عطرا أخضرا، ويتحسس طراوة لحائها.. وهي تنعم بالاستقرار، والهدوء في كنفه.. يدرأ[10] عنها استئصال الجذور، واجتثاث الفروع، وتتنشق المسك والطيب والنّدّ في حضرته، وتتغذى جذورها بما يُدلق على الأرض من ماء بئر لا ينضب..

ونقلت عيني إلى وجوه الواقفين، نسخ لأصل واحد.. ساكنة.. اندمغتهم الشجرة، فعكست صفحات الوجوه أثر ذلك: الشَّدَه[11].. وجذبت إلى حقل مغناطيسها عيونهم، وانصهرت أحاسيسهم المتضاربة، وميولهم المتنافر في مِرجل التعدين؛ فتدفقت رحمة.. نطقوا بذات الأسئلة:

- أفي مدينتا شجرة؟ من أي نوع هي من الشجر؟ أ لهذا الحد تؤول الشجرة.. حبيسة صندوق زجاجي؟

أنتم يا أجداد الأجيال اللاحقــــة رصصتم بنـــاء بجانب بنــاء.. بجانب بناء، وراكمتم بناء فــوق بناء.. فوق بناء، فلعقت البناءات الماء، والتهمت الأرض والشجر..

جدي.. جدي.. جدي..

أصخت السمع.. أيعنيني النداء؟ أفسدت الذاكرة ما أنعم به من لحظات الطمأنينة بما تختزنه من المسكوت عنه.. من جرم فاعل، وجريرة المذنب؛ لم أسنح لهامتي فرصة التفاتة إلى مصدر الصوت.. فقط شزرت عيناي في تنكر.. آه ما أقسى عتاب الأبناء!

إنه أحد حفدتي، شدت يده أطراف جلبابي بإلحاح، لا أعرف له اسما لكثرة ما تفرع عني من بنين وبنات.. لا يهم فهو حفيدي وكفى، وجميع حفدتي سيان عندي، يداه في حركات مترددة، يطوح برجل ويهمز بالأخرى، نظراته سريعة؛ ينقلهما من وجهي إلى الشجرة؛ ثم يعود ليجول بها في هيئتي، أشار بعصبية بسَبَّابته إلى الشجرة، سأل:

- ما هذا يا جدي؟

- هذه شجرة..

نظر إليها برهة ثم إلى نقطة أنأى منها، خمنت أن في ذهنه غموضا ما يزال يكتنف هذا الشيء الذي يستفسر عنه:

- وما هي الشجرة؟

- كما ترى.. شجرة لها جذور وجذع ضخم، وفروع مختلفة السمك والطول، وأوراق خضراء.

أعاد ما سمعه مني بصوت خافت، وسألني للمرة الثالثة:

- من صنعها؟

ونحن بعد أطفال كنا نسأل نفس السؤال فيجيبون: الله، فأجبته بلا اكتراث:

- الله سبحانه وتعالى.

- الله؟

- نعم الله

صمت لحظة وسأل:

- من الله؟

- هو الذي خلقني وخلقك.. والأرض والشجر والحيوان.. هو خالق كل الكون.

- أين هو أريد أن أراه؟

- إنه بيننا يعكس وجوده كائن الشجرة.. ألا ترى لمساته الفنية في جذعها، وفي أوراقها.. وصَنعتُه في فروعها.. مجرد شعورنا به يؤكد حضوره..

أتى بإيماءة برأسه أن نعم.

أعقب الحوار لحظات صمت.. تذكرت وقائع الماضي، صور من مذابح الشجر تتراءى لي؛ كانت جذوعها تُجزّ بفظاعة. غالى الضمير في تأنيبي، ولاحظ حفيدي احمرار الخجل يكسو وجهي، وارتباك يكتنف حركاتي، فخاتلته:

- ما رأيك يا صغيري في رحلة البحث عن البقايا المتحجرة للغابة المنقرضة؟

رفرف كعصفور من الفرح، وصدح مُعبّرا عن التمرد.. صيحته تشي بنفس متعطشة للانطلاق نحو المجهول، فسلكنا مسارب لا حد لها.. وعرة وضيقة، واخترقنا بذهول فجاجا عميقـــة، وهبطنا بقلوب مروَّعة في وهـــاد معتمة، وتسربنا في كهوف مظلمة أدمتنا نواتؤها الكارسطية، بأدمغة يكاد يتلفها الخوف.. ولم نعثر على أثر للغابة المنقرضة.

 

تمّت.

أحمد القاسمي

..............................

مرجع شرح الكلمات: المعجم الوسيط  الصادر عن مجمع اللغة العربية بالقاهرة.

[1] الغسق: ظلمة الليل.

[2] زعق: صاح صيحة مُفزِّعة.

[3] قانئ: شديد الحمرة.

[4] الصّديد: القيح الذي يفسد به الجرح.

[5] هوادة: اللين والرفق.

[6] جُدُر:  جمع جدار .

[7] حدجه ببصره: أحدَّ النظر إليه و حدَّق.

[8] الصَّمْغ: مادة لزجة كالغِراء تتحلب و تسيل من بعض الأشجار.

[9] اللوثة: الحمق و الهيجان .

[10] دَرَأَ الشَّيء: دفعه.

[11] الشده: الدَّهشة والحيرة.

 

 

في نصوص اليوم