نصوص أدبية
عدسة الأمل
لِم هذه القسوة منكِ!؟، اعرف انكِ صادقة لكن صراحتك نفسها تعيدينها عليّ في كل مرة، تعيدين الحقيقة التي تقتلني وترميني بكف (لا تعرف للرحمة ولو حيزا ضئيلا) في اقسى متاهات الضياع ومرابع الطمر الوجودي وزوايا القهر الروحي .
هذا ما قالته للمرآة فلم يكن في الحياة شيءٌ تبغضه مثل كرهها المرآة، فالمرآة عندها آلة بمنتهى الإزعاج، فهي تخبرها بدمامة شكلها وقبح تفاصيل وجهها المكتئب دوما، وبسبب ذاك الوجه الذي شحت فيه أقمار الألق، أرادت مرارا ان تجري تحسينات كما تعرفها النساء فلم تفلح، فاضطرت ان تعايش الأمر بصمت مع الاحتفاظ بجروح غائرة لذلك (العيب العظيم) او هكذا كانت تحسبه .
واضطرت ذات يوم ولأجل عمل معاملة تتعلق بعملها ان تأخذ صورا شخصية جديدة، وهكذا ذهبت لمحل تصوير لم تعرفه مسبقاً .
وحال التقاط الصور وعدّها المصور ان الصور ستجهز خلال يومين، ولما عادت وقبيل دخولها المحل بثوان فوجئت ان صورتها مكبرة بحجم متوسط وموضوعة على أحد رفوف واجهة المحل الزجاجية، بدت بالصورة بكامل قبحها الذي عهدته على نفسها، وهمّت بالدخول فورا لمعاتبة المصور، ولما كان في المحل بعض الزبائن آثرت الصمت لحين خروجهم، وكان ذلك الصمت والدقائق المنتظرة كافية لاستدعاء العقل وترتيب جمل عتاب حتى لا تبدو بعينه انها امرأة شرسة، وما ان رآها حتى اشرق وجهه ترحابا وتهاطلت عليها منه كل عبارات الترحاب بالقدوم، وقبل ان تبدأ بعتابها سلمها الصور وذكر لها انه قام بتكبير صورتها، واراد ان يأخـــــذ منها أذنا بذلك، لكنه فوجئ ان رقمها لم يسجل عنده .
استمعت لكلامه وصدقت نيته الطيبة وسط استغراب تام من موقفه وتصرفه، فالناس جميعا واصحاب المحلات بالتحديد يحاولون ان يظهروا الجمال في كل ما لديهم من طرائق، فلِم الاستهزاء والتسبب بالأذى أو نشر صورة تخلو من شروط قائمة الجمال !!، وقتها قالت بكل هدوء:
- ارجوك ان تُنزل الصورة، صور محلك جميعها جميلة، انا بينها صورة قبيحة، صفر على اليسار في موسوعة الجمال العظيمة . ارجوك انزلها .
هنا بدا الاستغراب منه وابدى ذلك بالقول:
- الناس بالعادة تشكرني على هكذا فعل، وانت تعاتبين وتريدين انزال الصورة !! اعطيني فقط عذرا مقنعا لو سمحتِ .
- لست ارى نفسي جميلة، هذا اكبر عذر .
- لكنك جميلة، انا رأيتك هكذا !!
- وفرْ على نفسك المجاملة، ارجو الالتزام برغبتي .
وخرجت من المحل مسرعة فلحقها ببضعة أمتار مسرعا وقال:
- ارجوك سيدتي عودي للمحل، فقط بضع دقائق، انا لا اقدر ان اتركك تخرجين وتواصلين طريقك وانت بحالة غضب او انزعاج .
طأطأت رأسها وأجابت بالموافقة، وعادت معه، وكما يفعل الحب سحره بالقلوب، فقد كان ذاك الحوار البسيط ايذانا لفتح شبابيك الارتياح والتواد الجميل، اعتذرت له ان كان طلبها ازعجه واعتذر لها ان كان فعله قد اغضبها، لكن بقي يؤكد لها ان الجمال أمر نسبي لا يقاس عليه من عين واحدة وذوق واحد، وان جمال الروح والقلب هما الغالبان بكل حال وبكل وقت ومكان .
وفي قابلات الأيام توالت و توطدت رسائل الود بينهما، حتى زَرع الحب قاعدة متينة بأرض قلبيهما الخالية، وذات موعد سألها:
- لماذا لا تضحكين ؟ لماذا دوما ابتسامتك خجولة ؟
- أخاف الضحك وأخشى الابتسامة !
- يا لغرابة ردك يا رؤيا .. أخبريني لماذا؟
- لان الابتسامة من حق الجميلات فقط .
- أي حكم هذا !! بدأت أشك انك لا تحلمين، ثم ما قياس الجمال عندك وكيف تقيمين درجته ؟!!
- قله أنت، ربما جوابي لن يقنعك .
- الجمال هو أن يبعث فيك الشيء الجميل شعورا بالارتياح، حتى وان كنت تجهلين السبب، بل الأروع أن تكوني تجهلين السبب، فالجمال نراه في امهاتنا وجداتنا على الرغم من وخط الشيب وتغضن البشرة وانحناء العود، الجمال هو أن تقتنصي أجمل شيء في كل شيء وتعمميه عليه، هو ان تعرفي السعد في كل جرح يمر فيك وتحملينه وتعبرين به لمرافئ النجاة وتخوم الجذل الفريد، صدقيني ان الحياة قصيرة جدا ولا تستحق هذا التعقيد، وتأكدي انك جميلة بنظري، بل انت ديمة حياتي البيضاء .
- بيضاء !!! هل قلتَ بيضاء !! اسحبها ارجوك، لا احب اللون الابيض بل لا أطيقه .
- غريب رأيك، قولي السبب، أوضحيه .
- هناك أسباب كثيرة منها أنه لون الحداد لدى الكثير من بلدان العالم كالهند واليابان، والأهم انه لون الشيب و الثلج والضباب وفراغ الصفحات وأسِرّة المرضى وحبوب الاسبرين وأغلب الأدوية لونها ابيض، كما انه لون راية الاستسلام والكفن . الا تكــــفي كل تلك الأمـــــور لأكره اللون الأبيض !!
- أنت تغوصين بكل تفكير صوب التشاؤم فقط، وتُديرين دفة الكلام لدروب ممالك الحزن لا غير، فالأبيض لون أجمل ورود الدنيا وهو لون النقاء والصفاء، وحمامات السلام تزدهي بلونها الأبيض، وحتى الكفن بحد ذاته قد يكون بداية لحياة أجمل وعيشٍ أكثر سعد وهناء . والبيت الشــــعري الذي يقـول: ( اعزز النفس بالآمال أرقبها ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل ) نقدر أن نقول على منواله في عجزه: ( ما أضيق العيش لولا فسحة الموت ) .
حين عادت فكرت بكلامه مطولا وراحت تتأمل وتتساءل: هل حقا ما أعيشه من فرصة للتحليق فوق فراديس الخيال والعوم في مرابع العشق والحب الصادق !؟، وأي لهفة تلك التي تخترق روحي مع كل رسالة منه أو لقاء مهما كان طوله !!، هناك أنهار تنبثق في مرآي تحاكي وصف جنات عدن وازاهير قرنفلية أتحسس عطرها الفواح لدى كل جملة يقولها، كيف قدر بتلك المدة القصيرة أن يذيب صقيع الأيام الموسومة بالرتابة، وكيف نجحتْ كلماته في تعميق تعلقي فيه، وإسبال ودقٍ زلالي عذب لتماهي خيوط التواد بيننا، هناك معه استحصلُ صكوك لانهائية لبسمات كنت قد اقفلت عليها قبو حياتي، نعم انها صكوك موقعة بالصدق العميق، أنا سعيدة ولا يعكر صفو السعادة غير ...
و رفعت أناملها و راحت تتلمس وجهها واستشعرت قبحه مجددا فأكملت تأملاتها:
أتراني استحق تلك السعادة أساسا ؟!! وهل يستحق مخلوق مثل كمال المشرب بدماثة الخلق والموسوم بالرقة والمخلوق بماء الجمال أن يقترن بامرأة قبيحة مثلي !! أتراه حقا يراني جميلة وان الجمال كما يقول يُحس روحيا وليس له شأن بأدلجة قوانين أو إملاء شروط أو قولبة معايير !! ثم ألا يكفي الحب العظيم الذي افترشَ فؤادي له الآن وتشبعت به مسامات روحي كلها أن يعوض عيب القبح فيّ !!
ثم طفقت عبارته بذاكرتها، عبارة قالها بشكل عابر: (بدأت أشك انك لا تحلمين)
(نعم) . انا لا احلم مطلقا وكيف لي أن احلم وروحي مثقبة بمسامير الكدر وحبيسة لعصف قباحة الوجه الدميم، لكن بدا لي من نبرة عبارته انه يرى الناس التي لا تحلم بانها كائنات غير طبيعية . كائنات معصوبة القلب، مخلوقات تجيد عزف لحن الخوف وتراتيل التوجس على قيثارة الأيام، فتكون محرومة من رحيق الامل وممنوعة من تلمس تخوم الأماني ومحظورة من حصد وهج التطلعات الإشراقية .
وماهي سوى أسابيع معدودة حتى تم الاقتران وزُفت له عروساً ترتقي و تفوز بلقب الجمال (بعينه) على الرغم من توالي مئات الوجوه الفاتنة أثناء عمله، أما هي فقد ظلت تلك العقدة تعاقر روحها، وتزامن أنفاسها، لذا كانت ترفض الخروج معه إلا لماما ؛ لئلا تسبب له إحراجا بقبحها، ولما كان يشعر بذاك الألم كان يسهب في اقناعها ان سعادته معها ومع روحها الجميلة وقلبها الكبير وضحكتها الدافئة .
مضت ثلاث سنوات على تلك السعادة التي لم يكن مقدرا لها الاستمرار، فعلى اثر سكتة قلبية أسلم كمال روحه، وفاضت الروح لبارئها تاركة روح زوجته (رؤيا) تعاني الفقد وتجني الوجع وتصارع الوحشة بقلب مليءٍ بالذكريات، بعد مضي أسابيع من وفاته دخلت ولأول مرة استوديو التصوير الخاص فيه، تشممت رائحته وتوالدت بمخيلتها لقاءاتها المتكررة في هذا المكان الذي كان مبعثا لولادة الحب والنور بينهما، وبحركة لا ارادية سحبت كاميرته وراحت تحاول فيها وما ان لاحت لها المرآة أمامها حتى خطرت لها أن تمتهن مهنة التصوير لتحل الروح الجميلة مكانها بعد ان فقدت الكاميرا صاحبها، فقد آثرت الزوجة الأرملة ولشد ما كان زوجها يعشق اقتناص اللحظات السعيدة أن تحيّ هذه القناعة فيها، تناولت الكاميرات وراحت تتعلم وبشكل خرافي فنون التصوير لا لشيء الا لاجتراح فرحة لدى كل إلتقاطة سعيدة تنجح بها أناملها بعد ايعاز من ذوق رفيع يصدر عن اختيارها .
بمرور الوقت شعرت ان الكاميرا وعدسات التصوير منحتها الكثير من الثقة ورؤية العالم بشكل أجمل وابهى، وفي زيارة مرة لقبر زوجها راحت تنطلق بمناجاتها له فقالت:
نور عيني (كمال) لطالما كنت أنت النور الذي ينبثق بين ثنايا القلب وطوايا الروح وقت ما كان الحب مقفل الباب وموصد الشبابيك عندي، لطالما مددت لي يد الحياة وعلمتني أبجدية التفاؤل والجمال الحقيقي، علمتني ان الهناء لا يكمن في الغِنى قدر وجوده في الروح، وان الأمان لا يتحقق حتى وان كان المرء محاطا ومحروسا بأرتال من الشكوك الكبريتية وسوء الظن بما حوله، انما يأتي بقلب محاطٍ بالاحتواء ممن يحبهم، علمتني إن الصورة التي نأخذها ليست فقط انعكاس إلكتروني وضغطة زر آلية بقدر ما تكون الصورة اهزوجة للجمال واقتناص للحظات قد تهرب ولن تعود ولا حتى بالمخيلة، علمتني ان البشريّ هو دم ولحم ومجموعة انفعالات تتأرجح ما بين الحزن والفرح والغضب واليأس وان الذكي ليس الذي ينسحب انما من يحقن نفسه كل مرة بمصل العناد ومواصلة الحياة مجددا، حتى اللون الأبيض بدأت أتقبله، نعم، لقد متّ لكنك حيّ في ذاكرتي لدرجة اني أتنفسك، بل وأستشعر روحي تتلبس روحك، أشتاقك وأجد نفسي بركان شوق فاستحم بدموع ذاك البركان، دموع لا تترجم سوى (ذكراك) بعينين محبوستين بجفن ينغلق ليراك ويُفتح ليحن لك، الآن عرفت لِم كنت ترى الكفن شيئا جميلا ربما لحدسك ان هناك حياة أجمل بانتظارك، ومع ذلك فكثيرا ما أتساءل يا حبيب العمر هل متّ حقا !! محال يا هدية السماء فانت حيّ بروحي ونابض فيها، نابض مع كل صورة ألتقط الجمال بضغطة زر وأحصد الأمل منها واقطف البسمة فيها، فنمْ قرير العين مثلج الفؤاد رهيف الروح، فانت معي ولن يأتي يوم وانسى ما علمتني إياه، فانا احفظ كل كلماتك كجواهر ثمينة وقــناديل مضيئة أدرء بها كل ظلام يتسيّد دربي، كلــــماتك يواقيـــتٌ وقلائد مرجان تزداد توهجا مع كل عدسة كاميرا أمسكها وأرى اشراقة الأمل في ضوئها . لذا بتُ الآن اؤمن يقينا بالمقولة التي تقول: (ان القلوب برغم البعد تتصل) .
د. زينب ساطع عباس