نصوص أدبية

محمد محضار: زمن التفاصيل

محمد محضارعندما استيقظ هذا الصباح اكتشف أن أشياء كثيرة ظلت غائبة عنه سنوات طويلة،دون أن تحظى بانتباهه أو تنال نصيبا من اهتمامه، فالتفاصيل لم تكن تعني له شيئا،لقد اعتاد على رؤيا شمولية للأشياء وظل وفيّا لمبدأ الكل لا الجزء،فجمال الزهرة يكمن فيها لا في لسيناتها وباقي مكوناتها، وجمال المرأة يدرك بنظرة بانوراميه شاملة، كذاك الحب فهو يُقذف في الفؤاد نورا متوهجا ليزرع فيه الدفء والفرح ويغدي الروح بنسمات.

لكنه الآن يجد نفسه يكتشف عالما جديدا، تتسيد فيه التفاصيل، وتسيطر الأجزاء بدرجات متفاوتة وعمق متنوع ومختلف، عالم تبدأ الأشياء فيه صغيرة وغير ذات معنى لتصبح فيما بعد ذات قيمة كبيرة . ليس مهما

أن يدرك ذلك في وقت متأخر، فالتجربة تَكسب قيمتها من وَشم السنين ونضج الشخصية.

كانت البداية بزوجته التي عاشت برفقته ربع قرن دون أن يتفحص تفاصيل وجهها وجسدها، وها هو يكتشف هذا الصباح وهي تجلس قبالته على مائدة الإفطار، أن الصباغة لم تعد قادرة على اخفاء بياض شعرها، كذلك المراهم والدهون لم يعد لها مفعول في إخفاء خطوط التجاعيد المحفورة على جبينها، بل أكثر من هذا يكتشف ان تحت ذقنها خالة سوداء لم ينتبه إليها قط .كما أن جسمها لم يعد رشيقا ومسّتْه السّمنة والثخانة بشكل رهيب، وجمالها يكاد يُصبح في خبر كان. 

عندما نزل إلى الشارع صدمه مشهد العمارة التي عاش بها أكثر من نصف عمره، فجدرانها كساها السّخام، ومحيطها اكتسحته الأزبال والمياه العادمة المنتشرة بشكل مقرف تساءل: “كيف مرت كل هذه السّنون وهو يعيش خارج سياق التفاصيل ؟”كيف تأتى له أن يُجمِّد عقله وقلبه، ويكبح جماح رغبتهما في تدقيق شامل لتفاصيل الأشياء؟؟.على كل حال الأوان لم يفت بعدُ، ومازال أمامه الوقت الكافي لتحقيق ذاته وتغيير نظرته للعالم.

ركب سيارته القديمة وانساب بين شوارع المدينة، أحس بانتعاشة غريبة وهو يكتشف تفاصيل متعددة كان يمر بها بشكل يومي دون أن يهتم بها، أو ينتبه إليها،ها هو يعيد ترتيب أوراقه ويدخل غمار حياة جديدة تدفع به إلى التّفاعل مع الواقع بشكل أكثر عقلانية وواقعية، بعيدا عن كل المؤثرات الخارجية، أو إسقاطات الذات .

عندما وصل بناية الإدارة التي يشتغل بها، انتبه لأول مرة إلى الّلوحة الموجودة في مدخلها وقرأ مضمونها بتدقيق ثم دخل وعيناه تحملقان في كل ما حوله وكأنه يكتشفه لأوِّل مرة:

الممر الطويل و البساط الأحمر الممتد على طوله، أبواب المكاتب البنية اللون، اللوحات التشكيلية المعلقة على الجدران، ولمبات النيون البيضاء المشتعلة ..توقف أمام باب مكتبه، وقرأ اللافتة المثبتة عليه : ” محمد علوش رئيس الموارد البشرية “..هذا شيء جميل وبريستيج لم يهتم به من قبل. دفع الباب وولج داخلا، أحس بان المكان فخم، وانه قلّما متّع ناظره بروعة الفضاء وسحره، جلس فوق الكرسي الجلدي الموجود خلف مكتبه الضخم، وضغط على زر الجرس كالمعتاد، فدخلت الكاتبة، تحمل” البارا فور” الخاص بالتوقيعات، حملق بها وكأنها تقف أمامه أول مرّة، قامة هيفاء وجسم يحتضنه فستان يبرز كل مفاتن “الأنثى الجميلة”،فتحه وعيناه تسترقان النظر إلى سيقانها وصدرها العامر. كم هي جميلة التفاصيل إن تعلّق الأمر بغادة حسناء مثل هذه الكاتبة ..وقَّعَ الأوراق بارتباكٍ ثم أعادها إليها، فاحتضنتها وهي ترسم على محياها ابتسامة مغرية، بعد أن احست بنهم نظراته، تابع عجيزتها المكتنزة بعينين جاحظتين وهي تغادر المكان، تاب إلى نفسه وأحس بان مرحلة التفاصيل قد اقتحمت حياته دون استئذان، ولن يتخلّى عنها مهما كانت الأسباب والمسبّبات.

 

محمد محضار : خريبكة

 

في نصوص اليوم