نصوص أدبية

فرات المحسن: الحرب والعودة إلى الوادي المقدس (1)

فجراً، أتلمس طريقي من خلال نور الفانوس الكابي. أتوجه نحو باب الحظيرة متسلقاً سلم الملجأ الترابي اللزج، ثم أغسل وجهي من ماء (الجلكان*) المركون جوار الباب. أملأ إبريق الشاي ثم أوقد (جولتنا*) الأنيسة، وأجلس عند دكة الملجأ بانتظار خيوط ضوء الفجر المتثائبة. أتملى الهروب الأخير لدكنة الليل.. أطياف تائهة هائمة في الفضاء تخطف أشباحها من ظلمة الليل الكثيفة. أسمع زحف الحشرات ودبيبها فوق سبخ الأرض، وأتنصت شراهتها المستيقظة بحيوية لاستقبال يوم جديد. الهواء الرطب الراكد يملأ الحناجر فيثقل التنفس، يغشاني ضباب كثيف لزج. بدأ الفجر ممتلئاً بهذيانات هائمة تتسرب من شقوق الأرض. دم جديد، نسغ ينبثق من زغب الجسد ويومض في الكون، تُنشر الأذرع والقلوب مثل الصواري تتلمس وجودها في بروق الكون الساحرة المتدفقة من فضاءات أرجوانية متوقدة، إنه استيقاظ الأطياف الأبدي..

يحضرني الآن وجه جدي المثقل بالأخاديد، المولول أبداً، الباحث عن زمن سعيد هجر مثل غانية وعاف مثل عاقّ.دائما ما كان يناديني ويهزني بكفه الثقيلة المتيبسة. فأنهض ملْء جفوني نعاس.

ـ استيقظ أيها المدلل فقد فاتنا سمك كثير. (الرفش*) لا يرحم حين يجدك نائماً. سوف يمزق شِبْاك الصيد ولن يهابك. استيقظ  وتأمل وهج الأصداف قبل أفول لحظتها.

أدس ثوبي المرقع في سروالي وأنتعل بقايا حذاء. أغمر رأسي الصغير بين كلمات جدي المنثالة، بينما تسحبني كفه الخشنة  بين طيات الأزقة المتربة نحو شاطئ النهر، فتلطم وجهي نسائمه، ويغمرني موجه الشفاف الفسيح. رذاذ الماء يوقظني. تلتصق برودته فوق الجلد. يقشعر البدن فتومض العيون وتنفض خدرها. وتروح الأيدي تتلقف بحيوية ركائز الكرب * العالق فوق سطح الماء.

ظل رذاذ الماء ذاك يوقظني فجر كل يوم مع صيحات قبراته الأنيسة. يتمدد جسدي ليأخذ سعة الكون، ويتشح بسطوع الأعشاب وروائح شط العرب النافرة.

ليس كل ما يسمى له دلالة، إلا زقاق زينب وكف زينب. مسافة الجسد تتناسب ومساحة النافذة، فيتناثر الدفء فوق سطوح الأزقة الضيقة المضببة بالندى من عطر شط العرب. رطوبة تنثال عند الشفاه تدعك الوجه الشاحب لينهض الدم، فيشتعل بين الأنامل المتشابكة المتنازعة من خلال حديد النافذة الصدئ. مكبوتة مهتاجة تمور فيها رغبة جامحة تكبلها عفة القربى والخوف من الفضيحة وأسلاك النافذة.

ـ سوف نبني بيتنا عند حافة البستان. وعند جرف النهر، نصنع لأطفالنا (سرسيحة*) نحو الماء. تنتظريني لأملأ تنورك بالخبز والسمك.. سوف أوقظ أطفالنا في الرابعة صباحاً ليقيموا الصلاة ويتعلموا الصيد.. سوف.. وسوف وسوف.

ويلتمع وجهها في ظلمة ليل الفاو الآمن، يومض نبض قلبها ابتسامة تنسجها الطفولة.

تزحف من صدري آلاف المتاهات لتنفرط فوق تراب الشارع وتندس بين شقوق الجدران. يسكنني طنين السعادة الذي يؤرجح روحي بانتشاء، فتنسل راعشة بسعادتها. من خوفها وتوجسها. من لعنة الأقاويل لو حصل وإن اكتشفنا أحدهم.

ـ زينب.. اخلعي نعليك فأنت في الوادي المقدس.

ـ ما هذا الهذيان.. ما الذي تتكلم عنه ؟!

ـ إنك مقدسة يا زينب، لن أطأ.. لن أدنس المقدس.. أنت الوادي الذي سيضم قلبي.

ـ أوه  ما الذي تهذي به.. لا أفهم ما تقول !!

ـ أحبك..

ـ يكفيني هذا...

كان الفجر يتكشف بكامل جلاله، بهياً يكشف خطواتي الحذرة الوئيدة وأنا أنسل نحو الزقاق الجانبي مبتعداً عن نافذتها، ملوحاً بكفي فأسمع همس كلماتها.

ـ لا تنسى موعدنا غداً..

ـ نعم..نعم.. أهمسها بحرارة الجسد المثقل بضجيج الشوق.. الثالثة فجراً موعدنا يا زينب.

يضطرب جسدي حين أعود لأدسه في الفراش البارد، لأمثل بعد ذلك نهوضاً ميكانيكياً لرجل عاف الكسل وشبع نوماً حدّ الثمالة. لأسلم يدي بعدها لكف جدي وهي تسحبني نحو شط العرب.

في ذاك الزمن حيث علق في رأسي نشيج الفراق. ما عاد لخطواتي مستقر. كان قدري يقودني مثقلاً بالهموم، ومع ترنح الأرض ما كان ليكتمل إلاّ ما هو بشع موحش. ويزوغ من بين قطرات الماء عند الشط وليد مشوه. يمور الماء وتتصاعد أبخرة الكره مثل دخان بركان. شرنقة تشبك الخوف فوق البيوت، تلتهم نبات (السعد*) عند الشواطئ، وتأكل جرف شط العرب ومرجاناته. تفرش سطوتها القبيحة فوق نخيل الفاو عند أعشاش البلابل وبيوت القبرات. يقطر مع الطين المندلق من المزاريب رنين أهوج يتقمص روح الشيطان وتطفئ النور صرخة شوهاء.

ـ الحرب قادمة يا زينب..

ـ ولم الحرب..؟؟

ـ ولم الحب..؟ لكل منهما اسمه ومريدوه و دعاته. فأين نحن من هذا وذاك؟.

ـ يقول أبى.. إننا سنرحل إلى سوق الشيوخ، عند أقاربنا، هناك أيضاً يمتهنون الصيد.

ـ ترحلين يا زينب ونرحل نحن أيضاً.. يقال إن بين السماء و الأرض سبع طباق.. سبعة أكوان.. سبع عجاف.. سبع خرائب تسكنها الغيلان.. نرحل يا زينب ونعاف نافذتنا المورقة بالورود، برذاذ المطر الرقراق المختلط بالشفق السحري. نرحل يا زينب بعيداً عن مدينتنا، عن أزقة الطين المهروسة بالمودة، عن طنين الحياة المشع بين سواقي البساتين. نرحل..؟ ولمن نترك رائحة العشب ونداوة الماء في شاطئنا؟ أنرحل عن مدينتنا..؟؟؟

ـ أبي يقول إنها الحرب.

ـ إنها الخراب،الموت،الجذام..نرحل يا زينب.. أتسألين عني..؟؟

ـ وكيف يكون لي ذلك؟

ـ سوف ألتحق بالخدمة العسكرية ويرحل أهلنا عن المدينة وتكونين أنت بعيدة عني..ولكن سوف أبحث عنك في بيوت مدينتكم الجديدة. أنثر صوتي عند سـمائكم. أطرق بقلبي كل الأبواب لاغترف من وجيف قلبك. اذكريني فإن الله سوف يلملم ارتباك أناملنا، يجاورنا ويهبنا من غمر ألطافه.  الحرب يا زينب هي الترحال، الخوف، الجوع، الهجر، الخراب. عيون تخبو وهي تطالع اندحار بهجة الألوان.هي الشوق، اللوثة و الهلوسات.

أسماء تترى في سجلات يومية تحمل طقوسها الهمجية مزروعة في حواس الجسد مختلطة برعشة من شوق. من نحيب مكتوم ينمو مثل الطحالب يغطي مسام الروح.. سربيل زهاب، بيلولة، كَيلان غرب،سيف سعد، عيلام، زبيدات،كتيبان...أسماء لا أفقه كنهها. لا صلة تربطني بها سوى الضياع والخوف والمجهول، ولكني أغل هلوساتي فيها بانتظار رجفة يديك وهما تمسدان وجهي، وتطمئنان يدي المرتجفتين.

ـ تنتظرين يا زينب.. تعدين الأيام.. موسم لصيد السمك. موسم للترقيد..موسم لجمع الثمار، مواسم...   أم ماذا؟

***

فرات المحسن

في نصوص اليوم