نصوص أدبية

عبد اللطيف الصافي: مُطارَدَات

عبد اللطيف الصافيعندما أَتذَكَّرهُ

أَعْرفُ أنَّ وراءهُ تاريخاً مَنْسيّاً

بَعِيداً

على ضِفافِ وادِي الْعَبِيد

حيْثْ الشمسُ بِشَعَرها الذَّهَبي

تغْفُو في أحْضانِ الْقَواربِ

والْأسْماكُ تُنَظَّمُ مُسابَقاتٍ في الْغَطس

و مُراوَغَةِ شِباكِ الصَّيْد

تاريخاً حَافلاً بالسَّبْي واقْتِلاع الْجذور

ممْتلئةٌ به عصاهُ

تلكَ الْعَصا التي بِطولِ قامَتِه

يُلوِّح بها ضدَّ الغنمِ الشَّاردة

و ليسَ له فيها مآربَ أُخرى

عنْدما أتذكَّر " رْجَيْلَاتْ النَّمْلة"

أعرفُ أنَّه لمْ يكنْ مُجَردَ عبدٍ أسْود

كانَ راعياً ماهراً للغنمِ والمَاعز

بارعاً في اسْتِدراج قِطْعانه إلى الْبَرِّية

خالياً من الضَّغائنِ والأحْقادِ

منْ ثُغائها المَشْحونِ بالْغرابَة

وحِكاياتِ الْعَجائِب

يَبْني جِسْراً للسُّؤالِ

عنِ الْحَال والْأَحْوال

عن تشَظِّي الإِنْسانِ

و عُزْلتهِ

عن الخُبزِ الخَالِي منَ الْمِلح

عن الدَّمِ الذي سالَ في حلْمِ الْمُهمَّشينَ

وَقْعُ سَنابكِ الخَيْل علَى الرَّمْل

دوائرُ الْغبارِ

صَدى الغَيْلان

في لَيْل الأرضِ الْبَوار

ورغْمَ أنَّه لمْ يكنْ يحملُ في جِرابهِ ناياً

يُلَطِّف به رَتابةَ الزَّمنِ

وعُنفَ الأقْدارِ

مِثْلما يفْعلُ الرُّعاةُ

الْحُفاةُ

فقدْ كان يعرفُ كيفَ يجْعلُ الْعُشبَ الأَخْضرَ

ينْسجمُ مع القَطيع

في "تْهَيْدينَة" تسلُب لُبَّ السَّناجب

التِي لا تتوقَّفُ عن الرَّقصِ

إلا بعدَ أنْ تهْتزَّ شُجَيْراتُ " النَّبقِ"

تلمَعُ حُبَيْباتها القانِيَّةُ مثلَ عيونٍ حَمْراء

تنْفجرُ ضَاحكةً

فتَسقطُ الأَغنامُ

صَرْعى

تسْقطُ الأحلامُ

تصْمتُ الْخيامُ

وَحْدها نعْجتهُ الوحيدةُ تموتُ واقفةً

تُذكِّرُه بِأُمهِ التي لمْ يعُدْ يَتَذكَّرها

سِوى في عينيْ نعْجتةِ

يهُمُّ بها ليأكلها

يلبسُ جِلدها مُتَقمصاً روحَ " شَرْتات "

وهناكَ وراء الأكَمة ذئبٌ

يدرِّب فكَّيْه على تمزيق خرائطِ الماء

يمشُطُ شَعَر الريح

ما كادَ يعْوي ويَثِبُ

حَتى طارَ " رْجَيْلَاتْ النَّمْلة" مُسَرْبلاً في جلدِ نعْجته

مَفْزُوعاً

هَارِباً

يطارِدهُ تاريخٌ منْسيٌّ منَ الغَارات

والمُداهَمات

والتَّوَسُّلات

والمُزايداتِ في الأسْواقِ الْمُظْلِمة

حيث الصُّدور عَاريَّة

والْقُيودُ منْ حَديدٍ

و تَهْديدٍ

و حُكْمُ الْأسْلافِ

و الْأعرافِ

وَبيْنَما هُو يجْري

والذِّئْب خَلْفَه يَجّري

تَعَثَّر فِي حُلْمِه

وسقَط عَلَى أنْفِه

و حِينَما فَتَح عَيْنيْه

لمْ يَكُن هُناكَ ذِئْب ولا غُبار

كانَ الْجَرادُ يَزْحفُ فَوْق صَدْره

مُلْتهماً الْعُشبَ الْأخْضرَ

والْقَطيعُ أمامهُ يَثْغُو مُتسائِلاً :

هلْ خُلِقْنا حقاًّ مُتَساوُونَ؟

***

عبد اللطيف الصافي

..........................

* رْجَيْلَاتْ النَّمْلة: شخصية معروفة في وادنون، أسود البشرة، قصير القامة ونحيل. كان يرعى الغنم.

* شَرْتاتْ: إحدى شخصيات الحكايات الشعبية الصحراوية

* تهيدينة: مصطلح يطلق على الأدب الملحمي في الشعر الحساني

 

في نصوص اليوم