نصوص أدبية

محمد الورداشي: حِدادُ الصباحِ

يأتي الصباحُ الباكرُ مُحمّلا بأشياء كثيرة؛ فإلى جانب روائحه العطرة ونسيمه البارد الرقيق، توجد المفاجأةُ والدهشةُ. يرن الهاتف صاخبا، وأنا غارقٌ في نومي الطويل؛ أسعى إلى نفض التعب الذي تكدس فوق جسدي أياما طويلة، وأروم حملَ الثقلِ الذي يجثم على روحي الخفيفة، ومع رنينه تنبلج المخاوف والوساوس في خلدي، وتذهب بي الظنونُ أشواطا بعيدةً في عالم الحلم والخيال، عالم المشاعر المقدسة التي تؤثث روحي، وتزرع الرهبةَ في قلبي الفسيح. تتساءل عيناي الجاحظتان عن السر الخفي وراء هذا الاتصال، فأحمل هاتفي بيديّ المرتعشتين كأنهما اقترفتا جرما كبيرا، فأضغط على الزر بخفة، لأسمع صوتا مضطربا مسرعا:

- ولدي! الدائم الله تعالى.

تنقطع الكلمات، ولا تصلني إلا أصواتٌ مشوشةٌ، فأبادرُ بالسؤال، وفي القلب لوعةٌ تتقد، وفي العين دمعةٌ ساخنةٌ متلألئةٌ تنزلق من بين الجفنين:

- لم أسمع جيدا، من المتوفى؟

- خويا، عمك أحمد توفي هذا الصباح.

انقبضت نفسي واسودت الرؤية في عيني الدامعتين، حاولت أن أداري حزني الذي ملأ نفسي حزنا وألما، فقلت كلماتٍ تعودناها في مثل هذه المناسبات:

- إنا لله وإنا إليه راجعون، الدوام لله، والرحمة والمغفرة للعم.

انقطع خط الاتصال بعدما ترددت كلمة "آمين.. آمين" مرات متتالية، فأخذت نفسي تسرح في الطريق البعيد، وروحي تحلق على بساط الريح نحو المجهول، إلى حيث حلقت روح عمي، إلى الذكريات البعيدة التي ظلت محفورة في الوجدان، ووشما على الذاكرة المثقوبة. تذكرت أيام كنت صغيرا، تذكرت القرية والحقول الخضراء، والخضر والنخيل والأشجار التي زرعتها يدا عمي، وسقتها روحه حبا وشغفا.. أيقنت أني فقدت عزيزا يحب الأرض كثيرا، ويعشق رائحة التراب الندي، ويؤثر قضاء أغلب يومه متنقلا بين الحقول والمروج المقمحة المخضرة؛ يزرع الأرض، ويزيل الأعشاب الضارة في الصباح الباكر، وما إن تحل الساعة العاشرة صباحا حتى تكون خضر وجبة الغداء موجودة في الدار، يحضرها عمي الذي زرعها وسقاها.

مرت كل هذه الذكريات مسرعة مشوهة على ذاكرتي، وحاولت القبض على نتف متفرقة منها، بيد أن محاولاتي كلها باءت بالفشل. لكن في القلب حدثا أغر لم ولن ينسى أو يمحى من الذاكرة؛ إنه حدث اختيار اسمي.

أخبرني الأهل بعدما تجاوز سني العاشرة أن عمي هو من اقترح أن يطلقوا علي اسم "محمد". قالوا إن هذا الاسم مصدره حلم راود العم في ظهيرة يوم حار، كان نائما تحت نخلة وارفة، فحلم أن العائلة سترزق بمولود اسمه محمد، وسيكون خلفا لجده الذي توفي منذ ثلاثة أيام.

سمعت هذه القصة مرات كثيرة، فازداد حبي لعمي، وأيقنت أن اسمي سيظل ذكرى وآية على هذا الحب الصغير في قلبي، والذي أخذ ينمو يوما بعد يوم. ذهب من سماني محمدا، وذهب معه حب الأرض وثراها، والخضرة والبهجة التي كانت تملأ الحقول والمروج في أيامه المشهودة.

سيظل مكانك، أيها الرجل الشامخ، جرحا غائرا في قلبي، ولا أظن أن الأيام الآتية قادرة على تضيده، وعلى ملء فراغك بغيرك من الأناسي. كنت كبير العائلة بعد موت الجد والجدة، والوشيجة القوية التي تشد أواصرها، والمنبع الذي يسدي النصيحة، ويروي بطيبة قلبه قلوبنا العطشى حبا وتلاحما، والطود الذي يشد العائلة لئلا تميد، ويحضن نفوسنا كي لا تمور وتضطرب، ويطفئ نار الصراع التي تشب بيننا.. إنك السند المتين الذي نتكئ عليه، ونضع عليه رؤوسنا كلما أثقلها التفكير والحيرة.

إلى روحك الطاهرة الزكية الرحمة والمغفرة عمي الحبيب، وإلى قلوبنا المكلومة الصبر والسلوان، وإنا على الدرب لسائرون.

***

محمد الودراشي

 

في نصوص اليوم