تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

نصوص أدبية

أنمار رحمة الله: راجدي

قبل ثلاثين سنة كُسر أنفي في عركة. سال الدم منه بغزارة على صدري. فصُبغت دشداشتي البيضاء الجديدة بلون أحمر في أول أيام العيد. صراحة لم يهمني كثيراً الدم وأنفي الذي تورّم. بل الشيء الوحيد الذي آلمني ودفعني للانتقام هو "أبو صماخ"**. الصبي الذي باغتني بنطحة على وجهي في ذلك اليوم. ولم نكن مخطئين حين أطلقنا عليه لقب "أبو صماخ" لحجم رأسه الكبير وجبهته الصلبة. تلك الجبهة التي درّبها على نطح الخرفان والتيوس، حين كان يستعرض هذا أمامنا في حضيرة المواشي التي كانت ملكاً لأبيه القصّاب. ثم لاحقاً صار يستعرض قوة نطحاته على الأبواب وسيقان الأشجار. حيث كان يفتح الباب بنطحة واحدة. ونطحة أخرى كافية على ساق شجرة حيث كنا نلتف حوله، منتظرين ثمرها الذي يتساقط من قوة النطحة. بعد أن ضربني بجبهته في العركة اعتراني شعورُ غضبٍ هائل دفعني بشدة للانتقام. خصوصاً أن "أبو صماخ" لم يضرب أحداً من البشر في حياته سواي. كل ما في الآمر أن بعض الصبية شجعوه على ترك المناطحة مع الحيوانات والأبواب وأعمدة المرور والأشجار. وأن يجرب "صماخه" (رأسه) في نطح أحدهم. واختارني القدر لهذه العركة في واحدة من مئات العركات التي تحدث عادة بين الصبية في صباحات الأعياد. مازلت أذكر كيف هرول هارباً إلى منزله خوفاً بعد أن نطحني على أنفي. وكيف أخذت وقتاً لم يتعد عشر ثوان لكي أستجمع قوتي وتركيزي. لقد كنتُ مدهوشاً لأنني لم أتوقع أن يباغتني ويضربني!!. ثم أن الشيء المضحك أنني أيضاً لم أجرب العراك في حياتي. وقد كنتُ أملك ذراعين وكفين فيهما من القوة الكافية لتحطيم جدار. لأنني قد درّبتهما سابقاً على حمل الطابوق ورميه صوب أبي. أيامها حين كان يعمل بنّاءً. اضافة لحمل أكياس الإسمنت والرمل وخبطهما بالمسحاة. ولكن ما الفائدة في قوة كفّي وذراعي؟!!. خصوصاً في الواقعةُ بيني وبين "أبو صماخ" التي كانت أول عركة في حياتي، وقد فشلت فيها فشلاً جسيماً، حيث سبقني صاحب الرأس الكبير وخطف مني حلاوة الفوز بتلك العركة. في الحقيقة لم يكن في حساباتي أن أتعارك مع أحدهم في يوم. أكره العراك ولا أميل له مطلقاً. ولولا تشجيع الصبية وتحريضهم لم أدخل في تلك العركة البائسة، ولم تستمر هذه العداوة بيني وبينه لمدة ثلاثين سنة.. على أية حال.. بعد فراره من قبضتي عقب العركة، قررتُ أن أمكث له وأطارده إن عثرت عليه. في شارع أو سوق أو أي مكان لا يهم. المهم أن أمسك به واضربه بكفي "راجدي"، سيظل طنينه يَصرُّ في أذنه حتى آخر يوم في عمره. ومنذ ذلك اليوم لم أهمل تدريب ذراعي لهذا "الراجدي" المؤجل. أي شيء أراه أمامي من غصن شجرة أو مقبض باب أو حجر، أعصره عصرة قوية لكي أقوّي أعصاب كفي. وأكون مستعداً لهذه المهمة التي لم يشغلني شيء غيرها في ذلك الوقت. وصرتُ أراقب مواعيد خروجه من دارهم. مختبئاً خلف جدار منزل في شارعهم تارة، وتارة أخرى خلف شجرة أو سياج المدرسة. ولم أفلح حقيقة في رصده لمدة من الزمن. ربما لأنني اوصلت رسالة تهديد له عبر الصبية أبناء المحلّة فصار يأخذ حذره من مواجهتي. حين قلت لهم أن يخبروه أنني سأصطاده في يوم، وسأضربه بكفّي القوية التي صرتُ أتباهي بها أمام الصبية. ففي الوقت الذي لم أفلح فيه في العثور على "أبو صماخ". كنتُ أمارس هوايتي في تحطيم الطابوق بباطن كفي، وذلك بضربة واحدة أهوي بها صوب الطابوقة. تماماً كما يفعل لاعبو الكاراتيه في استعراضاتهم. وسط صيحات اعجاب الصبية التي ادخلت السرور إلى نفسي وأنستني ثأري. وبالفعل تناسيتُ عامداً أو غير عامد عركتي المنتظرة، وتركت "الراجدي" الذي كنتُ أريد طبعه على خدِّ غريمي للمصادفة بيني وبينه. أين يفلتُ منّي فالدنيا صغيرة ومحلّتنا صغيرة وسأعثر عليه بلا شك. حتى جاء اليوم الذي صادف أن لمحته من بعيد وهو ينوي ركوب باص. وحين رآني حثَّ الخطى صوب الباص مهرولاً. لكنني على الرغم من رغبة الانتقام التي كانت تعتريني لم أهرول وراءه. بل سرتُ على مهل منتظراً أن يفلت مني ويركب تلك السيارة!!. وتكررت المصادفات التي جمعتني به ولم أفعل شيئاً. مرة عند السوق رأيته ورآني، فهرول مسرعاً لكي يدخل في حشد الناس الكثيف. ومرة أخرى تصادفنا عند حلّاق كان يجلس على كرسيه وأنا جالس خلفه داخل المحل. كان ينظر لي عبر المرآة بعينين مملوءتين بالذعر، وأنا أردّ عليه التحديق بعينين مملوءتين بالشزر والغيظ. وحين انتبهتُ إلى قرب انتهاء الحلاق من حلاقة رأسه الكبير، لم أنهض لكي أنتظره خارج المحل وأضربه ذلك "الراجدي" المنتظر. بل نهضتُ وذهبت إلى مغسلة متظاهراً أنني أغسل وجهي. منتظراً منه الإفلات من قبضتي التي تعرّقت من شدة العصر والتوتر. وبالفعل حين عدتُ إلى الكرسي الذي كنت جالساً عليه، كان قد غادر صالون الحلاق فتنهدت مُرتاحاً!!. وهكذا مرت السنوات، وأبو صماخ كلما رآني في مكان ما يفلت مني بإرادتي، فاسحاً له المجال لكي يولي هارباً. ولم أكن أتوقع أن لعبة القط والفأر هذه ستؤدي بنا إلى ما وصلنا إليه الآن. لقد كبرنا ولم أنس غضبي ولم ينس هو خوفه!!. لو كنتُ قد سامحته في الصبا، وتجرّعت مرارة النطحة تلك، لما وقعت هذه المصيبة التي حلّت علينا الآن. على الأقل لو كنتُ قد أخذت حقّي منه بصفعة واحدة، كان قد أنتهى كل شيء بيني وبينه، وصرنا متعادلين لأنسى ثأري وينسى هو الآخر خوفه. لأن الكارثة التي سقطت علينا بعد مرور سنوات لم تكن هيّنة. حدث ماحدث بعد أن رسا قارب عمري في رحلته عند شاطئ العمل الوظيفي. حين صرت أعمل مُعتمداً في دائرة، وكان عملي يتطلب سفري المستمر من أجل المراسلات الرسمية. في إحدى سفراتي الوظيفية، والتي كنتُ أحمل فيها حقيبة مليئة بأوراق لقضاء حوائج الناس المراجعين لدائرتي. ركبت في سيارة أجرة مع بضعة أنفار من المسافرين. ولم أكن أرغب إلا في الجلوس وراء كرسي السائق، بسبب نصيحة قالها ذات يوم صديق. أن الحوادث في السير ينجو منها السائق عادة ومن يجلس خلفه. ولم أعرف أن السائق الذي كان يقود السيارة هو نفسه أبو صماخ!!. كنتُ منكباً على مراجعة الأوراق الرسمية تارة، وتارة أخرى أطالع هاتفي خشية أن يتصل أحدهم. ولكن حين اهتزت السيارة بعد أن رفعتُ ذراعي لكي أحكّ رأسي، انتبهت إلى أن السائق ينظر ناحيتي عبر المرآة المعلقة وسط السيارة. والتي كان من خلالها يصوّب النظرات نحوي. وعندما طالعت عينيه المعكوسة صورتهما في المرآة، عرفتُ فوراً أن سائق هذه السيارة هو نفسه أبو صماخ. ولوهلة توقعتُ أن سبب اهتزاز السيارة كان بسبب أنه كان يطالعني ولم ينتبه إلى دربه. هنا أنزلتُ حقيبتي وحشرتُ جهاز الهاتف في جيب سترتي. وعدتُ إلى لعبتي القديمة. سأتسلى في طريق السفر وأنا أقذف الرعب في قلب "أبو صماخ". وصرتُ بين الفينة والأخرى أرفع ذراعي لكي أحكّ رأسي عامداً. فيظنُّ أنني أنوي ضربه، فتهتز السيارة يميناً وشمالاً بعد أن يفقد السيطرة عليها. ولما يستقر على الدرب يعاود النظر إليّ عبر المرآة، والعرق والذعر يملآن وجهه وقلبه. لم أكن أعلم أن كفّي التي أدّخرت له ذلك "الراجدي" المؤجل، هي ذاتها التي ستكون سبباً للمصيبة التي وقعت علينا. فبعد نظرات ونظرات بيني وبينه عبر مرآة السيارة. تلك النظرات ذاتها التي كنّا نتبادلها منذ ثلاثين سنة وحتى تلك اللحظة. نظراتي المليئة بالثأر والغضب، ونظراته المليئة بالريبة والحذر. ظهر أمامنا حيوان كان ينوي عبور الطريق على رسله، وإذا بي أمدّ ذراعي نحوه وأصرخ منبهاً إياه أن ينظر إلى الطريق (أبو صماخ احذر..). لكنه لم ينتبه للطريق وظنّ أنني أحاول خداعه، لكي أصفعه وأنال ثأري منه أمام الناس. ثم فقدتُ الوعي ولم أفتح عينيّ إلا وإنا في المستشفى. راقداً على سرير وكان أبو صماخ ينام على سرير قربي. لستُ أدري ماذا حلّ بباقي الرّكاب المساكين الذين كانوا معنا في السيارة. لكنني أعلم ماذا حلّ بنا أنا وأبو صماخ. على الرغم من الألم الشديد الذي كنتُ أشعر به، لم يمنعني هذا من الضحك على حالي وحاله، حينما عرفت لاحقاً أن بدني كله سليم. ماعدا ذراعيّ وكفيّ اللواتي تهشمن في الحادث، حين كنتُ لا شعورياً أذود بهن عن وجهي وبدني. ولم يكن ظاهراً من ذراعيّ شيء بسبب جبيرتيهما. ولم أستطع حتى تحريكهما لأن الحركة كانت جدّ مؤلمة. أما أبو صماخ المسكين كان بدنه كله سليماً ماعدا رأسه المرضوخ. والذي كان ملفوفاً أيضاً بجبيرة كبيرة لم تظهر منها سوى عينيه. وكنّا نتبادل ذات النظرات القديمة بيننا، ونحن راقدين على سريرينا في ردهة المستشفى.. 

***

أنمار رحمة الله

 ...................

* راجدي أو راشدي: باللهجة العراقية تعني (صفعة). **أبو صماخ: باللهجة العراقية تعني (صاحب الرأس الكبير). 

 

في نصوص اليوم