تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

نصوص أدبية

كمال الدين الفهادي: عقال التيجان

وإذ يجلس متمعنا في صفحة من صفحات التاريخ تأتي سيدة بقوام ممشوق فارعة الطول تخطر بين يديه قال: صباحا قالت: صباحك وابتسمت. يا لثيابها السود وعينيها السوداوين اللتين أحبها العالم لسوادهما . فتحت له ذراعين طويلتين بيضاوين بعذوبة النهر. سألها مشاكسا. أمسلمة أنت؟ أومأت برأسها. شيعية أنت؟ هزت رأسها نفيا. سنية إذن؟ ابتسمت أبدا أبدا. أعربية أنت؟ رفعت حاجبها الأيمن. أكردية أنت؟ رفعت حاجبها الآخر. إذن أنت تركمانية. جقجقت بشفتيها: أن لا. قولي من أنت فقد حار سؤالي. أعادت خصلة من شعرها بين الوسطى والسبابة والإبهام تحت ربطة رأسها الحمراء. كان اللون جميلا إذ ينساب بحمرته على بياض قميصها الناصع مثيرا دهشة بانسجام الألوان التي تتناسق مع سواد تنورتها الفضفاضة الطويلة. لا تملك إذ تراه إلا أن تقول بلسانك أو في سرك (الله اكبر)، يا سبحان الله ، ما هذا الجمال العريق المتألق؟! سألته ماذا تقرأ؟ أجاب: شيئا من رسالتك الأولى، وأقرأ شيئا آخر في صفحة اليوم لعلها ان تطوى فتكتب صفحات المستقبل إذ يطلع نور الصبح عليها. أتحبني؟ أموت عشقا فيك ومن لا يحبك إلا جاهل أو مجنون أو أحمق! حسن أنت اليوم تقرأ أو تكتب أيضا؟ نعم أنا أحسن الكتابة لعينيك وبريق مشرق من شفتيك. ابتسمت بزهو ودلال متسائلة. أتذكر يوم علمتك الحرف الأول – إذ أمسكت بأصابعك المرتعشة ووضعت فيها أول قلم تعرفه فكتبت اسمي وقلت لي: لن أنساك أبدا أبدا لن أنساك. يومها تماسكنا بالأيدي وركضنا في الغابة قطفنا الثمار، ثم همست في أذنيك: تعال فلنزرع وقلت لي: ما لزراعة؟ ماذا نزرع؟ أنا لا أعرف الزراعة. ضحك مقهقها نعم نعم أذكر ذلك لا أنساه. يوم ضحكت تلك الضحكة باتساع شروق الشمس شاهقة شهقات من الضحك لا أنساها شعرت حينها أني طفل بين يديك – مسّدت شعري وقلت: خذ هذا العود واغرسه في التربة، وضع نواة التمر فيها تصبح نخلة. ثم زرعنا، وشابت وجهه شائبة حزن. قال: آه ما أجمل أن نزرع. سارا معا على شاطئ النهر فراتا عذبا تغرد حوله الطير وتأتي أسرابا أسرابا لتشرب من شاطئه. كانت الطيور حزينة تزقزق إذ تنهض مثقلة بالماء لكنها تبدي أصواتا حزينة. سألته ماذا حل بعالم الطير؟ أعرف هذا الشاطئ يعج بأسرابها مغردة ولاسيما العنادل فوق النخل صادحة بأعشاشها سكرى بحلاوة التمر. قل لي ماذا حل بشواطئها ولماذا مغبر سعف النخل؟ زفر زفرة طويلة وقال: أو تدرين ما فعلته الريح الهوج بغابات النخل؟ أتدرين كم قتلت منها وكم عصفت بها رياح متلونة متموجة لا لون لها وترى من كل الألوان. جلست على صخرة قرب النهر وجلس إلى جانبها وغمرا أقدامهما بالماء، بدأت صغار الأسماك تنقر أصابعهما قالت يبدو النهر حزينا من القاع إلى السطح وماؤه كدر لا تبدو فيه أقدامنا كما كان على عهده يوم كنا نجلس. قال تغيرت الأمطار فتغير النهر وشح الغيث فانحسر الماء وتغير عليه الناس فتغير وتكدر. مرّ في وسط النهر قارب ينساب على هوى الماء قد ترك قائده المجداف تاركا حبله على الغارب وقد ألقى صنارته في الماء ينتظر أن تعلق فيه سمكة ما وشبك أصابع كفيه خلف رأسه وهو يغني موالا عراقيا، وعندما رأى السيدة وقف في القارب مناديا إياهما بأغنية قديمة: فوك ارفع ايدك، فوك ارفع ايدك، سلم سلام العراق، فوك ارفع ايدك، سلم سلام الأحباب فوك ارفع ايدك . صاح به قارئ التاريخ مكملا أغنيته: كلبي ايريدك، كلبي ايريدك، طرب قائد القارب وبدا يرقص فيه فتمايل القارب وأوشك على الانقلاب فحاول استعادة التوازن برفع ذراعيه وفي أثناء اضطراب حركاته طاح العقال من رأسه إلى النهر صاحت به: عقالك، عقالك. لم يكترث للعقال. بل أمسك خيط الصنارة ليرى ما علق فيها...لم تتماسك أن ألقت نفسها إلى النهر سابحة كفا بكف باتجاه القارب، كانت كل لطمة من كفها لوجه الماء تثير رذاذا وصوتا يشبه قرع الدف حتى إذا وصلت قريبا من القارب غاصت وغابت طويلا تحت الماء، حبس قائد القارب أنفاسه وأمسك قارئ التاريخ قلبه وعيناه جاحظتان من خوف وقلق، وفجأة انبثق من أمام القارب شلال ماء كأنه نافورة في وسطها جمال من السواد فإذا بها وقد وضعت العقال على رأسها وأخذت تسبح نحو الشاطئ، صاح بها ذو القارب: عقالي، عقالي، هات عقالي، أعطني عقالي، وصلت إلى الشاطئ والماء يتناثر من رأسها وثيابها التي التصقت بجسدها فازداد جمالا قوامها الممشوق أيتها السيدة: عقالي عقالي. قالت: هذا عقالي لا أعطيه إلا لمن يفهم ما تحته من ثقافاتي ولغاتي ولهجاتي، أوشكت أن تغرق القارب وتضيّع العقال أنت لا تستحقه أبد، أبدا لن أعيده إليك. بدأ قارئ التاريخ يغني مشيرا إلى القارب: شدعيلك يلّي حركت كلبي يكون ابلوتي يبليك ربي سهران ليلك مهدوم حيلك....

 

ا. د. علي كمال الدين الفهادي

 

 

 

في نصوص اليوم