نصوص أدبية

أمين صباح كُبّة: أسفار فاطمة (مقامة)

امين صباح كبةمرّت بي هموم الاكتئاب وعاصفاته، وسرت بي ظلمات الكون وكاشفاته، ولم أدر أ مرّ بي الوقت أم العاجلات صفاته، (وربّ سكونٍ حرّكته واقفاته). وقد اختلط عندي الشك باليقين، وصرت من الوجلين والخائفين. ودخلت في طريق الملامة، ولم أدرك أنّ الدنيا كسكرة بعد مدامة. فصرت في ضنى وشقاء، بهموم ما لها انتهاء، من بعد أن رفلت بالنعماء. غفلتي شغلتني، وبالأماني أمّلتني، ومن النور إلى الدياجي دحرجتني. ليلي أظلم وعسعس، وصبحي ومافيه غاب ولم يتنفّس. ضائع في هذه الدياجي، عالق في طريق لا نهاية له، الطيور فيه مشلولة تطفر صارخة في الظلام. الأرض تحتي (بأحشائها المتكلّسة على شكل طائر

يتهيّأ للتحليق، والمساء قنّينةٌ مكسورة

تنير شظياها حدود جنوني).

الطريق يعجُّ بالعجائز العمياوات، والكلاب، والحجّاج الصائمين، والأطفال المشوّهين، والصبايا المعذّبات، رفعوا إلى السماء عيونًا زائغة كحّلها السراب، ولكنّ الخبر العظيم تفشّى مع الأنوار،

بأنّ المخلّصة العظيمة قد هبطت من السماء ليعمّ نورها الأرض. لتأتينا بالخلاص. شوهدت أخيرًا تهبط الجبال حافية إلى وادينا، ولكن بعد أن خرجنا لاستقبالها بالأهازيج والأغاني والأبواق والدفوف، نظرت إلينا مستنكرة ونحن نتقدّم نحوها. وحاولت الهرب باستماتة ثم هزّت كتفيها ونظرت نحونا بإشفاق وتركتنا. وكانت قد نسيت من نكون، وكانت قد نسيت الكلام.*

٢

حلّ ليلي الطويل، وأنا في وهاده نحو فاطمة بقصدي أميل، أرتّل في وهدتي والحِمل في هذه الوهاد ثقيل. (ماذا سأمسك غير حطام القصائد

الأرض لا تمنح فخاخها، ومذراة الليل انتعلت ثيابها

تلك شارة التسوّل. تلك براهين الملاحقة.

لا تصحب غير الهدير

ولا تشعل غير حقيقة النظر).

أقف حيث تتقاتل الهمم، وتردّد العجائز أنشودة المطر . آن لعيني أن تكفّ عن الافتتان، آن ليدي أن تتوقّف عن الكتابة. ها هي يدي تطرق أبواب الوادي وتأخذ شكل غابة، أجراس وخصلات شعر، وقطط تموء، قهقهة امرأة في برق، وأبواب تزعق في حلم طفل. الفصول تخرخر، وتتهدّج باسم امرأة لقيتها ذات مرّة في حلم سابق لم أستيقظ منه إلى الآن. أرتّل اسمها معهم فأصبح خفيفًا كأنني تخلّصت من عظامي، وفي داخلي فضاءٌ يلمع ومجرّاتٌ تدور. تقبل نحوي وتقول ( كنت تحبّهم بكلّ يأسك

هم الذين يقفون الآن مثل جدارٍ أمامك،

إنّهم لا يريدون فكاكًا من حقيقة أنّهم قد امتلكوك

إلى الأبد).

أراها تظهر في أفكاري، تترك مفاتيحها في صيحتي، فأسحبها نحو الموجة فتسحب خلفها أسرابًا من الحمامات والعنادل، ثم تختفي وتترك صيحتي مبعثرةً في مقاماتي.

 (أسمعها منفيةً مدنًا تتعثّر بسنواتها

أسمعها وهي تصير أنينًا مدجّجًا بجلّاد

أسمعها وهي فصولي كلّها، تسقط من صوتي

أسمعها في الوادي، وهي فرحي كلّه)**.

٣

أسمع تكسّر الأوراق، وحيدًا خائبًا، أترنّح على أكتافي، أمامي تقف الينابيع شاخصة، وسهام عينيها تبطش بلا رحمة. أسأل مرارًا، ولا يقال لي إلى أين أنت ذاهب؟ ها أنا أصغي لأنين الجنون، والهدير يتقدّم نحوي.

 (نجمة هناك تحنو على جموحي، وتربّت على وهمي الذي أكابده

نجمة هناك تحنو على صراخي

على مرأى من النظر

سأنشد أشعار النجمة).

لم أرَ سواها حين مرّت الجموع مرتّلة اسمها، أغمضت عينيّ على صورة وجهها المبتسم، ولم أفتحها إلا عندما حلّ الصباح.

٤

لا شيئ على قلبي غير ليلٍ جاثم يرشّني بالألم. ويتسلّل ضوء الصباح خنجرًا يخترق روحي ولا يأتي بغير الخيبة. كلّ شيئ ممل وباهت .صور العشّاق حول العالم، اقتباسات الكتّاب عن الحب، رفاهية الحنين إلى الآخر والتشوّق لمعرفته واكتشافه، كلّ شيئ ممل وباهت. حفلات الخطوبة، الأعراس. العشّاق محاطين بمن يحبونهم،عبارة أنا أحبّك، جمل الغزل المستهلكة، عبارات المواساة والاطمئنان بينهم. وأنا هنا مثل العبد أكدح طوال الوقت، أكدح في الحياة، وفي تدوين قصصهم وأخبارهم. وقلبي مظلم وفارغ ومتجمّد.

٥

وأنا أهمّ بمغادرة الوادي أتذكّر أنّي أنسى حكاياتي، طفولتي، قصص حبّي الفاشلة، لكنّني سأبتعد بما يكفي لأتدرّب على الندم، والألم الناعم.

لا أريد الانتظار مجددًا، تعبت من البحث عن الاجابات، أسمع الأصوات تتوسّل بي للبقاء، لا أعتقد أنّني سأسلك الطريق السهل. صوتي يتلاشى، يتبدّد، ما أسعى إليه غامض لذا أريد أن أكتب عن فاطمة طويلًا، إلى أن يغمى عليّ، إلى أن أفقد أصابعي، أفقد قلبي، أريد أن أكتب إلى أن تبكي حجارة الطريق، إلى أن تنحب العصافير، أريد أن أكتب عنها بلا توقّف حتى يبكي العشاق، إلى أن يتأمّلني الفراغ ويكلّمني الموتى عندها فقط يمكنني أن أنام، وأُجرّب الهدوء والحُب.

ويداهمني صوتها هامسًا : (لا تعذّب نفسك أكثر ممّا تتحمّل فالأرواح هشّة كالزجاج وخفيفة كالريش تأخذها ريح الزمن بلا عودة)***.

٦

مرّت دقائق توقّف فيها قلب الكون عن النبض، وكانت السماء حينها تحمل عطرًا غريبًا غير مألوف أخذ ينتشر مع حركة الهواء، نظرت إلى السماء وشعرت بضوء النجوم يتسرّب داخل عروقي. وعندما امتزج العطر بالنور الذي غمر كلّ شيئ رأيت الزهور تتفتّح. وسمعت الكلّ يردّد أغنية لفاطمة:

 (سماء ملأى بالنجوم والشمس

وهذي الأرض تنبض بالحياة

وبين كلّ هذا، أنا أيضًا لقيت مكاني

من هذا البهاء تولد أغنيتي).

٧

أدهور طموحي وأركله، دون هوادة أصدّع حماسي، لا ألتفت، بل أستمع لقهقهات الأشباح. (إذهب وحيدًا ولا تحترس يا من تنتظر، لقد قلتَ

كيف تنطق القلوب الوحيدة،

اتهجّى الفصول البائدة،

أشير بالضحكة المأتمية

بعدما

البراءة الناجعة أدبرت

وأُسدل الغناء النديّ).

أطوي وجهي بالتجريح متنكّرًا بانحناءة الرضى، بعيدًا عن حبّي الذي لن يرقى، بعيدًا عن طفولتي المرتّلة لنفاذ صبرها، وبعيدًا عن وهمي بأنّني أسترشد المعرفة، بعيدًا عن السياسة والكذب ونشرات الأخبار، بعيدًا عن جرائم الاغتيالات وغسل العار ومثلما تقول الأغنية :بدي سافر بدي ضيع واللي بده يصير يصير بدي ضيع.

تهمس مجددًا: (ما أقلّ الحالمين وأقصرهم عمرًا، وما أجمل النساء وما أسرع تقلّباتهن، وما أشدّ ارتفاع الطيور وما أوهن أجسادها، وما أثقل السحب وما أشحّ المطر، وما أعتى حكاّم هذا الزمان وكلّ زمان وما أوهن ما شيّدوا، ما أكثر الغناء دون طرب،وما أجمل كلمات الحب وأندر لحظات العشق)***.

٨

أجراسي مضرّجة بالوسن، تقرع بتؤدة، ترنّ وتقول: متى يكفّ الشبّان عن الانتظار وسرقة الهواء؟

 (ما كان يصدّع قلبي هو دم الرّغبة المطفأة، وضجّة الغيوم التي تستشفّ نفسها بقناع ضجري وأصداء ذاكرتي

خفيٌّ حلمي وقد وصمه دم الفاقة).

يرتعش قلبي فأنظر للأفق لأحدّد الأصداء المسترسلة تلك التي يمكنني البحث عنها دون ذاكرة. سيحلّ ذات يوم هدير فم أفناه الهرب، بزوغ قمرٍ أضاعه تشابك الأغصان. لا زلت وحدي أصغي لعواء الوادي وهو يعرّش صارخًا من الألم.

كما لو أنّ بإمكاني التوقّف بدعوى الانشغال بتربية روحي المتآكلة من قلق مزمن بتبديد آلامي في جلساتي مع طبيبي النفسي. بدراسة العلاقة بين الحب والكتابة. بعد ساعات من التفكير أقول لنفسي أنّ الكتابة لمن تحب أكثر متعة من فكرة حبه نفسها. أي أنّ ما يترتّب عن كوني أكتب إليك أجمل ممّا يترتب عن كوني أحبّك. بمرور الوقت أترك التفكير وأتناول الأولان وأنام.

٩

حين يتجلّى أذان الفجر من منارات المساجد سأكتب، لكنّني لا أستطيع أن أضع حياتي جانبًا كي يجفّ الكلام فيها، كي يصبح الوهم حقيقة، حياتي المرتبكة جريئة ومفرطة في الخوف والتخيّل والوحدة، كلّ مرة أقرأها في رواية أو أسمعها في أغنية ولا أهرب أندم. يعلو صوت الأذان ومع عبارة (أشهد أنّ عليًا ولي الله )في الأذان أتسمّر وأرتجف. فيقبل كعادته مواسيًا ومردّدًا: (

دواؤك فيك وما تُبصرُ

وداؤك منك وما تَشعرُ

وتزعمُ أنّك جرمٌ صغير

وفيك انطوى العالم الأكبرُ).

ثم يدور حولي ويحفر اسم فاطمة على تراب الوادي ويختفي.

١٠

كنت دائمًا أكتب بجد، لكنّني لا أسمّي ذلك فنًا، ألملم شتاتي وأستمع لليونارد كوهين، أقول أنّ ما أنا فيه وهمٌ لا يجب أن أعلّق عليه آمالًا كبيرة كما يفعل الشعراء، يخطر ببالي أن أهديها وهمًا صغيرًا معافى من الواقع وقساوته واضطراباته.

وهمٌ تكون فيه السماء صافية، وهي نائمة بهدوء تحت الصفصاف، وأنغام الترتيل تعلو ثم تنخفض، هناك بالقرب من فاطمة تتفتّح الأزهار وتعبق .هناك والوادي يرتّل في القبر ترنيمة وداعنا،هناك سأغمض عينيّ وأرتاح بجانبها في القبر. هناك عندما يتلاشى النهار في الليل.

يعلو صوتها متغنيًا بفيروز ليقطع أوهامي:

صار لي شي مية سنة عم ألف عناوين

مش معروفة لمين واوديلن أخبار

بكرا لابد السما ما تشتيلي عالباب

شمسيات وأحباب يخدوني بشي نهار

واللي ذكر كل الناس بالآخر ذكرني

قديش كان في ناس عالمفرق تنطر ناس

وتشتي الدنيا ويحملوا شمسية

وأنا بأيام الصحو ما حدا نطرني

ما حدا نطرني.

وتختفي.

***

أمين صباح كُبّة

* إشارة لظهور إيلاف في مقامات تراتيل الغربة ونشيج الإنتظار في الكتاب السابق.

** عقيل علي بتصرّف

*** محمد المنسي قنديل من رواية قمر على سمرقند

 

 

في نصوص اليوم