نصوص أدبية

محسن الأكرمين: اللباس لا يصنع الراهب (1)

نظر إليها بتمعن العطف وبداية النهايات، وهي تكاد تمسح بلطف ما بقي من تساقط دمع عالق بين عينيها. اليوم، كان يرغب في ترتيب فراق غير مدمر للذوات، ولا لتلك الأحاسيس المرهفة بالنكسة. استرد من السماء نفسا طريا ومُحفزا، ثم ألقى بزفير مُكره للتخلص من خلايا منغصات همِّ الحياة، ولما حتى رمي الألم العالق بالتفحم. كان يتوخى تحريك تفاعل للإفلات من ذاك العالم الصلب بالتباعد المضني. ورغم فقد بات يحس مرارا أنه يأسره بين ثنايا أزمانه، وأمكنته الروتينية، وبلا انتظار آت من متغيرات قد تكون مستجدة. كانت نفسه تتوق إلى نيل قسط بالقلة من الحرية الفر دانية، ومن طوق سنوات الامتلاك. كان يرى أن حرية ذاته لسيت توازي انتصار انقطاع الروابط الاجتماعية الكلية، بل نقطة نهاية تفاقمات الخلافات.

ذاك، ما كان يظنه في عمق تفكيره وشعوره المكهرب، والذي يُزينُ له أن الهروب بالانعطاف الدائري الكلي قد يبقيه حيا، ويجنبه مجابهة صعاب تحليل المشاكل بالتفكيك، والتي حتما لن تنقضي البتة، إلا بالتوالد المفرط وبالفبركة غير المتناهية.

بدأ القلق ثانية يتسرب إلى نفسه بعد أن انتهى من لَمِّ بعض من ذكرياته المشتتة، والتي كانت صورا ومخطوطات طفولية، وحتى هي فقد باتت في حكم الماضي من المتلاشيات. في تلك الحقيبة الصغيرة من زمن السندباد البحري، كان يُسرع ولا يراعي ترتيب ما تبقى من زمن حياته ضمن تشكيل حمولتها. من قَرفِ مشاهد حياته، فقد أحس بالفطنة أنه أحرق جزء من عمره. كان يحس ولو بالكذب المموه، أنه تحرر من قبضة ذاك الماضي العتيد، والذي لازال قريبا من ذاكرته وذاته، ويُعاكسه بالتمرد والتنغيص عن بناء الذات الفاعلة بسنن التغيير.

في تلك الزاوية المهملة، انكمشت حول ذاتها، كان النور لا يُغطي مساحة فضاءات المكان. كانت تتوجس خيفة أن تبقى تُعانق الوحدة، و أسلحة الدمار اليومي للحياة. الصمت بات سيد الحكمة، وحتى تلك الحركات بالضجيج لم تعد تَسكن الغرفة بالفوضى. وفي مشهد غير مألوف عليه، توجه نحو تلك الصورة الباهتة باللونين الأبيض والأسود. نظر إلى الجدار الذي لم يعد يقتدر على حملها، شكره من قرار نفسه بالتحدي على تحمله للوجهين المتنافرين، وأدى له تحية عسكرية، تعبيرا بأنه دوما كان يُذكره بالأيام الخوالي. كانت تشهد يوم الهروب غير المسؤول، وبلا جرس منبهات سابقة، وهي تتأسف عن تقطيع الصورة إلى نصفين، والتخلي عنها وحيدة منكسرة الأيدي بذاك الجدار المخربش بأزمات الحياة المستديمة.

كان يصعب عليه تجنب تلك التي كانت تُدعى حبيبته في سالف العمر. كان يُحس بجبن القرار المفرط في ارتكاز الأنانية السلبية. وبات اللوم يلف عنقه بالانقباض والتشنج، وكأنه مُقبل على لحظة النهاية بالإعدام الرحيم. أحسَّ غير ما مرة، أنه فقد بوصلة التيارات المتناوبة والعاملة على سد فراغات هُوة الذات المتفاقمة بالتبعثر والتلاشي، و بات تفكير ه يبحث عن تلك البدائل الممكنة للبقاء حرا وبلا قيد احترازي. كان يومها يصعب عليه التخلي ولو عن ذاك الجزء الباقي من عمره بذاك المكان، والذي بات يشكل له سجنا عميقا بالاختيار. تساءل بشك وحيرة، وحتى بالاستنكار الفارغ من دلالة الأجوبة: لقد آن الأوان لكي أعرف أين أنا من هذا الهروب!! فسفينة سيدنا نوح قد تحجرت حتى هي!!

في عينيها الحمراء بدموع البكاء الجاف، كانت تُشاهد ممرات فواصل من حياتها برفقته في ملحمة الشِّدة لا الفرح. مرات كانت تمرر كرة الثلج الهاوية باللوم إليه بأنه كان فظ القلب، غليظ لسان الكلام. و في لحظات أخرى، كانت تُرسي مركب حياتها جلمود صخر، بأنها لم تستطع يوما من فهم أمانيه المتزايدة، ومساندته في آلامه المتبقية، وإتمام أحلامه المفتقدة. لفترة طويلة تسترق البصر، كانت تُلاحق تحركه القصير بتلك الغرفة الصامتة في قعر الحزن، والتي أفزعها نور النافذة المتعرية على الشارع بالكامل. كانت تتوسل إليه طويلا برمزية عيون الإحساس الداخلي، وبدون لغة. وقد كانت كل نظراتها المتأنية تحمل تعبير كل لغات العالم : أعتذر منك، وعن كل ما صدر منِّي، ومن حب ساويته بالامتلاك لروحك المرحة!!

في تراخي الضوابط الشعورية بالدفء، والإفراط في رسم نقاط التباعد، بات ما تبقى من الحياة منتهية بالحتمية الجبرية. فقد انتهت المنفعة المتبادلة، انتهى العنف المتقاسم بينهما بالدوام، انتهى الخوف من لحظة الهجر، ومن الفرار الاضطراري. لكن الآفة التي يصعب تجنبها بالتحمل حين قرر الرحيل وبلا لمسة متبادلة. نظرت إليه من الخلف وهو يغادر المكان وحياتها، كانت تبحث عن مصداقية بداية إعادة تدوير بقايا الحياة بالنسبة إليهما، لكنه أغلق الباب برفق خلفه وانصرف...

(يتبع...)

***

محسن الأكرمين

 

في نصوص اليوم