نصوص أدبية

أحمد القاسمي: سيف التّجْريدة

احمد القاسميكانت الحكاية قد اكتملت في ذهنه، ولم يبق إلا أن يُنهيها هو، وقد فكر كثيرا فيما سيقوم به في ليل ذلك اليوم من يناير؛ أحد شهور الشتاء الباردة والممطرة.

كانت الساعة تشير إلى التاسعة؛ حين قاد سيارته تاركا بنايات المدينة العالية؛ تُضيئها مصابيح باهتة الأضواء؛ في الطريق الساحلي، ولم ينأ، وترجل، وأسلم قدميه إلى الوطء على رمال الشاطئ العصي.

غطى رأسه حتى الأذنين بطاقية صوفية، وأدار على عنقه وكتفيه وشاحا طويلا كث الخيوط، وارتدى معطفا من نسيج (الكشمير) أسود، وخطا مقتربا؛ فبللته رشة موجة ضربت صخرة بقوة؛ حتى علا ماؤها إلى الأعلى.

كانت أمواج البحر تزحف؛ هائجة، وهادرة، وساحقة ما يعترض طريقها في موسمها ذاك، وكانت غيوم دكناء تغطي وجه السماء؛ تلمع بروق في عينيه، وتقصف الرعود في أذنيه، والمطر ينزل غزيرا.

أغمض عينيه، وبسط يديه للماء المنهمر، واستحضر وجها، ونهاية أليمة، فاضطرم باطنه، ونشج، وصاح بقوة:

- غدوتَ هيكلا مدفونا في قعر ذاك البحر؛ حياة أمك ظلت مأثما عويلا، وكفّا للبصر، وماتت لوعة عليك، وأبوك بقي حتى آخر نفس يُسمع من جسده يتسائل: أأحرم من عزاء؟ مُتْ يا فلذة كبدي حتى يأتيني المعزون، وفيما يعزونني الآن؟ في إبني! ولم يعرفوا أهو من الأحياء أو من الأموات... أخي... يا ابن أمي وأبي ذهبتُ إلى المقبرة، ورويتُ وأنا متوكأ على شاهدي قبريهما ما حدث بالفعل، وحقيقة ما جرى، وإني سأثأر لك، ولا قطرة دم على يدي، إنه فعل محكم... لا تقلق، ونم مرتاح البال...

اِسْتعَرت في رأسه نار؛ أجّجها ما فعل أولئك بأخيه الضابط البحري، وظل السؤال مِلحاحا؛ مُهيمِنا؛ طاغيا: أهم عتاة؛ جبابرة؛ قاهرون؛ إلى هذا الحد؟ يقتلون لحب في المال؛ للنّهب؛ للإختلاس؛ للتزوير؛ للنزوات؛ لاستقدام الأغرار والمستضعفين إلى الـمِقْصلة بدل أعناقهم العريضة؛ العنيدة؟

رفرف في ركن عينه طرف لباس، وطرق أذنيه صوت سقوط قطرات على نسيج محكم الخيوط؛ غير نافذ للمطر، فالتفت بجزع، فرأى امرأة تلبس ممطرا؛ يُضئ وجهها المسحوق في شال أسود؛ بعينين واسعتين مُكتحلَتين؛ مثيرتين، وداعيتين، وشفتين منفرجتين ترتجفان شهوة؛ سألها:

- ماذا تريدين يا سيدتي؟

نطقت باشتهاء:

- صَقَع جسدي بالبرد...

قال مُتراجعا:

- معاذ الله، وإن المال وفتنتك قتلا أخي الوحيد... إذهبي... وإلا أوسعتك ضربا مُبرّحا بغصن طيّع يُؤلم... إذهبي...

تقهقرت المرأة، واختفت؛ مُتيقنة بأن لا تستدفئ رجلا قُضي على قلبه. 

أحس باختناق، فاستنشق نسيم البحر؛ مالئا صدره، ورفع وجهه للمزيد من القطرات، وتنهد. أعاد الوشاح المرفرف بالرياح، ورفع الياقة، ودس يديه في سخونة الطيات، وصندوق من خشب العرعار لا ينفلت من باله، ثم ترك ظلام المكان، وتدرجت به أضواء المدينة المليونية التي لا تنام، وهو عائد، والمتاجر والمقاهي والخمارات وأركان المدمنين والمومسات.

ترك موقف السيارة، وسار في زقاق ضاق وأقفر؛ في الحي العتيق. صعد إلى غرفته؛ تخفف من لباس الشتاء، وجلس على أريكة؛ ضاما كفه بالآخر، ونظر إلى ناحية هيجانا، وقام ممتدة يده إلى دُرج؛ أخرج منه صندوقا طويلا؛ بورنيش ملمع، ومُفصِّلات نحاسية تبرق، وقفل بديع، ووضعه على المائدة، وصار يتأمل ما صنعت أفكاره؛ ، وقرأ على صفيحة نحاس؛ شدتها إلى وجه الصندوق مسامير برؤوس ملساء متقنة تلمع: سيف التجريدة، وفتحه، ونظر إلى كساء مخمل أزرق، ودعامتين من المعدن الأصفر؛ يرفعان سيفا من الفولاذ الصلب؛ مقبضه أكثر صدأً؛ طوله ثمانين سنتيمترا، وأخذه سالا نصله من الغمد؛ ليس صفيحة مشحوذة ومعقوفة الرأس؛ تُضرب بها الأعناق، وإنما قضيب مدقوق بأربعة وجوه مشحوذة، وحاد الرأس أمضاه؛ يوخز، ويطعن، يخترق الصدور، وينفذ من بين عظام الظهر، إنه سيف يتنمطق به ضباط البحرية بأبهى حلة عسكرية بيضاء وبنياشين، وهم في تجريدة يُستعرضون أو يَحتفلون، عليه نقط سوداء استحالت معدنا منه، قال بصوت مسموع:

- هذه بقع دم تمعدنت... سأثأر به هذه الليلة وقبضتي تتبرأ منه...

أعاده وأغلق الصندوق، واتكأ بظهره على مُبطّن الأريكة، واستحضر وجوها، واسترجع أحداثا...

كان أخوه أكبر منه، وكان هو تلميذا يقرأ قصص البحر، ويسمعها منه وقد عاد من البحر، بغُرة مِرساتين، وكتفيتي ضابط، ودربه على الغطس بالأكسجين، وعلمه قواعد الإبحار بالأشرعة، فكان جو خوض البحار يشمل البيت، وقد تابع دراسته، فكان اقتراح من أخيه البحري، أن يهيء بحثا في تاريخ البحرية العسكرية لنيل الدكتوراه، وقد بلغ ذلك محققا أمنية المفقود، وكان الإهداء على الصفحة الأولى من ذلك السِّفر إلى روحه، وكانت قد فُتّحت له أبواب مرافق وحجرات القاعدة البحيرة، ليُؤرِّخ لأسلحة وآلات وأدوات بحرية، وفي قبو مغبر الرفوف كومة من سيوف التجريدة؛ فرَّدها أمامه البحار الـمُسترْشَد به، وكان سيف منها مفاجأة له؛ اهتز لها جسده وانحبست أنفاسه؛ عُقدت إليه صفيحة تحمل إسم أخيه، فهو سيفه، وبه قُتل، فغافل البحار، وصنع له صندوقا من العرعار.

وهو جالس بعد عصر أحد الأيام، وكله هول، في إحدى المقاهي الموازية لرصيف الفرقاطات وقوارب (الكورفيت) العسكرية؛ إذ خطف بصره امرأة قادمة؛ سلمت عليه، واستأذنته الجلوس؛ رحب بها. أخرجت سجارة مدعوكة؛ من جيب سروال من (الجينز) مفتت الخيوط؛ به بقع وَدَك، وقالت:

- استسمح...

وطفقت تبحث بشرود؛ عن قداحة مفقودة، فظهرت يد قدحت لها لهيبا نَتَرته؛ إلى تبغ مجفف امتصته مُحترقا؛ مُحررة سحابة من دخان من فمها، فركز انتباهه فيها: وجهها متجعد، إلا أنه متناسق؛ عيناها زرقاوان، ينسدل على جبهتها شعر أشقر؛ شابت زغبات منه؛ من تحت شال رث؛ باهت اللون. حفر بعينيه عن آثار جمال فائق، وما يزال القد ممشوقا، والتضرُّس فاتنا.

قالت:

- أنا أرملة بحار مات غرقا؛ كلفه رئيس القاعدة البحرية بمهمة على سطح الفرقاطة، وأمر بسلوك خط بحري في يوم هاج فيه البحر، فكان ميلان الهيكل الرمادي بقوة الموج حتفا لزوجي.

سكتت، ومصت اللفافة بعصبية، ونفثت الدخان، وأردفت:

- لِتفْهم... كانت خطة من ذلك القائد؛ ليموت زوجي؛ حتى يختلي بي، ويتخذني نديمة، ومعشوقة، وجسدَ سرير بعد كل سفر بحري مُعطِّش، وعودة بظمأ إلى لذة مُباحة... فأنا خرِبة الآن... أدمنني ذلك الصنديد البحري كل لذة تدخين المحشوش المجفف، وكحول، وجنس، وطال العمر فشاخ الجسد وهمدت الرغبة، فرمى بي إلى أوعية قمامة الميناء؛ أنت ترى أتسكع في الأرصفة يستطعم بعض البحارة لي.

وأردفت مُحدقة في عينيه:

- لا تدري في أي بحر مات أخوك.

قال بحرقة:

- نعم... وتوفي الوالدان...

قالت:

- أغرقه وزميلين له ليلا الضباط الكهول الأربعة في بحر جزيرة (ليلى).

أخر التفكير في مكان الموت وسألها:

- لماذا؟

أجابت بعد طول صمت وتفكير:

- كانوا مُغتصبين أولئك القتلة، ومُختلسين، ومُدخّني الحشيش، وتُجار مخدرات وخمور معتقة، ومُهربي الفاخر والنفيس على ماخرات الجند، فلا فرصة لمفتش أو متعقب أو فضولي، ولماذا أخوك والآخرين؟ لأنهم كانوا مُتخرجين حديثا، ومن جيل آخر، واطلعوا على ما لايقبله الضمير. في إحدى الليالي، وهو ذلك الضابط العتل في حضني سكران، فهذى، وثرثر بضحك، فقال: «استدرجناهم إلى معركة بسُكر ثمالة، ونحن في عُرض البحر؛ بسيوف التجريدة، كنت أمرت الوسيم منهم أن يشرب، رد مُتورّعا، ومُتعنتا: ما أنا بشارب، حذرته وقلت له: كن مُصاحبي على الراّح، واشرب يا ابن... وإلا... ، رد مرة ثانية: ما أنا بشارب. قتلناهم طعنا بالشفرة المسنونة، وأغرقناهم في البحر بثقالات؛ في بحر جزيرة (ليلى)، أيقرب أحد من دائرة طلقات خفراء إسبانيا؟ وأقبرنا سيوفهم في قبو تحت الأرض؛ فتية... على أسنانهم حليب أمهاتهم، تمنطقوا بسيوف التجريدة، فخيل إليهم أنهم قادة بحارة؛ تغلبوا على رهبة البحر؛ لا يخافون زمجرة البحار والمحيطات.

سألها بإصرار:

- إلى أين انتهت بهم أمورهم؟

أجابت؛ خاوية العواطف وغير مكثرة:

- تقاعدوا، وهم الآن شيوخ، أعمارهم ما فوق الستين، ما يزالون يلتقون للذات.

سألها بجدية:

- أين؟

أجابت؛ وهي تشير بأصابعها النحيفة؛ هدها الكحول؛ في الهواء؛ بلا اهتمام:

- في حجرة سرية؛ في عمق نادي بحارة العسكر الليلي؛ يخافهم الجميع.

وتركته مضطربا؛ متفرق التفكير، ومضت...

سافر إلى بحر الشمال، وجذف بقارب مطاطي في الليل وغاص، ودأب بغطسات أسبوع إلى أن وجد ثلاثة أكياس بلاستيكية مغلفة بأصداف المحار والرخويات وأعشاب البحر؛ تبدو منها هياكل عظمية مشدودة بسلاسل إلى كُلل حديدية ثقيلة؛ أبقتها في عمق الماء مدة طويلة، لا قدرة له في ذلك الوقت لآنتشالها.

منذ يومين، سمع خبرا من المارة؛ قال بأن أحدا ممن يصيدون بالطعم والصنارة عثر على جثة امرأة الأرصفة البحرية؛ مرمية في جوف مركب قديم نخره ماء البحر المالح...

داهمته صورة الهياكل وهي غائصة، وجثة المرأة يتهادى بها الموج في مده؛ وكان قد عاد من ذاكرته مُسترجعا وجوده في المكان، قام وحمل الصندوق، ووقف في عتبة الباب رافعا عينيه في السماء الملبدة بالغيوم، وغشيه برق، وصك سمعه رعد، والمطر ينزل شلالا. توجه إلى النادي؛ ممصوص الوجنتين؛ منبتة عيناه في ذلك الاتجاه، ودفع بابا من الجدار، ودخل بهدوء؛ جلس أمامه أربعة رجال شُيّاب؛ عريضو المناكب؛ على أرائك وثيرة؛ بينهم مائدة مستطيلة؛ تملؤها قوارير وعلب سيجار، ومسحوق يُشم، وسائل يُحقن؛ انتبهوا إلى الطارئ بعيون غائبة؛ قال أحدهم قتله الإدمان والفراغ، أيأسته الشيخوخة:

- مرحى... مرحى...بك... ضُحْكتنا هذه الليلة...

وقهقهوا ناظرين إليه مُستصغِرين...

تقدم هو؛ ملفوفا في ألبسته الداكنة؛ لا تُرى ملامحه، وجلس على كرسي خشبي، ووضع الصندوق على المائدة، وفتحه وأخرج سيف التجريدة ودفع به ببطء إلى الوسط، واسترخى بإحساس من اقترب من الهدف.

انكفأت هاماتهم على السيف القديم مبهوتين، ومُتفاجئين، ورفعوا رؤوسهم إليه؛ مُكفهّرة وجوههم، سمع من أحدهم سؤالا:

- من أين لك هذا السيف؟

ومن آخر:

- هذا سطو على ممتلك القاعدة البحرية؟

قال بنبرة حادة:

- أخي ثالث الذين طعنتموهم حتى الموت؛ في معركة استدراجية؛ بسيوف التجريدة؛ أملته عليكم أعمال غير مشروعة وغير أخلاقية، وسُكر حتى الثمالة.

التفت أحدهم إلى آخر وقال بغضب:

- كثيرا ما نبهتك أن لا تستأمن العاهرات؛ هذه نديمتك أسرّت بكل شيء؟

رد عليه عاشق الأرملة:

- أُسكت يا مُغتصب الممرّضات؟

وامتشق السيف وطعنه به، فسقط المطعون عائما في دمائه.

تحرك آخر وجرجر ردفه عل الأريكة وأستعد للهرب، صاح عليه الشاهر للسيف:

- مكانك... يا من يُسامر غلمانا يتحركون أمامه بسيقان مُشمر عنها مشتهاة؛ بدوارق الخمرة.

حاول أن يهجم، فثبط الثالث حركته وذكّر الجبان قائلا:

- اغتنيت مني قهرا يا مغدقا على الذكران، ولم تكن لي قوة على مقاومتك، وجعلتني تابعا كالكلب، وغانيت غير ما مرة زوجتي، فخذ مني هذه:

واختطف السيف من قبضة القاتل وطعنه به حتى الموت.

حاول الآخر أن يستعيد السيف منه قائلا:

- لقد شفيت غليلك، وانتقمت لشرفك...

وسكت، ما لبثت عيناه أن جحظتا، والتفت إليه كأنه مصعوق، مرتعد الوجه مروعا، وصرخ:

- ستشي بي... إيه... ستبُلغ بي... أليس كذلك... أنا... كنت قائد القاعدة البحرية، المخطط... المحفز... المشجع... الدافع... وأخيرا البادئ بالقتل... إليك هذا القضيب ليغوص في أمعائك، ويُكسر فقارَ عمود هيكلك.

وغرس فيه السيف حتى نفذ، ثم سله من بطنه، والتفت مرتعد الوجنتين المتهدلتين بشيخوخة إلى القادم المجهول، فرأى كائنا ساكنا، يغلف جسده البُرود ويتلفع بالسواد، وغشي عينيه المرتخيتي الجفون ضباب، وضعف بصره، ابتسم بيأس، وفغر فمه، فسال لعاب شدقه، والتفت حوله، وقال بنشيج:

- ماتوا جميعا... إيه... ماتوا جميعا، وهي أرعشتني خصلاتها الشقراء العائمة وهي تموت؛ يملأ فمها ماء البحر المالح، أرملة ذلك البحار التافه.

وصوب رأس السيف الواخز إلى صدره، ودفعه بحركة أُودعتْ قوة الإنسان الكامنة، وفار الدم، وتهاوى جسده الميت.

لم يسترجع هو سيف التجريدة، وتركه حيث هو؛ غير سافك لدم، وبرح المكان، تحت مطر وبروق ورعود العاصفة، مُنتظرا أن تصفو زرقة السماء.

تمت.

***

قصة قصيرة

أحمد القاسمي

 

 

في نصوص اليوم