نصوص أدبية

أحمد القاسمي: الثَّكْلَى

احمد القاسميلا أبرح غرفتي إلا لآستجمام، ولا إلى مكان آخر غير شاطئ البحر، فهو أحب فضاءات الاسترواح والاسترخاء إلي؛ لأرجع بعد وقت تكون أمنيتي أن يطول؛ بأحلام الإبحار في ذلك البحر الممتد إلى قارة أخرى، أو إلى جزيرة مُنعزلة؛ ساكنة الحركة، وبأفكار مُنتعشة؛ إلى الكتب والقراطيس والقلم، فأنا كاتب قصص.

ولا يوما في الأسبوع مُقنن -غير الأحد- تُحرر فيه الأقدام من القيد، ويُخلى سبيل الإنسان، فيتحرك بسجية إلى مكان من اختياره؛ فغادرت في أحد الآحاد البيت بلباس ثائر على أناقة مفروضة، وبحذاء لا يتطلب أدوات تلميع، وقصدت الرمال والصخور؛ مُترجلا بعد العصر، وفي جو خريفي، وبانفراج في الباطن؛ على يمين طريقي غابة تخليف، بها ممرات ممهدة، وكراس مُظللة، ومطايا ألعاب للأطفال من خشب ومعدن، وعلى يساره عمارات قصيرة بواجهات ذات نوافذ عريضة، وطلاء أبيض ورمادي؛ تسرح عليه العين بارتياح، ويستعجلني الشوق إلى مسلك مُتترّب، ينحدر بين بيوت الاصطياف؛ جَلَبتْ إليه أقدام المصطافين الرمال؛ لشيئين: صوت هدير الموج، ورائحة البحر؛ كفيلان هذان بأن يُسعدا، وترحب بالإنسان البسيطة.

كان الشاطئ خاليا؛ إلا من ثلاثة صيادين؛ أحدهم انتصب على صخرة عالية؛ أطال قصبته المركبة، وأرسل الخيط إلى الأسفل؛ حيث غاصت الثُّقالة بالطعم؛ وظلت الفلينة طافية بها، والآخر تقدم على الرمل إلى أن غطست قدماه في الماء، وتسمر ينظر في رأس قصبته المنبئة بسمكة حلم، والثالث عبر إلى رصيف صخري؛ رسى قاربه قريبا منه، وظل يُصارع الأمواج المترددة بقوة؛ بالقصبة العملاقة؛ وبمِمطر واسع وسروال غير نافذ للماء، وجرابه يتدلى من رقبته؛ مُستحكم بإبطه.

والذي يتنقل مثلي على الرمل الجاف والمبلل، ومُنح اتساعا يجوبُه؛ بوقت فارغ إلى حين، فهو وأنا لم نأت -كما بدا لي على الأقل- إلا لِسُكون، وارسال النظر إلى الأفق، وسماع سيمفونية الشاطئ الهادئة، وانتظار الغروب الساحر، هو امرأة...

كانت قد أزالت زوج حذائها من رجليها، ووضعتهما على صخرة واطئة، وسارت ست خطوات، ونزلت بجذعها، وطوت ركبتيها، وجلست على ساقيها ودست وجهها بين الركبتين؛ مُلتقطة صدفات رخويات حية من الرمل، وصارت تدفعها إلى مويجات تتقدم وترجع، وتحفر بعود في الرمل المتشبع بالماء؛ سمعتُها تُدندن بصوت حزين وهي مستمرة بذلك، فتعود وتقوم وتتابع خطواتها ببطء في نفس الاتجاه الموازي لماء البحر المتحرك غير مبالية بفردتي نعلها؛ مما لاح لي أنها ما فوق الأربعين؛ طويلة القد؛ لا هي بنحيفة ولا بدينة؛ بين بين؛ تغطي شعرها بوشاح رمادي؛ خفيف النسيج؛ تظهر من تحته خصلات سوداء، وتلبس ما أسبلته إلى ما تحت الركبتين، وسروالا مغايرا في اللون، وليس لها حقيبة يد؛ لا تلتفت بالمرة في الأرجاء، ولا تعير أي اهتمام إلى من قد يوجد في ذلك الوقت، ثم رأيتها تدخل إلى البحر؛ دون أن تكثرت للماء الذي سيبلل أطراف ألبستها، وتقدمت حتى غاص ساقاها، فكانت الأمواج تضرب عند ركبتيها، وخطت أكثر؛ إلى أن صار صدرها هو من يتلقى ضربات الأمواج، وكانت تتعثر بصخور الأعماق، وتكاد تفقد توازنها، وقد تسقط، وفي هذه الحالة يجب أن تعوم إذا كانت متدربة، فأسرعت خطواتي وناديت وجلا ومترددا:

- ارجعي سيدتي... فإن البحر في مده، وفي غير موسم السباحة... والماء هائج...

سمعت تحذيري، فالتفتت إلي بعينين غائبتين غير مباليتين، وبابتسامة مكتومة؛ تجاهد حزنا دفينا، وقالت:

- كنت سأعود؛ هو الموج استمرأت مداعبته لجذعي؛ لخصري وصدري؛ دفعاته تُؤرجحني؛ تُراقصني...

شممت من كلامها أمرا غريبا، غير مألوف...

ترَكتْ الماء مُبللة تقطر، وصارت تعصر أثوابها، وتعيد أطراف الوشاح إلى رأسها. رفعتُ عيني إلى وجهها مرة واحدة لما دنت مني، وحدقت فيه؛ ليست فيه أي نضارة؛ خدان متصلبان، وشفتان مزمومتان، وصدغان ظاهران، والعينان واسعتان؛ غرقا في غَوْرَيهِما؛ قالت:

- أشكرك.

قلت باهتمام:

- توغلتِ أكثر سيدتي؛ مما لا يسمح به هذا الفصل، والشاطئ خال تقريبا...

نظرت إلي؛ كأنها تنظر إلى شبح؛ لا تنتبه إلى أي شيء فيه، أو يشد نظرها أو يثيرها، وقالت:

- الشاطئ والبيوت ساكنة... أأنت مثلي تلوذ بهذا المكان؟

قلت مُشاركا لها إلى حد ما:

- في بعض المرات يكون ملجأ، وغالبا للتجول، والراحة من القراءة والكتابة.

سألتني:

- أأنت كاتب؟

أجبتها مبتسما:

- نعم.

وكأنها قالت تسأل:

- تُجهد نفسك؛ وتعتكف في محراب إبداعك، وتصوم؛ لتُسعد الآخرين بقراءة ما تكتب؟

قلت كذلك:

- نعم.

قالت:

- حياتي أنا كتاب؛ أقرأه وحدي، وأستمر في قراءته للمرة الثانية والعاشرة والمائة، وما تزال الأيام تأتي بما يستمر، ولن ينتهي كتابي ذاك إلا في ذلك اليوم الذي أودع فيه الدنيا.

سألتها محاولا أن أرغبها في شيء يمتعها، ويزيد من أحلامها، وتتفاءل به:

-أتقرئين؟

أجابت وكأن انعطافا حصل في حياتها بعد حدوث أمر ما:

- أشكرك؛ ذكرتني وأعدتني إلى الكتب؛ أنا بحاجة إليها الآن.

سكتت، وقبضت من جديد على أطراف لباسها، وعصرتها بقوة حتى انقطعت منها القطرات، ونظرت إلى حفرة صخرية انحصر فيه ماء المد الفائت؛ يندفع فيه روبيان دقيق، وتسبح فيه أسماك صغيرة، وتختفي في أغوارها السرطانات؛ قالت دون أن ترفع عينيها:

- إنها كائنات ضعيفة تمرح في بيئتها، والأخطبوط لا أرى منه إلا سحابة مداده.

وانحنت ورفعت أصداف محار ورخويات أخرى؛ قالت وهي تتأملها:

- إن مثل هذه الأشكال من الحياة تُسليني وتُنسيني إلى حد ما؛ وكثير منها موجود في طول الشاطئ.

وبعد صمت تابعت كلامها، وهي تمشي؛ تلتقط أشياء الشاطئ الرملي:

- وهذه أصداف فارغة من رخوي حي، وعشب بحري يابس، وهذه قطعة خشب طافية وأخرى جافة؛ إحداهما مختومة بأسود ما يزال يقاوم أثر الماء؛ يحمل إلي خبر قوم؛ أتصور أفراده يسكنون إحدى الجزر البعيدة؛ يعبر عن يومهم ذلك الختم...

وامتدت كذلك يدها إلى قنينة بلاستيكية من (مَارَكة) مُستحضر واق؛ وقالت:

- وهذه تُنبِئني بأن سيدة صيّفت هذا العام؛ تعتني بنضارة جلدها...

... وإلى أداة لعبة للحفر في الرمل، وقالت:

- تلهّت عن هذه طفلة... تشبه إبنتي عندما كانت صغيرة؛ تخيلتها تبني بها قصورا من الرمال...

ولم تغفل عن طبق طعام جاهز ورقي مرمي؛ ونطقت قائلة:

- وهذا أسعد نفوس أفراد أسرة مُتوائمين، وغذّى ما قُدّم فيه أجسامهم...

ولم تغفل كذلك عن أوراق مجلة غربية تهرأت؛ تحتل صفحاتها صور فوتوغرافية مثيرة وبهية؛ قالت:

- أضاف أحد هذه الصفحات إلى منظر الشاطئ، فهو قد عاش بخياله وبحلمه حياة مترفي ما وراء هذا المحيط؛ نقلتها إليه المجلة؛ وهو في آن يضطجع متمتعا بشمس الصيف والبحر والغروب...

خُيّل إلي أنها لن تنتهي من تناول كل ما يقع عليها بصرها، وهي تسعى أن تتخيل بكل ما يمكن أن توحي إليها مقذوفات البحر تلك.

انصرفتْ في إحدى اللحظات –وكأني لم أكن موجودا معها في المكان- عن ذلك الحطام الذي تجرفه الأمواج، ونظرت بعيدا في البحر، فرأت صيادا يُبحر بقارب صغير بمحرك توجيه، ويتوقف به في وسط البحر، ويشرع في إلقاء شبكته، فقالت:

- قد يكون له أبناء... صغار، وإلا لما أبحر ليصطاد السمك ليطعمهم به، أو يبيعه مقابل نقود يشتري به لهم طعاما... قد تكون له إبنة يعطف عليها كثيرا... إبنة مرحة... ذكية... حيوية... بظفائر عفوية سوداء... إينة تُزيّن له حياته... مثل إبنتي...

توقفت عن الكلام، ونظرت حولها، فرأت على الرمل هيكل سرطان فارغ؛ تتمفصل أعضاؤه، أخذته وقالت بصوت متهدج:

- أحزن للسّرطان... فني جسمه الحي... فنحن كذلك نفنى... لم يبق منه إلا قِشْرا يتكسر؛ يتفتت... كذلك نحن نموت... نفنى...

ولم تستطع مقاومة نشيج، وصارت تبكي، ثم تنتحب، والتفتتْ، واتجهت إلى صخرة وانهارت عليها، واستمرت في بكائها، ودمعها ينهمر من عينيها...

تفاجأتُ، وهالني بكاؤها، فسألتها باهتمام عاطفي:

- كفى بكاء سيدتي... أأنت بخير... أأنت هنا لأمر همك كثيرا؟

لم تجب، فلم أكبح جماح شعوري بالخوف عليها، فسألتها بجدية:

- لماذا أنت هنا بالضبط سيدتي؟

رفعت حينئد وجهها إلي ونظرت في عيني طويلا، وقالت:

- لماذا أنا هنا... تسألني لماذا أنا هنا... ضاقت بي جدران الشّقّة... ما يزال مكتبها الملمع بالورنيش في ركنه...

سألتها:

- من تكون صاحبة المكتب هذا؟

لم تجب على سؤالي وأردفت:

- ما تزال عليه كتبها، وكراساتها، وأقلامها، ومبراة قلم الرصاص وأقلام الألوان، وفرشات الأصبغة، ورسوماتها، وأقراطها وخواتمها، ومِشدّ شعرها، وحلقة معصمها الجلدية...

غلبها النشيج، فلم تستطع متابعة كلامها، ولم أقل أنا لها شيئا، ثم عادت واستمرت قائلة:

- ابنتي... ابنتي الوحيدة...

انتفض جسدي وقلت في نفسي: «أكانت ابنتها غريقة في هذا البحر في موسم الصيف الفائت؟»، سألتها قائلا:

- أتعرضت ابنتك لحادث لا قدر الله؟

رفعت مرة أخرى عينيها في وجهي وقالت بصوت يقطعه بكاؤها:

- ابنتي ذات السادسة عشرة... الوحيدة... ماتت... ماتت منذ يومين... ماتت بالسرطان...

لم تعد لساقي القدرة على حملي، فنزلت بجذعي حتى تساويت معها، وقلت معزيا إياها، وقد حضرني ما حفظته في آداب العزاء :

- عظم الله أجرك في ابنتك، وهذا حال الدنيا، فمن أعطاك هذه الإبنة هو من أمر بقبض روحها.

سكتُّ لحظة، وقلتُ:

- تجدين السلوى في أبيها...

قالت:

- مات أبوها منذ سنين، وهي ما تزال في سن صغيرة.

تألمت كثيرا، واستطرت قائلا كذلك:

- وعظم الله أجرك في والدها...

ولم تتفوه هي بأي كلمة، لقد فاهت بما كانت تحتفظ به. قلت لها:

- سيدتي؛ حتى أظل مطمئنا عليك؛ أرجوكي عودي إلى بيتك فقد اقترب المساء، ولك هذا المكان داومي على القدوم إليه؛ ستجدين فيه باستمرار هذه الأشياء التي يرمي بها البحر، ويُرسبها على رمال الشاطئ، وكنت قد عرضتيها عليك وعلي منذ قليل، وتُسعدك، واحذري سيدتي فليست كل القلوب مثل قلبك..

قالت:

- أشكرك أيها السيد فلك قلب يشعر بالآخرين.

احتذت فردتي نعلها، وتحركت، وسرت أنا إلى جانبها، فغادرنا معا الشاطئ في طريق ضيق أفضى بنا إلى الشارع الكبير، توقفتُ عن المشي وقلت لها:

- تصلين إلى بيتك بسلام؛ أنت في حصن القادر.

التفتت إلي بابتسامة باكية، وقالت:

- أشكرك.

وقطعت الشارع وسارت بيدين مُسدلتين، والتفتت إلي مرة أخرى، رافعة يدها بحركة امتنان، وبابتسامة مهدودة بالنشيج...

ظللت أتابعها بنظري، حتى اختفت في انعطافة، وأنا أتساءل: «في أي سبيل من سبل الحياة يا ترى هي ماضية هذه المرأة، وبأي حال ستكون؟».

رجعت إلى بيتي، وذهني مشغول بمآل فردين من أسرة تلك السيدة الصغيرة، وبالوحدة القاتلة التي ستعيشها في الغالب بعد فقدانهما، وتوجهت إلى غرفتي، وأنا أريد أن أختلي بنفسي، تملؤني أحاسيس كثيرة، وتناولت ورقة واحدة لا غير، وقلما، وشرعت -وقلبي يدق بسرعة خوفا من أن تضيع خيوط تفكيري- أكتب ما ينتهي القارئ الآن من قراءته.

***

قصة قصيرة

أحمد القاسمي

 

في نصوص اليوم