نصوص أدبية

هروب بحر فاشل

محسن الاكرمينحين وطأت رجلا إيثري رمال شاطئ العودة من إبحار الهرب الفاشل عند حدود بحر الوطن، تذكر كلام والده حرفيا حين كان يردد وهو في ضيق من سوء النفس، ونوازل القدر، حين يقول"علمني الزمن الماكر أن كل خياراتي مهما توقعت بحلم التفاؤل لن تحدث لماما بالمرة"، هذا قدر يجب أن تؤمن به ، وقد يظل مكتوبا على الجبين، ويمكن أن يكون القدر نفسه يسيرنا في أعراض أعمالنا، لا في أسباب اختياراتنا. لحظتها حين استفاق بلذة هواء الوطن، وأمّن بثقة موضع قدمه، أدرك إيثري أن كل الخيارات التي أبحر بها بعيدا وهربا نحو الضفة الأخرى أصبحت صعبة ولن تتكرر مرة ثانية. أدرك أن البرنامج الحياتي الذي ابتكر أهدافه نقطة، نقطة وظن أنه لن ينمحي، أصبح زبدا أبيضا رابيا عند صخر بحر العودة بعلو الموج، وتؤمن بأن الحظ يدير نصف أعمالنا

لم تكن تيللي لتصدق دوافع الهرب من الوطن كجبن مقيت، وتساءلت وهي تتشيّط غيظا: كيف تتوقع مني أن أصدق من أحببته يهرب من الوطن؟ تخاطبه دون أن تنظر إلى مكتمل قامته، إن هذا إيثري غباء، فإن أردت قتل نفسك ففاعل هذا بذاتك دون أن تورط فيه غيرك من الضحايا، وكذا من أحبتك بصدق. لكن، بعد أن استرجع إيثري أنفاسه المتبقية من فشل تجربة الهروب من أرض الوطن دون أن يخترق حدود مياهه الإقليمية. وجد ذات تفكيره لا تمتلك الأجوبة الصحيحة عن كل أسئلة أسباب الهروب غير المكتمل، وجد حتى تلك الأجوبة الغبية وإن تنوعت فلن تقنع تيللي بصدق دوافعه الداخلية والخارجية.

تنحى إيثري جانبا بالبعد عن عيونها التي تكاد تمطر دمعا، وهو لا يقدر تحمل مزيدا من الألم والإخفاق. وجد صعوبة في استجداء رفق العلاقة التي تقتضيها ظرفية الكلمات المختارة بالتنميق العاطفي، والتي يمكن أن تنفّس من الحنق المشتعل عند مشاعرها. يقول إيثري: أنا آسف، أنا آسف للغاية، فلست مضطرا لأخبرك عن أي شيء بالتفصيل الممل. أنا من قررت الهرب حين اشتدت المشاكل الخانقة على ذاتي بلا موعد ولا تخطيط، حين تيقنت أن حبنا فقط لن ينقذ حياتنا في المستقبل يا تيللي. حينها قاطعته و تساءلت: أو لا تؤمن بأن الحب يا إيثري سينتصر على كل شيء؟ لم يفكك قصد كلامها بل قال:حين تخلصت من الضعف وانتظار قانون الصدفة والحظ الذي يأتي أو لا يأتي، حين أصبحت معطلا ومثيرا للشفقة في ذلك الحي غير البعيد عن دوشة المدينة، عندها قررت الهرب من سوء قهر الحياة وظلم الوطن. أنا تيللي انعكاس لك ولمتمنياتك بحق عيش كريم.

تململت الأرجل بعدا عن الرمال الساحبة للأرواح، وقال إيثري: كان يفترض بي بأن أكون ضمن أعداد الموتى، لكني لم أكن مستعدا لذلك حين نجوت بأعجوبة من القدر، و يبدوا أن القدر يلعب دوره بامتياز في التحكم في اختياراتنا. آسف يا تيللي للمرة الألف، لأننا استغرقنا وقتا طويلا في علاقة حب مفتوحة، وأضحى الوقت يداهمنا قدما، فأردت إحداث التغيير بفعل الفرار أم الردى الوضيع، كنت أريد عبور الثقب الأسود للهروب بدون أن يلاحظوا حتى ظلي، لكن الأمر بات بدون جدوى، وقد تتدمر السفن بحرا، وتسبب موت كل الرجالات و بالاستثناء الأقل.

تنظر تيللي في الأفق الغائم بتموج حركة الريح الخفيفة، وتقول: أنا خائفة، قد لا يحميك القدر والحظ مرة أخرى، وقد يكون المستقبل بين يديك إن أحسنت اختياراتك بإرادة لا تنطفئ جذوتها، قد يكون القدر قد أخلف وعده معك ومنحك فرصة ثانية للحياة. وتورد كذلك: القدر يتابعنا، يتبعنا بخطى متوازنة، وقد تكون بعض من اختياراتنا مقيد ومربوطة بالحظ. لا أحد إطلاقا يمتلك خيارات تامة حتى وإن قل حجمها، فأنت اخترت خيار الهروب من الوطن، وهو الأسوأ !!! كل شعاراتك الحياتية بهروبك الفاشل عبرت عن نقيض النضال فينا. أحس إيثري بضغط موجع النقد وقال بصوت خافت: كل من له بداية له نهاية يا تيللي، هي فلسفة حياة وليس بلعب ولهو وتعريض النفس للموت، حقيقة أجريت محاكاة الهروب فكريا وعمليا، فوجدت أن كل من يهرب يتعرض في البحر للغرق. لكن تيللي تساءلت باستنكار إضافي، لما تأخر قطار التنمية، وتأخر حتى وصول عامل القطار، وبات "الحريك" يستهوي الجميع؟.

ابتسم إيثري قليلا من سوء الوضعية، ثم قال: قد يكون الهروب مثل ذكاء العرافة العظيمة القوية التي أعدت الحلوى وجهزت المائدة، ولم تدر من توقعاتها الموسعة أنها ستموت قبل تناول ما فوق المائدة الباذخة. فحين أحسست بقدر الموت قريبا من حبل الوريد، استسلمت وقلت لملك الموت: افعل ما جئت لأجله. الكل تيللي يريد الذهاب إلى جنة الغرب والملائكة، ولكن لا أحد يريد أن يموت في منتصف الطريق غرقا، من أشد المعادلات غير المتوازية أن الحياة أحببنا أم كرهنا فنحن من ندفع تذكرتها قبل ولوج ملعبها غير المعشوشب، وأنا حتما لم أكن ضمن الذين دفعوا الثمن الوافر لنمو مراكب الفساد التي توفر لنا ركوب الموت، وتبحر فوق الجثث.

***

(فصل من رواية: ويلات ذاكرة حالمة).

محسن الأكرمين.

 

 

في نصوص اليوم