نصوص أدبية

عاطف الدرابسة: عودُ ثقابٍ

عاطف الدرابسةقلتُ لها:

إحساسٌ غريبٌ يدفعُني للتَّخلِّي عن عاداتيَ المحنَّطَة، يدفعُني إلى الهجرةِ عكسَ الطُّيورِ، حيث الشَّواطئِ الباردةِ، حالةٌ من الغموضِ، والعبثِ، والخيالِ، تظهرُ حولي شيئاً فشيئاً، أبدو كطفلٍ يتعثَّرُ بحذائِه، وهو يُمارسُ طقوسَ المشي لأوَّلِ مرَّةٍ .

إحساسٌ غريبٌ يحفرُ في عقلي، يجعلُني سريعُ المللِ، كأنِّي أنامُ على سريرِ القلقِ، يدفعُني أن أمحوَ ذاكرتي لأُولدَ من جديدٍ، وأنسجَ من كلِّ الفرصِ المُتاحةِ ذاكرةً جديدةً، لا يُساورها خوفٌ، أو يُقيمُ فيها عبثٌ، أو كذبٌ، أو ضجرٌ .

إحساسٌ غريبٌ يأخذُ بعقلي نحو بداياتٍ جديدةٍ، وأشياء أَحاولُ أن أنساها إلى الأبدِ، ما أصعبَ أن تبدأَ من جديدٍ ! ما أصعبَ أن تمسحَ الذِّكرياتِ الأولى ! وما أصعبَ أن تُقرِّرَ بلا مقدِّماتٍ التمرُّدَ على ما هو كائنٌ، وعلى ما كان !

إحساسٌ غريبٌ يُلحُّ عليَّ كامرأةٍ تشكُّ في زوجِها، يذهبُ بي نحو استنساخِ عقلٍ نظيفٍ، خالٍ من التَّجاربِ الفاشلةِ، والذِّكرياتِ المُؤلمةِ : عقلٍ لا يمحوني، ولا يخذِلُني، لا مكانَ فيه لاستعاراتٍ بصريَّةٍ، أو لغويَّةٍ، أو جسديَّةٍ، ولا مكانَ فيه لألوانٍ تنصُلُ كلَّما لفحَتْها شمسُ الظَّهيرةِ .

ليتَ لي ذلك العقلُ الذي يُعيدُ إليَّ الجهاتِ، يُخرجني من أوجاعي، وشقائي، من معاناتي، وأدوائي، كأنَّه شجرةٌ عذراءُ، جذورُها تسبرُ أعماقَ المعرفةِ، تنثرُ براعمَ الحبِّ في قلوبٍ، كأنَّها حقولٌ منسيَّةٌ، منفيَّةٌ، تسألُ عن أملٍ، يشقُّ فيها جداولَ النُّورِ .

إحساسٌ غريبٌ يُخرجِني من ذاتٍ، تقلَّبَتْ على نارِ الجوعِ كما الحطب، احترقتْ بماءِ الظَّمأِ، ووخزِ الألمِ، فتصدَّعَتْ كجدارٍ مسَّهُ زلزالٌ، وتحنَّطَتْ كجسدٍ، خرجتْ منه روحُ الحياةِ، وتصلَّبَتْ كصخرةِ سيزيف .

لم أعُدْ أقوى يا حبيبةُ أن أُمسِكَ بزِمامِ إرادتي، أن أفهمَ كينونتي، وأسرارَ وجودي، أمضيتُ عمري بين الشَّكِّ واليقينِ، أُحاربُ المُحتجَبَ واللامرئيَّ، واللامعقولَ، شهدتُ موتي قبلَ ولادتي، تواطأتُ على عقلي، وأفكاري، وُلِدتُ من ريحٍ ضعيفةٍ، حاولتُ أن أكونَ إعصاراً، فإذا بي نسيمٌ عليلٌ، يتبخَّرُ قبل أن تخرجَ الشَّمسُ من طورِ الضُّحى إلى طورِ الهجيرِ .

إحساسٌ غريبٌ يضعُني أمامَ مفترقِ المنطقِ، واللامنطقِ، يجعلُني مرَّةً تحت الشَّمسِ، ومرَّةً عاريا في مواسم البرد والصقيع، ومرّة يضعني في أعماقِ الجحيمِ .

إحساسٌ غريبٌ يأخذُني من قيدِ الواقعِ، إلى مُطلَقِ الخيالِ، كأنَّني أبحثُ عن الماءِ في جزرِ السَّراب .

إحساسٌ غريبٌ يدفعُني أن أهدُمَ ممالكَ الصَّمتِ، والجنونِ، ممالكَ العبثِ والعدمِ، واللامعقولِ .

إحساسٌ غريبٌ يدفعُني أن أصرُخَ في وجهِ أمسي، وحاضري، وغدِي، فالغدُ الذي أنتظرُهُ هو الابنُ الشَّرعيُّ لهذا الحاضرِ الذَّليل .

إحساسٌ غريبٌ يدفعُني أن أُعيدَ الوقتَ إلى الأمامِ، لأستشرِفَ مُستقبَلاً كأنَّه ماضٍ، شديد الغثيانِ، مالي أرى هذا الزَّمنَ بحرٌ راكِدٌ، لا موجَ ينبضُ فيه، ولا عاصفة تُحرِّكُ صمتَه الجبانَ؟

سأفتحُ كلَّ الأبوابِ المُغلَقةِ بالشَّمعِ الأحمرِ، سأفتحُ كلَّ الأبوابِ المُغلَقةِ برغمِ بسطارِ السُّلطةِ، سأفتحُ كلَّ العقولِ المُغلَقةِ بالشَّمعِ الأحمرِ، سأفتحُ كلَّ القلوبِ المُغلَقةِ بالشَّمعِ الأحمرِ، لن أستخدمَ مدفعاً، ولا صاروخاً، ولا سيفاً، ولا خنجراً، لا أحتاجُ يا حبيبةُ شيئاً، غيرَ عودِ ثقابٍ ناحلٍ، ضعيفٍ، يشتعلُ مرَّةً واحدةً، ليُذيبَ كلَّ الأبوابِ، والعقولِ، والقلوبِ الموصدةِ بالشَّمعِ الأحمرِ .

هامش: حين يسألونني عن فشلِ أيِّ ثورةٍ، كنتُ أسألُهم عن عودِ الثِّقاب .. عودُ ثقابٍ واحدٍ يكفي لتغييرِ العالم، وقهرِ هذا الظَّلامِ

 

 د. عاطف الدرابسة

 

 

في نصوص اليوم