نصوص أدبية

نضال البدري: قصر السلطان

اجبرهم الفقر وضيق ذات اليد وخلافهم مع صاحب الدار الذي كانوا يسكنونه، بسبب مطالبته بزيادة في الايجار على البحث عن منزل اخر يناسب دخلهم المادي، ونصحهم أحد الاصدقاء بأن يبحثوا في الاحياء القديمة للمدينة، التي غالبا ما تكون ايجاراتها زهيدة ومناسبة لمن هم في مثل ظروفهم، وبعد البحث والسؤال استطاعوا ان يجدوا منزلا يعود لأرملة، استأجروه مقابل مبلغ بسيط، لقدمه ولأنه منزل مهجور، وبدا هذا واضح للعيان من سياجه المائل وبنائه القديم، وحين دخلوه وجدوه مليئا بالقطط والجرذان فقد جعلت منه البيوت المجاورة له مكبا للنفايات .

باشرت الزوجة بتنظيفه ورفع النفايات عنة، كلفهم الامر وقتا وعناء استغرق ما يقارب الاسبوع، بمساعدة زوجها وابنتيها كشف بعدها النقاب، عن جمال هذا البيت الذي زين بزخارف في الجدران، وأقواس ونقوش زينت باللون الفيروزي . بدا وكأنه قصر لأحد السلاطين أدهش جماله الزوجة وبناتها، واضاف الفرحة على الزوج الذي كان قلقا بشأن هذا البيت الذي ربما لا يعجب الزوجة والبنات . بينما اثنت صاحبته عليهم وعبرت لهم عن شكرها لأنهم جعلوا منزلها يبدو بهذا الشكل الجميل.

كان المنزل يحوي سبع غرف، يتوسطة حوش كبير مفتوح باتجاه السماء، و سرداب تحت الارض اغلق بابه بإحكام، والغرف السبع تم غلق والغاء البعض منها، لأنهم لم يكونوا بحاجة لها جميعا. زينت الزوجة الحوش الكبير بأصص من ورد الجوري والرازقي وبعض النباتات الظلية الاخرى . ليبدو كحديقة داخلية اضافت للمنزل روحا حية، اما البلاط فكان من الطابوق الاصفر المربع الشكل، الذي يصبح أكثر اصفرارا كلما قامت بتنظيفه .

بعد يومين من سكنهم فيه ترددت عليها بعض الجارات، اللواتي تعرفن عليها مبدين دهشتهم وإعجابهم بشكل المنزل الجديد . واستغربت كيف سكنت فيه، فمنذ زمن بعيد لم يطرق بابه احد، كما حدثنا وذكرنا لها تاريخ هذا المنزل فقد اشترته امرأة غنية سقط ابنها الوحيد من إحدى شرفات المنزل، ومات فتشاءمت منه وباعته لأحد التجار الكبار في المدينة الذي انتحر هو الاخر، بعد ان خسر تجارته ثم آل به الامر الى صاحبته المرأة الارملة الثرية التي لم تسكن فيه بل عرضته للإيجار بعد ان سمعت تاريخه، واقصى زمن امضاه مستأجر فيه كان شهرين، لكنها لم تعر لكلامهم اي اهتمام لأنه من الواضح انهم يشعرن بالغيرة والحسد، لما آل اليه المنزل من نظافة وشكل جديد، وهي بالإضافة الى ذلك كانت تبخره كل يوم وتقرأ فيها الادعية وماتيسر من كتاب الله..

شعرت هي وبناتها براحة كبيرة فيه، ولكن بعد اسبوعين من سكنهما فيه حدث شيء !! اثار استغرابها وشكوكها وقلقها فقد خرجت أعداد كبيرة من النمل، وحشرات اخرى غريبة من فتحات في ارضية المطبخ والحوش، وإحدى الغرف وانتشرت في المنزل واصبحت تقلق نومهم بشكل كبير، بالإضافة الى انهم بدأوا بسماع بعض الاصوات الخافتة، التي كانت تخرج من السرداب والتي تشبه الحديث المستمر.

حدثت نفسها بالقول: نحن في فصل الشتاء ومن الغريب ان تخرج تلك الحشرات بهذا الشكل المفاجئ، كما ان هذه الاصوات التي يسمعونها لا يمكن الشك فيها، شعرت بأن هذه الامور ربما تكون نذير شؤم واكثرت من النظافة والادعية، لاسيما وأنها كانت امرأة متدينة .

بعد ذلك بيومين وبشكل مفاجئ سمعت صراخ احدى بناتها في الحمام، هرعت اليها لتجدها جالسة عارية ترتجف، في إحدى زوايا الحمام وهي تبكي بهستيرية، وتقسم بأنها شعرت بأن يدا قد لامست جسدها حين كانت مغمضة العينين ويغطي وجهها الصابون . استغربت الام، وزاد قلقها الذي حاولت ان تخفيه عن ابنتها، هدأتها وقالت لها: انها اوهام لا يوجد أحد غيرنا في المنزل، لا شيء يدعو للقلق او الخوف..

أحكمت الام غلق النوافذ جيدا وتفحصت ابواب الغرف جميعها، وأصبحت مستيقظة بحواسها الخمس، وشرعت بتبخير الغرف وقراءة الادعية، ورش الملح ونقيع ورق السدر في كل زوايا المنزل، لكنها مع ذلك لم تشعر بالارتياح، أصبح المكان يضيق بهم كثيرا، على عكس ما كان عليه في بادئ الامر، مع كثرة الكوابيس التي تراود بناتها والتي غالبا ما تنتهي بـ فزع وصراخ وسماع أصوات تصدر من المطبخ كقرقعة الصحون في منتصف الليل . زاد ذلك شعورها بالقلق والخوف، واخذت الموضوع على محمل الجد، حدثت زوجها بذلك قائلة: يجب ان ننتقل الى بيت اخر، يبدو بأن كلام الناس صحيح عن هذا المنزل فالبنات يشعرن بالخوف ولا يستطعن النوم ولن نبات يوما اخر في هذا المنزل. طمئنها وحاول تهدئتها، فخاطبها: لا تكوني اسيرة لأوهامك عليك ان تكون أكثر عقلانية، لم اصدق اننا وجدنا منزلا بهذا الايجار الرخيص، لا تدعي كلام الناس والخرافات تسيطر عليك، تحملي قليلا لحين حصولي على عمل إضافي يكفينا لإيجار منزل أفضل منه . وصمتت على مضض هذه المرة، ذات مساء بارد وبعد وقت الغروب، حينها كان الجو غائما وقطرات المطر بدأت تنزل تباعا تطرق نوافذ المنزل، هبت ريحا شديدة جعلت أبواب بعض الغرف تصطفق، وتسببت ايضا بقطع التيار الكهربائي، عندها غطى الظلام المكان فقد اختفى القمر ليلتها، فجأة سمعت طرقا على الباب، طرقا خفيفا متقطعا حملت الفانوس وهي تتلمس طريقها، فمن ياترى يأتي لزيارتهم في مثل هذا الوقت المتأخر وهذه الاجواء الممطرة ؟ صاحت من الطارق ! وجاءها الرد وكان صوتا لامرأة كما يبدو : انا جارتك افتحي الباب، فتحت الباب وضربات قلبها تتسارع، تسمرت مكانها بعد أن صدمها مارات وكادت ان تفقد وعيها لولا انها تحلت ببعض الشجاعة ورباطة الجأش، رأت ثلاث نسوة تتوسطهن امرأة برأس ماعز، كن أقصر قامة منها كلاهما يضعن فوق رؤوسهن عباءات سود، يقفن صامتات وعيونهن يتطاير منهن الشرر قربت الفانوس نحوهن وهي لا تصدق ما ترى !! فلربما كانت تحلم، لكنه لم يكن حلما وما اكد هذا زخات المطر التي كانت تبلل ثيابهن واجسادهن، سرت في جسدها قشعريرة كادت على أثرها أن تفقد وعيها لكنها تماسكت مرة اخرى، قالت لها المرأة التي برأس الماعز بلهجة آمرة وصوت مخيف جدا، اتركوا المنزل فورا فقد تحملنا منكم الكثير انت تحاربنا لكنك لن تهزمينا، ارحلوا قبل ان نفعل بك وبعائلتك شيئا تندمين عليه مدى حياتك يا امرأة. ثم اختفت النسوة في الظلام الدامس وبقى صوت المطر....

***

 

نضال البدري - بغداد/ العراق

 

في نصوص اليوم