نصوص أدبية

ليونيداس

صالح الرزوقوصلت إلى غليفتسة في صيف عام 1980. وأول مشكلة عانيت منها ملابسي، كانت صيفية ورقيقة، لكن صباح بولونيا حتى في تموز شديد البرودة. عموما استقبلتني سوزان، وهي مندوبة من بيت الطلبة، وأسكنتني في غرفة تقاسمتها مع مهندس سيارات يوناني اسمه ليونيداس. مد يده القوية وشّد على يدي وقال: أهلا شريك. وأردف: أنا ليونيداس. ويمكن أن تناديني ليون أو ليو.

ابتسمت بخجل. فهذه بالنسبة لي أول تجربة دولية، وهو بلا شك مخضرم، عجنته الأيام وطرقات السفر. واتفقت معه أن أناديه ليون قلب الأسد أو الأسطة، وهو لقب كل خبير بصيانة السيارات عندنا في حلب. وافق بهزة من رأسه مع تكشيرة أفلاطونية. وأمضينا أول ليلة (in door)، يعني بالعربي: في الداخل. كانت لدينا طاولة وكرسيان. وضع ليون على الطاولة زجاجة نبيذ بلون أصفر، وأضاف معها الخبز المحمص، ومكعبات الجبنة الفرنسية. كان جاهزا، وطبعا من أجل صديقته. فهو، كما أخبرني، مغرم بممرضة بولونية شابة. وكان يؤمن أن إكرام المرأة هو الطريق المضمون لامتلاك قلبها.. إن كنت سخيا معها تكسب كل شيء. قال وهو يغمز بعينه ويضحك. جاملته بضحكة مقتضبة، وبعدها خيم علينا الصمت، ثم من باب المجاملة سألني: كم عمرك؟.

قلت بتردد: 18.

زاد اهتمامه وقال: شاب فعلا.

ثم أضاف وهو يقيسني بنظراته: ألم تفكر بحلاقة شاربك؟.

فاجأني كلامه. لم يسبق لي أن فكرت بالموضوع. كانت الشوارب جزءا من ديكور وجهي، لو حلقتها سأشعر كأنني أصلع. كان كل أفراد العائلة بشوارب، حتى جدي، رغم تقواه، لم يحف شاربه.

سألته باستغراب: ماذا يدعوك لهذه الفكرة؟.

رد بحنان أبوي: لتبدو أجمل. وتحسن فرصك مع البنات.

ولم أعرف هل هو يختبر عقلياتي أم أنه يمزح، وكنت حريصا أن لا أغضبه، وبالأخص أنه نصف سكران.

فقلت بحذر: ولكن الشوارب عندنا رمز للرجولة.

العجيب أنه اقتنع فورا، وقال: نعم. فعلا. سمعت عن ذلك.

و تابع: وعندي فكرة عن الختان واتداء الجلاليب.

و لم يترك لي أي فرصة للتعليق أو الاعتراض، وأردف فورا: وهل صديقتك من نصحتك بهذه الشوارب؟..

غمرني مزيد من الخجل، ولم أعرف ماذا أقول، ومن أين أبدأ. كان من الواضح أنه لا يعرف شيئا عن عقدة الشرف عندنا. ثم اعترفت له أنني بلا صديقة لأن الاختلاط عندنا عيب. نظر لي كأنه لا يصدق. فتابعت بصوت أعلى وشرحت له ما نسميه جرائم الشرف، وكيف يقتل الأب ابنته إذا خذلت نفسها وأخطأت. وعند هذه النقطة بهت لونه، ثم ركز عينيه على وجهي وقال: بم.. بم.؟؟

أومأت برأسي.

قال بصوت غامض: تقتلون العشاق؟.

ثم بدأ يضرب كفا بكف ويقول: غريب. شيء غريب.

وبعد أن عاد لوعيه قضم من الخبز، ورفع كأسه ليشرب. ويبدو أنه انتبه أنني لم ألمس كأسي. فأشار له وسأل: لماذا لم تشرب؟.

ولم أكن كحوليا. في الحقيقة لم أتناول الكحول بحياتي. ولم تدخل جوفي قطرة واحدة. بصراحة أخاف منه، حتى لونه بنظري يشبه الأسيد، يمكن أن تقول عندي كحول فوبيا.

ابتسمت بنفس الحياء وقلت: لا أستطيع. الحقيقة لا أحبه..

تبدلت معالمه مباشرة وقال: ولا تشرب أيضا؟.

هكذا تعارفنا. أنا وصديقي ليون. ليونيداس أو الأسطة.

كان اسم الوحدة السكنية كارولينكا - دون أل التعريف. وهي مخصصة للضيوف أو ما يسمونه الكفاءات الأجنبية. وكانت الغرفة في الطابق الثالث، في نهاية ممر رفيع وطويل، مفروش بالموكيت ليمتص صوت أقدامك. وعلى الباب لوحة باسم ليونيداس وعلم اليونان، ولوحة باسمي مع شعار النحلة المنتجة.. صورة نحلة تعزف على الغيتار. وتذكرت طنين النحل في بيت جدي في حلب، كان كئيبا بالأخص في موسم العنب حينما يهاجم الثمار المتدلية من الشجرة، ويحولها إلى أعواد يابسة في غضون دقائق، النحل مع الكروم مثل الجراد مع النبات الأخضر.

لكن لم أفهم لماذا غاب علم بلادي ولم يحصل على التكريم مثل غيره. وكان معي بين ثيابي عدة هدايا تذكارية وعلم أيضا، فبادرت لرفعه على النافذة، وكلما رفرف مع النسمات أشعر بشيء من الاعتزاز، وأقول لنفسي: ها نحن على قيد الحياة. وسوريا العزيزة تتنفس، وقلبها الدافئ ينبض.

***

وكانت تسكن في نفس الممر مجموعة من البنات. لكن لم تنشأ بيننا علاقة. كنت بطبعي خجولا. لذلك بعد الدوام أسارع إلى الغرفة وأشغل نفسي بالقراءة. وهي رياضة روحية لا أتخلى عنها. وكنت أحمل معي نسخة من «ملحمة جلجامش» بتعريب طه باقر، بالإضافة إلى «حكاية بحار غريق» و“أجمل رجل غريق في العالم” لماركيز، و»لعبة الحلم والواقع» لجورج طرابيشي. وبالعادة أقرأ بين 10 و15 صفحة، ثم أقف وراء النافذة وأسترق النظر من الطبيعة، وأتأمل سحابات الضباب التي تغلف السماء في كل الأوقات، وتيار النهر الذي يتلألأ من مسافة بعيدة، وعلى ضفته المطعم الإيطالي الشهير (الغوندولا). وأنهي هذا الطقس اليومي بمشاهدة شجرة حزينة وصابرة. كانت تموت بشكل غريب. وكنت أسميها في السر «شجرتي» لأنها صورة عن الأوضاع المتردية التي ننحدر إليها. أما اليوناني فقد كان كل الوقت مع صديقته.

سألته: هل تحبها؟.

قال: بكل تأكيد.

قلت له: وهل تخطط لتذهب معك إلى أثينا؟.

نظر لي نظرته الأبيقورية المعتادة، ثم انفجر بالضحك، وقال: تقصد نتزوج؟.

قلت له: وما المانع؟.

رد وهو يبلع ضحكته: عبث. فعلا أنت عربي.

ثم غادر الغرفة، وتركني أفكر بماذا يقصد: هل كلامه إهانة أم مجرد تحصيل حاصل. نعم. أنا عربي. ولكن بحدود عالمية وكوزموبوليتانية. ألم يشاهد هذا الأعمى ماركيز، رفيق درب الآلام الذي أسير عليه. ثم انتابتني قشعريرة باردة، ولاحظت أنني بالفانيلا، قميص رقيق يكشف أكثر مما يستر، وفكرت أنني أكلت هذا المقلب، أتيت لأتعلم وأصطاف وإذا بي وسط شتاء ماطر.

***

وفي آخر يوم لليونيداس في كارولينكا جاء ومعه صديقته. قدمها لي باسم مارغريتا. وعرفني باسم سولي. وكنت دائما أصحح له وأقول: ص....ا.....لح. اسمي صا...... ل......ح. لكن بلا فائدة. الخطأ في التربية. عسر حضارة بلغة فرويد. لا يوجد عند الإغريق ولا الهيلينيين حرف صاد أو حاء. ثم يئست وتأقلمت مع الاسم الجديد. ولم لا. حتى أن الناس هنا يكتفون بنصف اسم. لا شيء لا يتعرض لمقص الاختتزال وإيقاع الحياة السريعة، فليونيداس نقول له: ليو. وكريستيان: كريس. ومارغريت: ماغي. وهكذا....

تبادلنا مصافحة خفيفة. وكانت ماغي تنتظر أن أقبلها على وجنتها، حسب العادات المرعية، لكن ارتدعت. ورأيت ابتسامة ليون الساخرة على وجهه، وبدأت أفهمها وأسمع ماكينة أفكاره وهي تهمس: عبث. شعب عربي. أما أنا فقد كنت مقتنعا بأنني ابن الكارولينكا، انترناشيونال ونظيف من المشاعرالعرقية.

جلسنا ثلاثتنا حول الطاولة، أنا على كرسي، وماغي على الكرسي الثاني، واختار ليون أن يجلس على طرف سريره. وكانت هذه إشارة لمعدنه الطيب. وشربنا جميعا. حملنا كؤوسنا، وجاملتهم هذه المرة. قالت مارغاريتا: بصحتك. كررت الكلمة، وحاولت أن أكون طبيعيا، لكن بكل تأكيد كان وجهي مثل خريطة بسبب الارتباك، فقد وجدت النبيذ كما توقعت مرا، يشبه دواء الالتهات. وغطيت على ارتباكي بلمس طرف الكأس، دون أن أشرب. ووجد ليونيداس سببا لينفجر بالضحك.

***

وبعد الوليمة انصرف معها ثم عاد في وقت متأخر، حوالي الفجر، وكان القمر خيطا رفيعا بين طبقات من الغيوم، وفتح الباب كأنه حصان هائج وهو يترنح ويتخبط. وبالخطأ كسر زجاج النافذة ثم علق بالستارة فتمزقت، وسقط على الأرض، وتابع التخبط وهو يجدف ويشتم. وحاولت أن ألتزم بالهدوء قدر المستطاع وأتظاهر بالنوم. لا يمكن أن تناقش إنسانا مخمورا وحزينا. في النهاية جلس على طرف سريره مثلما فعل في الوليمة، وانشغل بترتيب حقيبته. ولم يكن أمامي غير أن أراقبه من مكاني بصمت عجيب. وبعد أن انتهى شاهدت خياله فوق سريري. مد يده. ولمسني لمسة رقيقة وقال: سولي!!.

قلت وأنا أجلس على الوسادة: نعم.

قال: وداعا. أنا مسافر.

ترددت قليلا، ثم قفزت من السرير، وعانقته بحرارة عربية أصيلة. وخلال ذلك طبطب على كتفي. وعند الباب وجدت نفسي أقول له باللغة البولونية: Pa pa przyjzciel (رافقتك السلامة يا صديقي).

رد بغمزة من عينه وانصرف. وتناهى لمسامعي صوت جر حقيبته على السلالم. لم يكن في كارولنكا يومذاك مصاعد. وكل شيء يعمل يدويا، حتى الآلات الحاسبة كانت نادرة كالدولار، واستعضنا عنها بالمحاسب: إطار الخشب وقضبان الحديد والخرزات الملونة. أليست نكتة؟!!.

ثم هبت من النافذة المكسورة نسمات ليل غليفتسة وتغلغلت في وجدان عظامي...

 ***

صالح الرزوق

تموز 2020

 

 

في نصوص اليوم