نصوص أدبية

فراس ميهوب: أنا أحبُّ الحكومة

فراس ميهوبعشتُ طفولتي في بيت صغير مستأجر مع والديَّ وأخوتي العشرة، كان أبي عاملا في مصنع الإسمنت، يعود مساء بعد غياب يوم كامل، وقد لا نراه إلا في اليوم التالي عندما يكون مناوبا، يقضي أبي عطلة نهاية الأسبوع في العمل الزراعي في أرضنا من الصباح إلى المساء، هو رجل قليل الكلام، قد تمرُّ أيَّامٌ طويلة دون أن ينطق، ولكنه حين يتحدث أخيرا، كانت عيناه تتلألآن وهو يقول:

- أنا أحبُّ الحكومة، فهي تعطينا راتبا آخر كل شهر، ولم تبخل علينا بذلك منذ أن توظفتُ، وهي عكس التجار الذين كنا نبيعهم المحصول و يماطلون بالدفع  بحجج واهية.

كان أبي يغفو وهو يعدد لنا فضائل الحكومة.

ورثتُ عن أبي ثلاثة أشياء: لون عينيه، عرجا خفيفا في رجلي اليمنى، وحبه للحكومة.

عندما كنت صغيرا ولم نكُ نجد ما نأكله أنا و أخوتي، كنا نخرج إلى فناء الدار تحت شجرة الكينا، ونغني لنسلى عن الجوع وننساه، نكرر أغنية وحيدة، عرفتُ لاحقا أنَّ مؤلفها كان وزيرا، وصار فيما بعد سجينا لأنه عارض قرار رئيس الحكومة بفرض ضرائب جديدة، ثم انتحر في السجن، لم أعد أذكر كل كلمات الأغنية، ولكني أذكر أنها تبدأ بِ:

أنا بحب الحكومة       اللي وجها متل البومة

الرب يخليها ويحفظ    ولو ضربتنا بالتاسومة

سمعت فيما بعد أن مؤلف كلمات الأغنية قد وضع في سجن انفرادي لأنه أفشى أسرار الدولة، ولم أفهم معنى ذلك، لكني عرفت فيما بعد أن رئيس الحكومة قد أعجبته الأغنية واعتمدها نشيدا وطنيا رغم تحفظه على عبارة" وجه البومة" فقط.

 في المدرسة الابتدائية، كنا متشابهين حدَّ التطابق، باللباس شبه العسكري، وبالفقر أكثر، وبعالمنا المحدود، فكان أبعد مكان نذهب إليه هو المدرسة الإعدادية للقرية المجاورة، اكتشفتُ بعد سنوات طويلة أنها لا تبعد أكثر من كيلومترين اثنين عن مدرستنا.

قطعنا هذه المسافة لحضور احتفال رسمي بمناسبة وطنية، سرنا خلف معلمنا، كنا  جيشا دون سلاح، بلا طعام أو ماء.

 طالت الرحلة حتى ظننتها دهرا، تشققت أقدامي داخل الحذاء البالي على الطريق غير المعبد، وصلنا، رأينا الزينات والصور، نسينا التعب، غمرتنا البهجة، تحقق حلمنا، نسينا كل التعب، اكتشفنا عالما جديدا، لا أعتقدُ أن كريستوف كولومبوس  كان أكثر فرحا منا حين رأى أرض أمريكا تطلُّ برأسها خلف الأفق الأزرق.

بدا طلاب الإعدادية أكثر سعادة منا، وحبهم للحكومة لا يضاهى، أصواتنا كانت خافتة أمّا أصواتهم فكانت تصدح بجنون:

أنا بحب الحكومة         اللي وجها متل البومة

الرب يخليها ويحفظ     ولو ضربتنا بالتاسومة

في الجامعة: كبر حبي، ولكنه كان دون مستوى مسؤولي الحزب فيها، صرفت الحكومة لهم رواتب عالية لأنهم يحبونها بصدق، ويعاقبون من يشكّون بولائه لها.

قبل أن أنهي دراستي الجامعية، طرأ حدث عابر أثرَّ قليلا على مشاعري تجاه الحكومة، لم يخرج سري للعلن، واحتفظت به في أعماقي، فقد أحببتُ فتاة جميلة، وبنظري كانت الأجمل، وكما يقال عين المحب تفتح الطريق إلى القلب.

شغلتني عن نفسي، وأكاد أقول أنني أحببتها أكثر من الحكومة، ولكني طبعا لم أبح، خفت من أن يبلِّغَ أحدُ أفراد الأمن الجامعي حكومتَنا.

خطبَ حبيبتي شاب آخر، وقد كان فهيها و فدما، ولكن والده كان  يعشق الحكومة، وكان الحبُّ متبادلا فأعضاء الحكومة يتناولون العشاء كل مساء في مطعم والده الفخم.

دستُ على قلبي، وأدركت أن حبي حياتي الوحيد والصادق هو للحكومة، وليس لامرأة.

تخرجتُ أولا على دفعتي، وعينت معيدا في كلية الحقوق، كان راتبي ثلاثة آلاف ليرة كاملة، وكاد حبِّي للحكومة يترسخ أكثر لولا أنَّ أبي قد أصيب بسرطان الرئة، همس الطبيب المعالج :

- عمل أبيك في معمل الإسمنت هو سبب المرض.

 سألته بيأس:

- هل كان تجنب المرض ممكنا؟

أجابني بصوت خافت:

- نعم، بوضع مصاف خاصة على المداخن.

حزنتُ على موت أبي، واساني حبي للحكومة، قصة الطبيب عن الفلاتر والوقاية ليست مؤكدة علميا، لعله اختلقها من بنات أفكاره للتملص من فشله، وقد يكون كارها للحكومة وناقما عليها، فماذا ننتظر من شيوعي سابق؟

ما زلت أحبُّ الحكومة حتى الآن، ولكنه حبٌّ صامت، وأظنُّ أنه من طرف واحد، أعترف أنها المرة الأولى التي أسأل فيها عن مشاعرها نحوي.

صادرتِ الحكومة بيتُ أبي القديم ذي الغرف الثلاث وهدمته، أرادت بناء طريق سريع باتجاهين منفصلين ذهاب وإياب.

استقرَّ الطريق الموعود خطا أسود في الخريطة الملونة، و ينتظر للآن موافقة الحكومة النهائية عليه.

لا أعرف سر استمراري بحب حكومة بلدي الذي غادرته إلى المهجر منذ سنوات، عواطفي غير مشروطة، ومنزهة عن الغرض، أحنُّ إلى طرقها المحفرة ومنافذها الجمركية وموظفيها المرتشين، الذين يطلبون المال من كل شيء يتحرك، أو يحاول الحركة بين طرفي الحدود.

 

فراس ميهوب

29/12/2020

 

في نصوص اليوم