نصوص أدبية

الإيماءة

جيلالي عمرانييا رجل ماذا دهاك؟ مذْ اقتناءك السّيارة وأنت تضع يدك على جبينك؟ أتذكر ذلك الألم بعد كل هذه السنوات؟ استيقظ يا أنت... كنت تتحسس بيدك اليسرى جبهتك وتأتيك ضحكات العابرين من كلّ حدب وصوب، كأنها حدثت بالأمس القريب، "أوف"، هل تذهب في مثل هذا الوقت؟ أو تظن أن السّمراء فعلا تحبك؟ أو خُيّل لها في لحظة ما أن تكون فارسها في يوم من الأيام؟ إلى أين؟ إلى أين يقودك تهورك يا كهل؟ أو نسيت أنك تجاوزت العقد الرابع؟ لا تقل أنك ذاهب بالفعل إلى مدينتك القديمة التي تشبه قرطبة، بأشجارها الوارفة، وجبلها الشامخ وصباياها العنيدات الجميلات..وتفعلها الآن؟

ركنتَ سيارتك  قريبا من المفترق، في مكان مكشوف ليراها الجميع، أنيقة وجديدة من النوع الذي تعشقه السّمراء، كانت غاوية السّيارات الفارهة...لا تبالغ يا رجل..مرّة وحيدة  رأيتَها تركب إلى جوار سائق شاب. ربما هي غلطة عمرها، على كلّ لم تقل لك شيئا.  اكتفت بنظرة خاطفة حيث أنت بجوار عمودك وصمتك الأبديّ.

أولا عاينت شارعك القديم، ثم الزّقاق الذي تأخذه مساء عائدة إلى البيت، وجوه المارّة تختلف كثيرا عن أولئك الذين تعرّفت عليهم قبل سنوات، سماعات على آذانهم، يمشون فرادى، متسرعين، شبه عراة، تتقزز من ماذا؟ أو تراهم يحدثون أنفسهم، أغلبهم يحملون كاميرات صغيرة وموبيلات أنيقة، يأخذون سيلفيات سريعة. لم يحدثْ أي تغيير في المنطقة، نفس العمارات بنفس الشرفات المطلة على الجبل بفارق بسيط هو هيمنة الضوضاء، والضجيج،  ما يزال العمود الأسمنتيّ العريق واقفا وشاهدا على حادثتك الطّريفة كنت بطلها الوحيد ذاك المساء الشّتويّ، رحتَ تتقدم منه بخطى عملاقة، نبضات قلبك ازدادت نبضا، كأنك ستجدها في  نفس المكان تنتظرك، بنفس اللهفة والدهشة على محيّاها بعد ثلاثة عقود! بل كنت تسارع في خطاك، بلا وجل أو حسابات مضنية، ماذا ستخسر في نهاية الأمر إن التقيت بها وحدثتها بصدق عن حرقتك؟ ماذا ستقول لها الآن يا كهل؟ هل لك الجرأة الكافية لتقول لها نصّا يحمل معنى ومضمونا؟ هل تقول لها كم كانت نظراتك ساحرة؟ إن وافقت هل تسحبها من يدها حيث سيارتك الجديدة؟ هل توافق لتركب كما لم تفعلها معك من قبل؟

تذكرتَ كلّ تلك التّفاصيل الصّغيرة والهامشية، أنينك ورسائلك هيامك. تذكرتَ حكاياتك الكثيرة، تتعلق بهروبك من حصّة الأدب وأستاذك يترنح على المنصّة مندمجا بشكل غريب شارحا لنص شعريّ، أو يقرأ من رواية "نجمة" فصولا وفقرات، حينها ينغمس انغماسا كلّيا في تأويل تلك الأحداث التاريخية، أمّا عندما يغرق في تفاصيل قصّة ولادة وابن زيدون تراه يرسم تفاصيل مدينة قرطبة وعلاقات ولادة، إذ يرمّم الفجوات التي شوهّت القصّة الرسمية، بينما ولادتك في مدينة لا تختلف كثيرا عن قرطبة، بل تتخيلها واقفة عند محطة الباص وهي في كامل أناقتها، تنتظر قدومك، حبيبتك أكثر جمالا من بطلة أستاذك، كنت متأكدا أنها تنتظرك هناك حيث يشهد العالم لقاءكما قريبا.

كثيرا ما غادرتَ القسم هاربا من بوابة صغيرة أو تقفز من فوق سياج المعهد. أو تضطرك الظروف فتقدم  تبريراتك السّخيفة للمسؤولين في الإدارة، فقط لتكون عند السّاعة الخامسة في شارع "العقيد عميروش" الضّاج بالصبايا القادمات من الجامعة والمعاهد القريبة ومن ثانوية الخنساء، متأبطات حقائبهن وكناشات وكتبا، تراهن تحت المطريات مندفعات، صاخبات، ضاحكات، يملأن الشارع  صخبا وحيوية، يا له من منظر بديع وهن منطلقات بشغف! مرات قليلة سعفك الحظ لتصل في الموعد، حيث تراقب عن كثب سربهن، شبه راقصات، مشاغبات ومثيرات بالفعل، تحتار بين الشقراء والسمراء، بين الرشيقة والثخينة، تكتفي بالتحديق، مبهورا، ستظل كذلك لربع ساعة أو أكثر، فتعود سريعا إلى مرقدك وأحلامك، في مرات قليلة فقط تشجعت واقتربت من إحداهن مغازلا إياها باحتشام.. لن تلتفت إليك، ولن تسمع هذيانك قطّ، كلماتك تبقى حبيسة حلقك، تعيد الكرّة في يوم آخر، تلقى نفس المصير والتجاهل والحرمان. ليس مهما من تكون تلك" ولادة" أو اسما آخر من أسماء كثيرة تعج بها ذاكرة المدينة.

أخيرا رأيتها تتقدم، على غير عجل، وحيدة، تحدق ذات اليمين وذات الشمال، تبحث عن شيء ما، لنقل أنها تبحث عنك، هذا ليس مستبعد تقول لنفسك، المهم هي التي هزّتك من أول نظرة مباغتة، قلبك لا يكذب أبدا، عيناك أيضا لا تخيب في مثل هذه المواقف المثيرة، منذ اللحظة الأولى السّاحرة شعرتَ بشيء جديد في حياتك، لنقل هو الحب الكبير، منحتَ لها اسما (الهام)، بالتأكيد غير مرتبطة ولم تكن لها علاقات سابقة، لم تكن تعنيها الموضة وتسريحات الشعر الحديثة، كانت نحيفة، وهيفاء، متوهجة، مندفعة نحو المستقبل بثقة كبيرة.. قلت في قرارة نفسك: إنها هي، ولادتي، أو نجمتي الحقيقية، من لحم ودم. راقبتَ تصرفاتها الطبيعية جدا، كلما اقتربتْ السّمراء حيث وقفتَ مذهولا شعرت بثقل في ركبتيك، في لغتك، يصعب عليك وصف حالتك غير العادية، تتساءل: هل هي سمراء فعلا كما كنت أحلم دائما؟ 

اهتدتْ (الهام) لفكرة السّير جنب الجدار الأسمنتي الفاصل بين العمارات العتيقة والشارع الطويل المزدحم، فكرة معقولة جدا إذ تمنح لك الفرصة الكاملة لتراها بشكل أفضل  بعيدا عن وجوه أخرى، كلما تقدمتْ نحوك ازددتَ رعبا في داخلك،  هكذا بعثرت خطاك وكلّ أوراقك في لحظات قليلة.  خُيّل لك أنها قادمة نحوك، رأتك الآن، قرأتْ تفاصيل جسدك في لمح البصر، عيناك في عينيها، خطوات قليلة تكون قبالتها، ماذا تقول لها بربك؟ هل ستذكرها ببلوغك سن العشرين بعد شهرين، ثمّ تتخرج بعد أشهر قليلة وتستلم منصبك في إحدى المدارس النائية، عن تأجيرك لبيت  صغير يأوي قصتكما، من الأفضل أن يكون قريبا من المدرسة، ستخبرها عن العرس البهيج، عن السّيارة الجديدة التي ستقتنيها بعد سنوات من العمل، طبعا هي ستساهم أيضا في كل مشاريعك.. رأيت في لمح البصر البيت الجديد والحديقة الغناء والسيارة. لكن كيف ترتب أفكارك لتقولها بشكل انسيابي فاتن ولافت؟ أوف لا تقلق سأجد طريقة للقول، بل كلّ جملك تلك وصلتها بطريقة ما، نعم... شعرتَ بفرحها وهي تنصت بجوارحها وتتفهم قلقك وفوضى جملك السريعة  تتعثر في مشيتك... تقف كالبليد أو القتيل في مواجهة قدره. في الواقع هي من تسترق النظر إليك سرقة بريئة لكنها مشحونة بالمشاعر وبالدفء، يصلك حريقها على بعد أمتار، ثمّ تتحاشى النظر في عينيها السوداوين العميقتين المليئتين دمعا مع ابتسامة شفافة لا يراها غيرك في لحظة مبهمة وغريبة إذ تغلغل في جسدك شيئا لا يشبه سوى السم أو النبيذ المعتق.

لم يكن الحدث مجرد تيه أو سراب بدليل انّك تسير... طب.. أي.. أي.. كانت الضربة قوية حيث اصطدمت بعمود أسمنتي ضخم، كيف لم تره يا أنت؟ بشكل آلي وضعت يدك على جبينك،  لحسن حظك لم تسل دماؤك، جيد، بينما الذي من خلفك ومن أمامك، عشرات منهم اندهشوا للحادث،  والبعض الآخر يضحك، ضحك يأتيك من كلّ الجهات. العالم كلّه يضحك من اصطدامك، بينما هي في الجهة المقابلة للشارع متسمرّة في مكانها، مندهشة ربما كانت حزينة لردّة فعل المارّة الساخرين، مع ذلك أبدتْ حيادها التّام، لم تضحك ولم تقترب منك لتضع يدها على جبينك المتورم، ولم تقل لك "سلامتك..." تابعتْ سيرها إلى حيث لا تعرف.

تكرر اللقاء الذي لم يعد مصادفة، بقيتَ وفيا للموعد، تكتفي بالتحديق في جسدها، تبادلك النظرات، ليس إلا، أحيانا تجيء رفقة صديقاتها، فتتلعثم في حديث مسائيّ متشعب، عندما تراك متكئا إلى العمود الإسمنتيّ لاستعطافها بدون شك، تتمايل أكثر، أو تتشنج من تصرفاتك البلهاء، كأنها تعزيك، أو تعاتب ترددك المفضوح،   نظرتها الغامضة والعميقة المركزة تشتت ذهنك أو تجعلك تهرب  من الموقف. بعد أيام اختفت  من مداراتك، تجيء كل صباح لتمتلئ بها،  وتخصص العشيّات الباردة لاقتفاء أثرها، تتعقب طيفها الذي بعثرك بالفعل، تتجول في الأزقة بحثا عن اللحظة التي تظهر فجأة بسروالها الجينز الضيق أو بروبها الفضفاض تتمرد لساعات، تمسح دروب المدينة الخلفية، لا تعرف شيئا عن صاحبة الإيماءة سوى ابتسامتها الشفافة اللماحة المرتسمة في مخيلتك كشعلة أبت الانطفاء بسرعة، تتوقد دائما بنفس التوهج كلما هربت الساعات والأيام والشهور..لم تيأس إلى أن ظهرت ذات ربيع، بشكل مختلف تماما، السمراء لم تنسك أبدا، كنت وفيا للمكان والزمان، إذ يتقدم منها شاب أطول منك، يأخذ يدها بسحر، كانت تضحك، وسعيدة، يفتح لها باب السيارة الحمراء..ثم تومئ بعينيها نحوك، كنت عاجزا أن تفهم مدلولها في تلك اللحظة. الإيماءة أكثر إدهاشا، مليئة بسخاء منقطع النظير أخذتك بعيدا عن قريتك والجبل ورفقة السوء وماضيك التعيس. وبعيدا عن المعهد.

***

قصة قصيرة

جيلالي عمراني - كاتب جزائري

 

 

في نصوص اليوم