نصوص أدبية

أتعرف برشلونة جيدا؟!

فراس ميهوبوعد حسَّان ولده كرم، ذي السنوات العشر، برحلة صيف إلى برشلونة، إن نجح بتفوق في شهادة الدراسة الابتدائية، وهذا ما كان.

كانت خُطَّة الرحلة، تستغرق أسبوعا واحدا، وتتضمن زيارة نادي المدينة، وملعبها العريق، وتمضية بعد الوقت على شاطئ البحر، وما تبقى في أسواق المدينة، ومركزها القديم.

وصل حسان و كرم إلى برشلونة، مع حلول المساء، بعد سفر مريح بالطائرة، برحلة مباشرة من مطار حميميم.

اهتديا دون صعوبة إلى فندق "موديرنو"، في قلب المدينة القديمة.

صباح اليوم التالي، كان الجو ساحرا، تغطي ظلال الأشجار الممرات الحجرية الضيقة، ونسيم بحري لطيف يداعب الوجوه.

أحسَّ حسان بالاسترخاء بعيدا عن توترات العمل، قال لطفله الصغير:

- يجب ألَّا نضيع وقتنا، ما رأيك بنزهة على الدراجة في شوارع المدينة، نصل إلى البحر، ونعود قبل الغداء؟

وافق كرم دون تردد.

سأل حسان موظفة الاستقبال في الفندق، عن إمكانية استئجار دراجتين هوائيتين، له ولابنه.

أجابته بلطف:

- بالطبع، يوجد أمام الفندق موقف دراجات تابع للبلدية، يمكنك أن تحرِّر دراجة، أو أكثر بوضع قطع نقدية، في الحصالة الخاصة به.

صعد حسان وكرم، كلٌّ على دراجته، وهمَّا بالانطلاق.

اعترضهم عند المخرج، رجل يقارب السبعين عاما، أو يزيد قليلا.

بعد سلام ودود بالإسبانية:

Buenos  dias" "

بادر الرجلُ الوقور حسَّانا بالسؤال:

- أتعرف برشلونة جيدا يا سيِّدي؟!

دون أن ينتظر جواب حسَّان، أو يسمعه، ومع انحناءة احترام، عرَّف بنفسه، بأدب جم:

- السيِّد مون فينكيرو، دليل سياحي معتمد، في مدينة برشلونة وضواحيها.

بدا العجوز بصحة ممتازة رغم عبء السنين، وتجاعيدها على وجهه، وتقوُّس ظهره قليلا.

قبل أن يردَّ حسان بأي كلمة، أضاف مون فينكيرو:

- لا تستغرب  تقدمي في السن، فأنا حقا في الثالثة والسبعين، أعشقُ مهنتي، وصحتي جيدة.

أحبُّ صحبة السياح، وأفيدهم من خبرتي الكبيرة.

سأله حسَّان:

- كم أدفع لك.

- لا شيء، أتقاضى راتبي من البلدية، ولا أقبل أي مبالغ إضافية من السيَّاح، يمكنك إن شئت، أن تستأجر لي دراجة، لأرافقكما عليها.

استراح حسان للطف الدليل العجوز، ونزاهته النادرة، وافق على مرافقة رجل خبير بالمدينة ، وأحوالها.

اشترط عليه أن يعودوا إلى الفندق، قبل موعد الغداء، وافق العجوز:

- لا بأس، القرار لك، لنبدأ رحلتنا، ونرى بعد ذلك، فقد تعجبك الجولة، وتريد إطالتها.

كان السيد مون فينكيرو غاية في التهذيب، ترسم شفتاه ابتسامة خافتة، شعره قليل الغزارة أبيض بالكامل، وطويل بشكل ملفت.

معالم وجهه النحيل المغضن، ظهره المحدودب قليلا، ذقنه الخفيف، وجريان كلماته ببطء، منحه مظهرا بالغ الجدية، وربما كئيبا أيضا.

تشبه ثيابه لباسا موحدا شائعا للأدلَّاء السياحيين، ولكنها تبدو بالية أكثر من اللازم، وغير مكويَّة، وحذاؤه بحالة يرثى لها.

لاحظ حسَّان ذلك كلَّه، ولكنه لم يكن ممن يعوُّلُ على المظاهر الخارجية، أو يحكم من خلالها على الناس.

تجهَّز الأب وابنه ومرشدهم للانطلاق، لكن طفلا اقترب منهم فجأة، قال أن اسمه مانويل، وطلب أن يصحبهم أيضا.

لم يتحمس حسَّان أبدا:

- لا، نحن غرباء هنا، ولن أتحمَّل مسؤولية صبي لا نعرفه.

تدَّخل السيد مون فينكيرو:

- لا عليك يا سيدي، أطفال برشلونة معتادون على السيَّاح، سيساعد ابنك على معرفة أشياء كثيرة، ثمَّ أننا سنتحرك ببطء، في مسارات مخصصة للدراجات، أمَّا من الناحية القانونية ، فأنا أتعهده.

لكن، إن سمحت، سرِّح له دراجة.

رأى حسان ابنه سعيدا، بالتعرِّف على مانويل ، فلم يستطع الاستمرار في الرفض.

سار الجميع أخيرا.

في بدء التجوال ، كان كل شيء على ما يرام.

توقف مع ابنه لشراء المثلجات، وبالطبع اشترى للسيِّد مون فينكيرو، وللولد الغريب أيضا.

أخذ الطفل العابر يسخَّر من كرم:

- أرى أنك لا تحسن القيادة.

أجابه كرم:

- هذا أمر طبيعي، لأني تعلمت حديثا ركوب الدراجة.

كظم حسَّان غيظه.

أراد التوجه مباشرة صوب الشاطئ، قدَّر المسافة بثلاث كيلومترات، قال الدليل العجوز:

-  3250 مترا، من هنا إلى البحر، لكني اقترح أن ندور حول المدينة القديمة، بدل اختراقها، فالدروب هنالك أفضل، وأسهل على ابنك.

عاد طفل الرحلة الطارئ للتهكم، وجَّه كلامه إلى كرم:

- نعم هذا أحسن، حتى لا تسقط على الأرض من التعب.

انزعج حسان من الولد الدخيل، ولكنه استوعب الأمر، ونظر إلى ابنه، ليفعل الشيء ذاته.

سلك الدرَّاجون الأربعة طريقا، أوصى به الدليل الخبير، وكان بالفعل يمرُّ في منطقة جميلة، تغطي الأشجار العالية جوانبه، وحركة الناس فيه قليلة.

أمام متجر للألعاب، توقف مانويل، وطلب من حسَّان، بلهجة شبه آمرة، أن يشتري له لعبة الكترونية، وقال أنَّ ثمنها سبع أوروات فقط.

أحسَّ حسَّان بحرج شديد، فميزانية الرحلة لا تسمح له بمصاريف إضافية غير محسوبة، لكن مون فينكيرو قال له:

- لا تستجب لطلبه، لست مجبرا على ذلك، يكفي أنَّك وافقت على مرافقته لنا!

اشترى حسَّان اللعبة لابن برشلونة الغامض، ولم يكلف مانويل نفسه بكلمة شكر.

سأل حسان ولده إن كان يرغب بشراء لعبة ما، فأجابه بالنفي.

تابعوا سيرهم قاصدين البحر، أنهك التعب كرم، ولم يعد قادرا على الاستمرار.

عاد مانويل للسخرية اللاذعة، رأى حسَّان الدموع ، تنهمر من عينيِّ ولده، نفد صبره:

- جئتُ مع ابني إلى هنا للترويح عن أنفسنا، لا ليسمع تقريعك، كفَّ عن ذلك، إن أردت المتابعة معنا ، وإلَّا سنعود إلى الفندق، ولتذهب في حال سبيلك.

مدَّ الولد المشاغب لسانه ساخرا، استدار، وغادر بعيدا.

حاول حسَّان التحدث معه، خشي أن يضيع، أو يتعرض لمكروه.

واساه السيِّد مون فينكيرو:

- لا تأبه يا سيدي، هذا الشقي يعرف المدينة جيدا، أنا أتكفَّل به.

ارتاح حسَّان في قرارة نفسه، من عبء ثقيل، غرابة أطوار مانويل المغرور ، وإزعاجاته .

جاء وقت الغداء، كفرصة لالتقاط الأنفاس، تبرَّع مون فينكيرو،  باسم مطعم  قريب، يقدِّم وجبات بحرية، وفعلا كان الطعام جيدا للغاية، رغم غلاء أسعاره قليلا.

بعد الغداء، أصيب كرم بوهن كامل، واستأذن والده بالعودة إلى الفندق، لأخذ قيلولة، وتأجيل تجوالهم للمساء.

تولَّى الدليل مون الردَّ بحنان الجدِّ:

- تحمَّل يا ولدي، لم يبق الكثير، لنصل إلى البحر.

فقد حسَّان السيطرة على الرحلة القصيرة، واستلم مون فينكيرو القيادة.

بعد مئات أخرى من الأمتار، أصبح الطريق أكثر تعرجا، وغاب البحر عن المرأى.

كاد الطفل المسكين يفقد الوعي من التعب، وسلَّطتِ الشمس أشعتها الحارقة، على الرؤوس المكشوفة.

أوشك حلم السياحة ،أن ينقلب إلى كابوس مزعج، استعاد حسَّان إدراكه.

لام نفسه على قبول خدمات المرشد السياحي، فرغم لطافته ومعلوماته الغزيرة، إلَّا أنَّه صار قائدا للمسيرة.

حزم حسَّان رأيه، وقرَّر استعادة زمام الأمور.

فقد كرم قدرته على المشي، واضطروا لأخذ قيلولة، تحت شجرة صفصاف عملاقة.

أثناء نوم كرم، قصَّ السيِّد مون فينكيرو، جوانب من حياته، على مسامع حسَّان، وأنَّه بعد وفاة زوجته، وتفرق أولاده أيدي سبأ، قرَّر العودة للعمل دليلا سياحيا، ليتجنب الملل والوحدة.

قال حسَّان بصراحة لمون فينكيرو:

- أعتقد يا سيِّدي، أنَّه يجب أن ترتاح، هذا العمل متعب، ولم يعد مناسبا لك.

أضمر حسَّان أنَّ الدليل ضائع، ولولا ذلك لما ابتعدوا عن البحر، واتجهوا إلى خارج المدينة، استعان ببرنامج تحديد المواقع الموجود، على هاتفه الجوَّال.

تجاهل نصائح مون فينكيرو بأدب، ولكن بحزم قاطع.

ترك الدارجات في مكانها، حمل ابنه، وقفل عائدا إلى الفندق، مشى بضع خطوات.

فرملت سيارة عابرة بغتة ، عقب إشارة من يد حسان، أشبه باستغاثة غريق يائس.

قبل السائق إيصالهم  دون مقابل، وساعدهم بتثبيت الدرَّاجات، على ظهر السيَّارة.

بدأت غمامة القلق، بالانزياح عن ناظري حسَّان، بينما كان كرم نائما بعمق.

كانت الشمس تستعد للغروب، توقَّفت السيَّارة أمام الفندق، شكر حسَّان السائق الطيِّب.

همَّ حسَّان بالنزول، اعترضت سيارة زرقاء وبيضاء، طريقهم إلى الفندق،

اقترب شرطيٌّ من السيد مون فينكيرو، وقال له بلهجة، فيها كثير من خيبة الأمل:

- أتعلم أن زوجتك اتصلت بنا، والخوف يملأ صوتها، قالت أنَّك غافلتها من جديد، وخرجت للمرة الألف إلى وجهة مجهولة ؟!

كان مون فينكيرو عاملا،  في فندق "موديرنو" ذاته، تقاعد منذ سنوات، أصرَّ دون هوادة على العودة إليه، كلما أمكنه التفلُّت من رقابة زوجته وولده.

لم يكن دليلا سيَّاحيَّا، بل مصابا بفجوات خطرة في الذاكرة، أحبَّ مرافقة السيَّاح دائما، ليروِّح عن نفسه.

أمَّا  مانويل الخبيث فلم يكُ إلا حفيد مون فينكيرو، يتبع جدَّه أينما ذهب، ويدخل في لعبته العبثية.

صعد حسَّان وولده إلى غرفتهما، ضحكا طويلا، رغم الإنهاك الشديد، من المواقف الغريبة في يومهما العجيب في برشلونة.

استعدا للذهاب إلى البحر غدا، ولكن هذه المرَّة، دون دليل سيَّاحي.

 

فراس ميهوب

 

في نصوص اليوم