نصوص أدبية

لمى ابوالنجا: خطيئة الحب والجمال

الجزء الثاني من: رواية: مناوشات عاطفية

بعد كل حوادث السقوط تعاملت ولأول مرة مع مثل هذه المواقف بنوع من الكوميديا والاستهزاء وبدأت أحكي ماحصل لي في تلك الليلة المعتمة لصديقاتي ومعلماتي بالمدرسة كأحد مظاهر الفخر والإعتزاز بأنني وبالرغم من كل ما تعرضت له من مآسي مازلت متمسكة بمواقفي، كنت أشعر بالرضا بالمدح والإطراء على ثباتي وجهادي في مثل هذه الأيام ووسط جيلي الفاسد..

كنت أرى أن الإهتمام بمظهري الأنثوي وبأناقتي هي أحد مظاهر الفسوق والإنسياق خلف خطوات الشيطان خاصة وأن خطوط الموضة لم تكن تناسب قناعاتي لذلك كان لابد لي من إبتكار خط موضة حسب معاييري الخاصة والتي كانت كارثية بطبيعة الحال (بلوزة بأكمام طويلة تحت فساتين السهرة "السواريه" تنانير قصيرة فوق بناطيل الجينز، تسريحة شعر مستوحاة من العصرالفكتوري ) وأشياء من هذا القبيل..

كنت مثار سخرية كبير ليس فقط على مستوى العائلة إنما لمعارف العائلة ، فقد كان علي التصدي لكل ذلك التنمر والتعنيف على جميع الأصعدة وتحمل المقارنات المستمرة بيني وبين البنات اللواتي في نفس عمري بحضورهن ووسط محاولات أخواتي وقريباتي بإصلاح مايمكن إصلاحه من مظهري العام وعنادي وعنف ردود أفعالي،توصل الجميع لإتفاق صامت على عدم ابداء تعليقات سلبية لانه لم يكن هناك أي إحتمال تعليق إيجابي.

لم تتوقف الكوارث عند ذلك وحسب بل إمتدت إلى الإنتقاد اللاذع لكل من خالفتني متهمة إياها بالضعف والفساد وقلة التربية وانعدام المسؤولية الأخلاقية والوازع الديني.

قررت والدتي الإحتفال بعيد ميلادي ولأني رفضت بشدة الإحتفال بغير أعياد المسلمين إستبدلته بإحتفال بنجاحي وحصولي على المركز الأول. لعل ذلك الإحتفال يساهم في جلب بعض السلام لروحي.

ولأنني لست مبذرة بطبعي فقد كان إرتداء الملابس القديمة وإعادة تدويرها خياراً مناسباً لي بل أكثر راحة من ناحية نفسية ولم يكن يهمني حالة تلك الثياب سواءً مهترئة كانت، جديدة، أم عصرية.

لبست تنورة سوداء مصنوعة من الجلد قصيرة لمنتصف الفخذ كنت قد إشتريتها في لحظة غفلة أنا وإبنة الجيران والتي كانت زميلة لي بالصف كذلك لكني أضفت إليها بعض الرتوش الخاصة، لبست تحتها بنطال من الجينز الأزرق الفاتح واستبدلت القطعة العلوية العارية بقميص رسمي أبيض واسع أغلقت أزراره من الرقبة وحتى آخره، فرقت مقدمة شعري من المنتصف وجدلت أطرافه وخرحت من الغرفة.

رأتني والدتي قالت: "يابنتي على الأقل إفردي شعرك، رتبيه ..."

لم أتركها تكمل الجملة، رددت بكل حزم "ماما لو سمحتي أنا حرة"..

رن الجرس وفتحت أختي الباب لإستقبال صديقاتي

دخلن وبيد كل منهن هدية، وفي أثناء إنشغالي بالسلام على مروى وأختها مروج إلتفت إلى اليمين وإذ بأختي تعلق عباءة هنادي وهذه المعصية الكبرى متجسدة أمامي.

كانت ترتدي نفس التنورة التي إشتريناها معاً مع فارق بسيط وهو أنها لبست الطقم كاملاً بدون إضافتي الإبداعية التنورة البنّية القصيرة والبلوزة عارية الظهر الذي كان يغطيه شعرها النحاسي الغجري، كعب عالي وعدسات عسلية ومكياج برونزي.

أقبلت علي بكل رقة وباركت لي واعطتني هدية مغلفة بالبالونات والشرائط الذهبية المميزة جداً عن كل الهدايا الأخرى ضيفتهن في صالة الضيوف، تلك الغرفة في شقتنا الصغيرة والتي أحببتها كثيراً يتوسطها كرسي خشبي يتسع لثلاث أشخاص وعلى اليسار كرسي مفرد آخر وكرسي خشبي هزاز على اليمين، منجدة بقماش يحمل نقوشاً برتقالية وبنية لأوراق الخريف المتساقطة، وفي منتصف الجدار لوحة زيتية كبيرة رسمها والدي لمنظر سفينة راسية على الشاطيء في وقت الغروب..

تلك الغرفة كانت تشع دفئاً طوال العام حتى في صقيع تلك المدينة الجبلية.

جلست هنادي على الكرسي الخشبي الهزاز أمامي، أثار مظهرها الفاسق إستفزازي لكنه إنطبع بذاكرتي طويلاً، فقد بدت بتلك اللحظة وكأنها التحفة الناقصة في الغرفة التي يكتمل بها الجمال.

كان حديثنا منصب حول المدرسة والمعلمات والمقالب وبعض الشائعات وفجأة قطعت الحوار قائلة : "بنات مللنا من قصص المعلمات لتحكي كل واحدة منا عن قصة حبها أو من يعجبها مثلاً حب من طرف واحد"

إحمر وجهي خجلاً رددت عليها :"ليس هناك من داعٍ لمثل هذا الكلام الآن مازلنا صغاراً"

قالت: " معقول أن لا أحد علق بقلبك؟ معقول لم تعجبي بأي شخص؟ لا أصدق إما أنك تكذبين أو تملكين قلباً متصحراً"

ثم توقفت عن متابعة الكلام حينما رأت أن مزاجي بدأ يزداد حده وتدخلت مروى "لحل النزاع"

في تلك الأثناء دخلت والدتي تطلب منا الذهاب لغرفة الطعام لإطفاء الشموع وتناول العشاء وبالرغم من إستمتاع صديقاتي إلا أن كلام هنادي كان يجُرّني لشيء مجهول ويعصف بأفكاري وبكل قسوة : معقول أن قلبي معطوب لدرجة أنه غير صالح للحب؟! لماذا؟! ولماذا لم تخجل أبداً من التصريح بإعجابها بإبن خالتها؟!

كنت كلما حاولت البحث عن إجابة لا يحضر تفكيري سوى صورة أحد أبناء الجيران ودفء ذكريات حب الطفولة البعيد، شعرت بلهيب غريب في صدري شعور يشبه أن أمد يدي مقابل شمعة أشعر بحرارتها في منتصف كفي من بعيد، إن إقتربت حرقت يدي.

أشعلت أختي الكبرى الشموع على الكعكة ومددت يدي حينها لأختبر ذلك الإحساس الذي صنعته بخيالي ..

كنت غارقة باللذة والتأنيب والإستحقار بذات الوقت وبدأن البنات بالغناء لي بأغنية عبدالحليم حافظ بحكم انني رفضت تشغيل المسجل..

قلت: رجاءً الغناء والتصفيق حرام نكتفي بالمباركة"

قالت هنادي: " طيب اذا أطفأنا الشموع نصفق؟ أم نقول الله اكبر.." ضحك الجميع من التعليق هذا ضحك هستيري، لم أكن أعلم لماذا كانت تصر هذه البنت على إستفزازي وكأن القدر وضعها بطريقي لغربلة معتقداتي وزعزعة تطرفي وكأنها صحوة التحول في حياتي.

ثم ومع مرور الوقت بدأت أشعر بالإكتئاب، أقف أمام المرآة وأنظر إلى كل مظهري بإستياء، كنت أدرك أن معهم حق لكن الأخذ بنصائحهم بمثابة الضعف بالنسبة لي ولم يعد مخزون الثناء الذي أتلقاه من معلمات الدين في المدرسة كافي لإخراجي من براثن اليأس..

نزلنا إلى جدة بزيارة لمنزل عمي.. هناك وبالغلط رآني ولد عمي، صحت بوجهه لعدم ازاحة نظره عني فقال:

"اعتقد انك فعلا جميله واجهل لماذا تشوهين نفسك"

نزلت كلماته علي مثل الصاعقة، فهذه المرة الأولى التي أسمع بها هذه العبارة.

***

لمى ابوالنجا - السعودية

في نصوص اليوم