تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

نصوص أدبية

تماضر كريم: لماذا أنت غامضٌ إلى هذا الحد؟

قبل ليلة واحدة فقط إتفقنا أن نلتقي مصادفة، في سوق الغزل. حيث يبيعون القطط والكلاب والطيور وبعض أنواع القرود والثعابين. قال لي: (أطياف..عندما تريني واقفا قرب برج الحمام الكبير ذي اللون الأخضر في السوق، تظاهري بأنك متفاجئة، وأنا سأفتح فمي من الدهشة، وأقول لك يالها من مصادفةٍ مذهلة! ثم سيجري كل شيء على طبيعته).

وافقتُ على فكرته بلا تردد، وأمام المرآة تدربتُ على دوري قليلاً قبل أن أخرج من المنزل. كنتُ مصمّمةً على فهم كلّ شيء عندما ألتقيه. هذه المرة يجب أن يكون صريحاً ويكفُّ عن العبث.

‏قميص أزرق فاتح، وبنطلون جينز، وقبعة رمادية تغطي رأسه وجزء من جبينه، كان هو هناك، ملتفتاً ناحية طيور الحمام، يدقّ بأصابعه على القفص، ويهمس بكلمات ما.

‏- اوووه .. كمال! يا للمصادفة العجيبة!

‏- آه ..عزيزتي أطياف! كيف حالكِ؟ إنها بالفعل مصادفةً مذهلة! تعالي شاهدي ذكر الحمام هذا ..يبدو غاضباً، لكنه جميل.

‏- إنه جميل حقا..لكنه قد يكون أنثى!

‏بدا كأنه يفكر، هو دائما يشرد للبعيد، وتبدو عيناه ساهمتان. خطر لي أن أهزًه من كتفيه، وأقول له أنني هنا..قريبة منه وهو يحدقُ في طيور الحمام. لكنه سار فجاة ناحيةَ قفصٍ وُضِع بحرص في زاوية دكانٍ نصف معتم، ومنخفض قليلاً عن الأرض. ثمة أفعي، ربما بطول متر ملتفةً بهدوء داخل ذاك القفص.

‏إبتعدتُ مسافةً كافية لأشعر بالأمان، فيما أقترب هو كثيرا من القفص، مُدخلاً أصابعه من الفراغات إلى الداخل. ربما هو الآن يفكر بلسانها المشطور وهي تخرجه بسأم.

‏- إنها على وشك الموت.

‏- وكيف تعرف؟

‏- أظنهم نزعوا أنيابها تماما. مسكينة..

لوهلة ظننتُ إنه على وشك البكاء، لولا أنه نظر إليّ فجأة وابتسامة كبيرة على وجهه، مشيراً إلى جهةٍ ما:

‏- يا للعجب! إنه قردٌ سكران!

‏لحقتُ به إلى حيث تم وضع قردٍ صغير.

‏- إنه كسول فقط.

‏- لقد تم إعطاؤة جرعة خمر.

‏- لا يمكن أبدا.

‏- بل حدث. إنه يترنح، وهو منتشٍ تماما. هل حدث وأن شربتِ الخمر؟

‏- لا.

‏- الخمر يجعلنا أكثر لطفاً واستسلاما للعالم.

‏- كيف يبدو طعمه؟

‏- حلو ومر، لاذعٌ وبارد، لذيذ ومؤلم.

‏- هذا فقط؟

‏كنتُ أتحدثُ إليه ونحن خارجان من السوق، أخبرته أني لن أجربه أبداً.

‏لم يبدُ عليه أنه مهتم. كان واجماً.

‏- بماذا تفكر؟

‏- بكِ.

‏- لا يبدو أنك تفكر بي!

‏- وكيف تعرفين؟

‏- نحن ببساطة لا نفكر بأشخاص يسيرون إلى جانبنا..يفترض أن ننشغل بهم عن التفكير.

‏- حقا؟!

‏- نعم...هكذا تجري الأمور.

‏- لكنني كنت أفكر في أنك تكرهين الحيوانات..

‏- آه! هل لاحظت ذلك؟ نعم اكرهها حتى تلك الأليفة منها.

‏- رأيتُ القرف واضحا في نظرتك لها.

‏- هل كان واضحا إلى هذا الحد؟

‏- نعم عزيزتي نعم.

‏- يبدو أني لم أعرف كيف أخبأ مشاعري.

‏- ولماذا قد تفعلين؟

- ولماذا أنت أتيت بنا إلى هنا؟

- ‏أنا سألتُ أولاً!

- ‏حسنا لقد أخفيتُ كراهيتي للحيوانات من أجلك. لأني أردتُ أن أكون معك، وأردتُ فهمك أكثر!

- ‏هل فهمتِني الآن؟

- ‏في الحقيقة لا....تبدو مثل شخصٍ لا أعرفه!

- ‏هل هذا بسبب أنني أحب الحيوانات؟

- ‏بل لأنك لا تستطيع أن تحبّ أحداً

- ‏أطياف! أنت لا تفهمين!

- ‏أنا دائما لا أفهم! هذا الصمت المتكرر، والأفكار الغريبة، والأماكن التي نتسكع فيها، أسواق الحيوانات والبضائع المستعملة، والمكتبات المكتضة في الزوايا المنسية، ودور المسنين، والمشافي والسجون! ثم ماذا؟ لكن الا تكتفي؟

- ‏لكنكِ كنت تأتين، تأتين دائماً، بلا سؤال!

- ‏نعم ..لأني أحبك ..أحبك جدا..أريد أن أكون قريبةً فقط ..لكني أريد أن أفهم.

- ‏نحن نحبُّ الكثير من اللوحات والأشعار دون أن نملك فكرة كاملة عنها! الحب والفهم شيئان مختلفان.

- ‏هراء ... لايمكن لقلبي أن يهدأ للأبد مقتنعا بفكرة أنك تبدو منيعا وغريباً. لستُ مغفلةً أرجوك.

- ‏........

- ‏لماذا لا تتكلم؟

- ‏لكن ألم تفكري من قبل أني أبحث عن جدوى لكلّ ما صدقناه دون سؤال؟

- ‏تستطيع أن تسأل ببساطة وتصرخ وتضحك وتتحدث معي كثيرا، تستطيع فعل كلّ هذا وأنت تبحث، ليس الأمر صعبا!

- ‏لا يمكنني أن أكون سوى ما أنا عليه.

- ‏مهلاً ! انت تظن أني بلا هم؟! بلا أسئلةٍ تدور بذهني؟ بلا معاناة! تباً! كل ما هناك أني لست نرجسيةً مثلك.

- ‏هل تريني نرجسياً؟

- ‏وأناني أيضا. أنت بحجة الألم تؤلِم ..بذريعة الوحدة تقذف بي خارج عالمك !

- ‏أرجوك أطياف كفى!

ثمة باعة يلعلعون بأصواتهم على جانبي الشارع المزدحم، وهواء مثقل بالأتربة والدخان. كدتُ أختنق. للحظات شعرت أنني بلهاء ضائعة.

‏سيكون من العار أن أسأله عن طريق العودة إلى المنزل.

‏جذبني بقوة من يدي، شعرت بألم أصابعه على ذراعي، وأنا أشاهد كيف مرقت السيارة من جانبي.

‏- انتبهي أطياف! كدتِ تتأذين!

‏ياإلهي! كانت عيناه مرتاعتين! بدا بسيطا كما تمنيتُه دائما، بسيطاً وقريباً من القلب.

***

قصة قصيرة

تماضر كريم - العراق

في نصوص اليوم