نصوص أدبية

نضال البدري: القطّ العجوز

لم يعد شاربه المصبوغ باللون الأسود، وجفنه المتهدل، وأسنانه التي بدأ يفقدها الواحدة تلو الأخرى، تُخفي تقدّمه في السنّ بعد أن شارف على الستين وحيداً أعزبَ يقارع الوحدة، لا رفيق له ولا أنيس سوى بعض الصور المثيرة لنجمات السينما التي ملأت جدران غرفته المتهالكة القابعة فوق سطح أحد الأبنية العشوائية القديمة، التي كان يشغلها مقابل مبلغ زهيد من المال، يحصل عليه من عمله نادلاً في مقهى (الجماهير)، وهو مقهى قديم تصطف فيه أرائك خشبية وعدد من كراسي الخيزران، أغلب مَن يرتاده المتقاعدون وكبار السنّ وممن تتكرر وجوههم يومياً، وقد أبقى عليه صاحب المقهى لمعرفته القديمة بهم.

اعتاد بعد الغروب بين الحين والآخر، أن يسترق النظر خلسة -من خلال جرح في زجاج نافذة غرفته المطلة على حمّام إحدى الشقق المجاورة- إلى امرأة شابة تستحمّ مساء كل يوم تقريباً، كان يطيل النظر إليها، محاولاً اقتناص مفاتن جسدها الممتلئ وصدرها النافر، عابثاً بشاربه متلمساً شعر صدره الذي اكتسحه الشيب، ليسدّ الحرمان والجوع الجنسي الذي يشعر به. كانت تلك النافذة متنفسه الوحيد الذي يطلّ من خلاله على عالم أشبه بالخيال، يأخذه بعيداً عن واقع الحياة التي أرهقته، فقد بدأ التعب ينال منه كثيراً، والسنين بدأت تنساب من بين يديه سريعاً، وغدت أيامه مُملة يشبه بعضها بعضاً. لكن في يوم من الأيام مصادفة -وهو يقوم بخدمة رجلين- تناهى إلى سمعه سيرة الحاج مهدي الحرج وكيف بات طريح الفراش منذ أسبوع إثر تعرضه إلى نوبة قلبية شديدة، قائلين إنه -والعلم عند الله- لن يخرج منها سالماً، وبخاصة لمن في مثل سنّه بعد أن أدرك الثمانين من عمره، ثم أكملا ما تبقى من حديثهما، فقال أحدهما: ماذا لو توفاه الله، سيترك حتماً ثروة كبيرة لأبنائه لا تعدّ ولا تُحصى.

مساء... ظلّ حديثهما عالقاً في ذهنه، وظلّ صامتاً يفكر، ثم استلّ سيجارة تليها أخرى محدثاً نفسه: ما أعرفه ومتأكد منه أن للحاج مهدي ثلاثة أبناء من الذكور وبنت واحدة عانس لم تتزوج بعد، والذي أعلمه أنها تعاني من تخلّف عقلي بسيط، آه مسكينة تلك الفتاة. أخذ نفساً عميقاً، ثم دقّ عنق آخر سيجارة لديه خالداً إلى النوم.

زاحمته الأفكار صباحاً وهو في طريقة المعتاد إلى المقهى، بدأت تتوهج في رأسه فكرة رسمت ابتسامة رضى كانت واضحة على وجهه، تلك الأفكار التي تواردت إلى ذهنه جعلت خطواته طويلة وأكثر ثباتاً وكأنه شاب في العشرين من عمره، رفع صدره إلى الأمام، وأخذ يحدث نفسه: لن أفوّت الفرصة، لمَ لا أتزوج بتلك المخبولة بدلاً من العيش كقطّ عجوز فوق سطح ذلك البناء؟ يقال إن المجانين عادة لا يعمرون طويلاً، والفرصة لا تأتي مرتين، وستنتفخ جيوبي حين يتوفى والدها، ويصبح كل شيء تحت تصرفي، فمن المؤكد أن تصبح الزوجة غير المؤهلة تحت وصاية زوجها وألا يتدخل أحد في حياتها. قرّر أن يخطو خطوته الأولى، ويطلبها للزواج بأسرع وقت ممكن. (الأيام تتحايل علينا، وتجلب لنا ما لا نتوقعه).

 بعد عدّة أيام هيّأ نفسه جيداً لزيارة أسرة الحاج مهدي بذريعة السؤال عن والدهم والاطمئنان على صحته، دخل يخطو خطواته الأولى داخل سور ذلك البيت الكبير. المنزل كان فخماً جداً، ويضمّ داخله حديقة كبيرة تسوّرها أشجار عامرة من النارنج والبرتقال والرمان، باستثناء شجرة سدر عجوز تتوسط إحدى زواياها، عُقدت بين أغصانها المتدلية أكياس بلاستيكية ملونة، كانت تبدو كشجرة مقدّسة أثقلتها شرائط الأمنيات والنذور، لفتت نظره حين رآها. أبدى حزنه الكبير على والدهم، وأخذ يستعرض نبل أخلاقه ومعرفته القديمة به، واستأذنهم بأن يكرّر زيارته لهم لإعجابه الكبير بهم وللاطمئنان على صحة والدهم. لم يمضِ سوى أسبوع حتى عاود الزيارة، لكن بهيئة مختلفة تماماً، فقد صبغ شعره باللون الأسود، وارتدى بدلة قديمة تعافت قليلاً واعتدلت بفضل كيها بالبخار.

استقبله إخوتها بمهابة مضحكة بعد أن علموا أنه قصدهم ليطلب يد أختهم للزواج، وقبل أن يعرفوا مدى جديته، نال مظهره ومسكنته الواضحة رضاهم. تمت الموافقة على طلبه بسرعة كبيرة لم يكن يتوقعها، شعر بأنه أصاب هدفه وما يصبو إليه دون أيّ عراقيل ودون أن يُطلب منه مهر أو غيره. غادر غرفته تاركاً إياها إلى الأبد، وتم الزواج من دون طبول أو مزامير، ومن دون أن يرفع برقع عروسه كما تجري العادة في حفلات الزواج، وتم الانتقال للعيش في منزل الحاج مهدي. كان جسد العروس ضخماً وأثداؤها متدلية أمامها وشعرها مزيّناً بمشابك ملونة، بدت كإلهة تنتصب أمام قامته القصيرة، تقف دون حراك، ودون مشاعر، ودون أن تعلم حتى من هذا الدخيل الجديد الذي اخترق وحدتها وشاركها غرفتها. توجّس الحذر منها في بادئ الأمر، شعر وكأنه قد زُجّ به داخل حلبة نزال مع وحش كاسر بالغريزة سيفترس أيّ كائن يجده أمامه، لكن يبدو أن خوفه لم يكن في محله!! بل على العكس، فقد كان جسدها الضخم يحمل عقل طفلة صغيرة، وكل ما قامت به هو قضم أظافرها والنظر إليه، حتى إن سيرها كان متثاقلاً بسبب وزنها الزائد، وقف بعيداً عنها ينظر إليها وهي تمشط شعرها وتشبكه وتشكّل منه تسريحات غريبة. أخذ يعدّ الدقائق –فقد أحسّها طويلة- لتمرّ الليلة الأولى له معها بسلام. اندسّت بجانبه كقطة وديعة بفطرتها الأنثوية، أثار تصرّفها استغرابه، وتعاطف معها متحمّلاً رائحة فمها الكريهة على مضض خوفاً من أن يشعر إخوتها بذلك.

تغيّر ملبسه ومظهره، وكان الترف واضحاً عليه، وقد ترك عمله في المقهى. حسده كل من يعرفه دون أن يعلموا ما يدور داخل غرفة نومه ليلاً مع تلك المخبولة التي تقضي نهارها تحت ظلّ تلك الشجرة العجوز. لم يطل بقاء الحاج مهدي على قيد الحياة، وتوفى إلى رحمة الله بعد الأسبوع الأول من انتقاله للعيش معهم. كان مجلس العزاء كبيراً جداً، نصبت له سرادق على مدّ البصر، وكان له حضور مهيب وهو يأخذ العزاء كأنه واحد من أسرة الحاج مهدي، انشرح صدره وسط تلك المهابة. لم يتبقَ سوى أيام معدودات حتى يأخذ زوجته وما تحمله معها من إرث أبيها، محدثاً نفسه: مرّ ثلاثة شهور، ولم يفتح أحد موضوع الإرث، وكيف سيأخذ كل ذي حقّ حقّه، فقرّر وبعد تفكير طويل ونفاد صبره من هذا الزواج أن يطالب بحصة زوجته من الإرث. طلب من إخوتها أن يجتمعوا كي يتحدث إليهم في موضوع مهم، اجتمعوا بناءً على طلبه، وكان أسلوبه معهم مختلفاً تماماً، بدا معتداً بنفسه كثيراً يتحدّث بلهجة آمرة خالية من التملق، قائلاً: مرّ ثلاثة شهور على وفاة عمّي الحاج ولم يتحدّث أي منكم عن الإرث، أودّ أن آخذ نصيب زوجتي، لا أودّ العيش عالة على أحد. عمّ الصمت المكان، ثم تحدّث أكبر إخوتها سناً قائلاً: عزيزي لم يترك والدي شيئاً باسمها قبل أن يتوفى بعدّة شهور، فقد كتب كل ما يملك باسمنا، فأختنا لا إرث لها، فهي فاقدة للأهلية كونها تعاني تخلفاً عقلياً، ونحن من يقوم برعايتها وتلبية احتياجاتها، وأظنّ أنك أيضاً لست بحاجة إلى شيء، فنحن نعاملك كأنك واحد منّا. ضرب الصمت عليه بأطنابه، وشبك أصابعه بقوة، قائلاً لهم بحنق وبالكاد استطاع أن يُمسك أعصابه: لا فرق بيني وبينكم، ثم نهض تاركاً إياهم، وسار بخطى ثقيلة صوب غرفته، دخلها وأغلق بابها بإحكام، ثم أشعل سيجارة ويده ترتجف، وأشعل ثانية وثالثة، وراح يدخّن بنهم وهو يسبّ ويلعن، وراحت كلماته البذيئة تتطاير وتتصادم في جوّ الغرفة المشحون بالدخان.

***

نضال البدري

عضو اتحاد الادباء في العراق

في نصوص اليوم