نصوص أدبية

نضال البدري: حياة أخرى

ثوبها الأسود الملتف حول جسدها النحيل جعلها تبدو كفسيلة نخيل صغيرة، تحاول ان تقف شامخة بعد ان اجبرت على ان تنحني وتلميع زجاج المركبات في التقاطعات و المتوفقة عند إشارات المرور حين تتوهج باللون الاحمر، مقابل نقود قليلة تحصل عليها، ومعاكسات وسماع كلمات تكون في بعض الاحيان مخدشة للحياء. التشرد يرسم ملامح الوحدة والجوع وصفعة الشمس وبرد الشتاء لكن كل هذا لم ينل من جمال عينيها الطاغي على وجهها المنقب بمنديلها الاسود.

رايتها ذات صباح تبكي بحرقة وجزء كبير من ثوبها تغطيه الاتربة، وهي تمتم بكلمات لم اكن اعلم ماهي لكنها كانت واضحة من حركة شفتيها، وهي تتراجع بخطى ثقيلة الى الخلف، وتنظر صوب الحديقة التي تقع على يسار التقاطع. بدت وكأنها كانت تتحدث الى الشجرة..

دفعني الفضول الى رؤية ما يحصل ونظرت بسرعة صوب الحديقة ، كان هناك رجلا عجوزا واقفا يبدو من شكله معتوه ذو وجه مربع، بنظرات قاسيه تنظر اليها بحنق وغضب، يلوح لها بيده بالعودة سريعا الى مكانها. كان متسمرا في مكانه وكأن شيئا يمنعه من التقدم نحوها وقد تجمعت حوله فتيات بنفس عمرها وأصغر سنا منها يطأطئون رؤوسهن , خوفا من موجة الغضب التي اجتاحت وارتسمت على قسمات وجهه. مررت بالقرب منها كان صدرها اليافع يرتفع وينخفض سريعا، وعيناها الجميلتان يخنقهما الدمع، لم ينتصر البؤس على حسنهما.

تساءلت : من ذلك العجوز الذي يختبئ بالنهار ويظهر في الليل ؟ وكأنه شبحا اسودا ولم هن خائفات منه ! كيف يمكنني ان أساعدها واحررها من حياة التشرد هذه !؟.

هناك شيء لأعلمه يشدني اليها، لذا قررت أن العب معها لعبة الأقدار، التي لم العبها مع أحد سواها وأنهي تلك العبودية التي تعيشها. اقتربت منها بسيارتي واقتربت هي ايضا، دنت نحوي بوجهها الجميل واقتربت من نافذتي، ابتسمت لها ووضعت في كفها ورقة نقدية من فئة الألف دينار. حدثتها وضربات قلبي تتسارع خوما من أن يشعر بنا ذلك العجوز: ما رأيك لو أخذتك معي بعيدا واخلصك من هذه الحياة المذلة وتكوني حرة الى الأبد.

أطرقت صامته، أعدت عليها السؤال مرة ثانية

ردت علي: بخوف وتردد أين ستأخذني سيقتلني العجوز لو علم بذلك !!

لا تقلقي ولا تخافي وأنت معي المهم أن تأخذي الخطوة الأولى، وهي أصعب خطوة بعدها سيفتح الطريق أمامك، فالأنسان لا يمنح الا حياة واحدة. وانطلقت بسيارتي بعد ان حدثتها، اختلف شئ بداخلي فلقد أصبحت في خصام دائم مع النوم وأفكر بها كثيرا. الأفكار التي تحدث أثناء الأرق ما هي إلا ظاهرة عند الأشخاص الذين يفكرون ويحسون بقوة. لن أكذب احساسي وسأعطل إشارات المرور وتسود الفوضى المكان واخطفها كأميرة على حصان ابيض.

اصطحبتها بسيارتي مسرعا بعد ان اتفقنا على ان ألتقيها في اليوم التالي في نفس المكان، وكنت قد اعددت لها مكانا في احدى دور الدولة فقد ذهبت الى تلك الدار وحدثت مديرها،عن هذه الطفلة التي تبدو أكبر من عمرها ووافق الرجل على احتضانها في الدار شرط ان تكون في حيازتها وثائق رسمية تثبت اسمها وتاريخ ميلادها..

مر كل شيء بسلام وهدوء وشعرت بأني قد أديت مهمة عظيمة تليق بإنسانيتي، كانت تجلس في الكرسي الخلفي للسيارة وتضم جسدها النحيل بيديها بقوة وعيناها تغطي المرايا، راسمه افق جميل يسحر كل من يطيل النظر إليه.

ابتسمت وقلت: لها لا تخافي ستكونين بأمان لقد رتبت لك كل شيء. انطلقت بها مثل حلم جميل تلاشت فيه فوضى الشارع وصوت محرك السيارة. أخبرتها : سأشتري لك وجبة غداء، بعدها سآخذك الى الدار هناك ستجدين الرعاية، وتشعرين بالأمان كالفتيات الأخريات اللواتي في مثل سنك ولهن ظروف تشبه ظروفك وربما أكثر بؤسا. حدثيني عن ذلك العجوز وما يحدث معكم حدثيني بسرعة. أجابتني وبصوت واثق دون خوف قائلة : سأخبرك بكل شيء، اعتدلت في جلستي وكأني اسمع اول مرة ذلك الصوت الخائف المرتجف يحطم القيود، ويزيح النقاب عن الام مكتومه جاثمه على صدرها الصغير , ابتلعت ريقها ونظرت الي : ذلك العجوز يعود بنا كل مساء بعد أن يأخذ منا جميع ما نحصل عليه من نقود، تذهب معظمها للخمر الذي يحتسيه، ثم يجمعنا و نبيت في منطقة تسمى " البتاوين " في دار قديم متهالك تصدعت جدرانه ونالت منها الرطوبة ورائحة العفونة الكثير. اغلب ساكني هذه المنطقة من المعدمين ماديا والسكارى وخريجي السجون، نحن نعيش هناك كالخفافيش، وفي الصباح نتوزع في الشوارع والتقاطعات واشارات المرور. ثم اطرقت صامته بعد ان انتهت من الحديث. التفت اليها وقلت لها لا تخجلي من حياة فرضت عليك: لن تبيتي هناك بعد اليوم بل ستكونين اول من ترى النور أعدك بذلك.

ترجلت من السيارة بعد أن اوقفتها داخل شارع فرعي فيه بيوت واسعة ويسوده الهدوء، قاصدا أحد المطاعم القريبة هناك. قلت لها لن أتأخر عليك سأجلب لك الطعام، ابقي جالسة في مكانك لحين عودتي. ابتسمت بثغر ضيق متأوه ويبدو انها كانت متعبة وجائعة ردت : حسنا سأنتظرك، أسرعت بخطواتي والامنيات مشرعة امامي بلا حدود وعدت متلهفا حاملا معي وجبة طعام ساخنة، تقدمت واقتربت وقبل ان أصل السيارة بخطوات، وجدت أن أحد ابوابها مشرعة ! أسرعت بخطواتي كي أرى ما الذي حصل فجعني ما رأيت ! كانت السيارة فارغة ولا إثر للفتاة؟ جلت بناظري حول المكان اتفقده، ركضت يمينا ويسارا وكدت أفقد عقلي، والحيرة والدهشة تكبلني سألت أين ذهبت؟ رحت اركل السيارة بقوة فقد هوت كل احلامي امامي جلست في سيارتي وأنا اعتصر راسي بقوة كي أفكر بهدوء، والحيرة تلفني من كل مكان، وقع نظري على المكان الذي تركت فيه محفظة نقودي ! كان خاليا ولا أثر لها لأنها اختفت هي الأخرى.

***

نضال البدري - بغداد / العراق

في نصوص اليوم