نصوص أدبية

فرات المحسن: الحرب والعودة إلى الوادي المقدس (3)

تبتلعني آخر التهويمات فأركن رغباتي في الأصيل المنثور في البعيد خلف الفاو. يتلاشى الهواء الفسيح فتختفي أبعاد الكون. يخرج نصل الخوف حاداً لماعاً يحز الصدر فينفر الدم، يختلط بالماء ثم يغطي وجه الشط. يلتصق عند جرف مدينتي فتذلني الساعة وأنا أنتظر موعداً طال أجله، غبش حلمت بـه. اهتياجات مؤجلة وأطياف ليلية حلوة.. أشحذ البصر في الظلمة باحثاً عن مدينتي وحبيبتي، والساعة هي الساعة كل يوم دون حراك.. ولكن أية التماعات مرجانية في أصيلك اليوم !؟ أيّ همس ينسل من جدرانك؟! أسراب الطيور ترحل اليوم من أقاصي الشطآن لتدخل ضياع سمائك الهلامية. عصافير فاضت دهشتها وهي تنفض زغبها فوق حواف شطك. تجدله وتتزين به.. أعرف نداءك ولم يخنّي قلبي قط، فتحت رماده نبض دفاق يسحبني نحوك فينتشي الجسد، فلا أسمع سوى هسيس سعفك المتكسر وارتطام الماء بشطآنك.

ـ ما الذي تفعله الساعة يا رجل..؟

ـ أناجيها.. أريد أن تحتمل أشواقي وفورة دمي.

ـ من هذه؟ ما الذي تخرف بـه !! اذهب وخذ قسطاً من النوم فلم يتبقَّ سوى ساعات.

ـ إذهب ونم أنت فلا علاقة لنجواي بحربكم هذه.

ساعات.. ساعات. دهور مسفوحة مثل زئبق ثقيل. ساعات يا إلهي، من أين يبدأ العائد إلى بيته، يبكي، يصمت، يمرغ وجهه بتراب البيت، يصرخ في الأزقة مع لحظة الوهج وسطوعها. ولكن ما الذي يكون بعدها؟. انفجار لقهر ركد طويلاً.. انبثاق لطيف ألوان فاقعة في الروح توالدت من صرخة مدوية كتمت في صدر هابيل وهو يستكين لحز سكين أخيه؟. أم هو صوت الفجيعة يتكسر في صدر قابيل؟

أحقاً إنها ساعات، فكيف ينام من يعد الدقائق الملتاثة دهوراً؟ يحسبها مثل أحجار ملساء صقيلة تنفلت من بين الأصابع. إذن فلأنتظر النوم كي ينام، لأسهد متوجعاً في التياعاتي، استمع لأصوات الهوام،الضفادع، دبيب الحشرات بين جذوع النخل وطيات الحشائش. طيور مذعورة. أسراب السمك وطرطشة الماء في الجداول. انفلات الجرذان من جحورها.

السماء مطرزة تتوهج نجومها في البعيد. تومض بين الحين والآخر انفلاقات القنابل ليختفي التماع الأنجم الأليف. مثل أسراب الجراد تحز الشظايا صدر الهواء، ثم توغل حديدها الساخن بين السبخ والماء والحشائش. تنغرز بارتجاف بين جذوع النخل والغرين باحثة عن شواء مستطاب. لحم يتوسلها بألم مدرار وذعر وخوف. انطفاء ضوء ثم صمت يرتحل نحو الانكفاء.

الساعة الآن هي فيض الله.. مثلما أولج الفاو الطرية بالخضرة بين السبخ والماء، تولد الآن ساعة مسفوحة فوق الدهور ترتج من هولها آكام النخل، وتتوقف رعباً المناجاة بين هوام الأرض. آلاف الأصوات المزمجرة توقظ هابيل من رقدته الأبدية لينزع عنه صوتاً كتمه طويلاً.

ـ آدم.. آدم إني ابنك المذبوح باسم الحقد والخوف والحسد والأنانية والصلف. باسم الخيبات والخديعة. باسم اللاشيء.. آدم.. إن بديع صنعك يحز رقبة ابنك الجميل.

صرخات تدوي وأقدام تضغط فوق انتفاخات السبخ الإسفنجية. ساعة الصفر تنفلت من زمنها المكبل المخبول. يتوفز فيها كل يباس الأرض ليعب الغمر المترامي، يشفط السبخ شبراً شبراً، ينتزعه عنوة ثم يمتد منتشياً مثل أخطبوط. لا يوقف زحفه ساتر ملغوم أو امتدادات الأسلاك الشائكة أو أرض مغمورة. الساعة، تأتي الريح محملة بماء الملح ليرش فوق الجباه، فيتقدم صراخ الخوف. يتناطح الشواء برهبة الموت. تتدافع الصدور جارفة أمامها كل شيء.

في فضاء شفيف من يوم قائظ من أيام الفاو خلت سماؤها من النوارس التي وقفت بعيداً في الأفق ترفّ بأجنحتها مثل رايات سود، تنظر كيف تتناطح الأجساد. كيف يطأ الجنود بأحذيتهم الثقيلة أكتاف السواتر لتتشظى أسرار الربّ وينتهك جبروت صنعته. أبناؤه، زهراته التي صنعها من تراب يدسّها إخوتهم في السبخ المرّ. أيّ ذئب استساغ طعم لحمك يا يوسف؟

أتقدم نحو مدينة فتحت ذراعيها خفية لطفلها الذي كبر في حضنها وغاب عنها زمناً. ينهمر الدمع ويدر ثدياها حليبا دافئا.

ثم..ثم يا إلهي، اقتربنا. تتلألأ ماسة حبي من بعيد فتتصاعد في الروح نشوة.. تراتيل تخرج من نور مبهر. روائح عبقة تغمر الأفق فتتهادى الروح بين نسائمها. آلهة موشحة بالورد الأبيض مكللة بالزمرد تتراقص في الأفق تناديني.

ـ ألا أيها العاشق اقترب فموعدك الساعة.

حزمة من حناء تنثر أوراقها فوق السبخ فيصطبغ بلون أحمر مشع. مباركة حناء الفاو تتعبد بها الطرق، فتنموا حشائش يدثرها الندى.

ـ ليس وقت المناجاة و الدموع يا رجل.. عليك تحاشي مصادر النيران فإنها الحرب وليس تهويمات أحلام.

ـ إخلع نعليك فأنت في الوادي المقدس.

ـ دع تخريفاتك الآن فلا وقت للهلوسة.. آه.. ألم أقل لك تحاشى مصادر النيران. انتظر مكانك..انتظر فصيل الإخلاء..أنت تنزف..

ـ مقدسة دروبك يا مدينتي..

ـ ابق مكانك.

ـ لا.. إنها تنتظرني، تملأ طبقها بخبز حار. سوف نعدّ القارب وشباك الصيد سوية. إنها تنتظر فكيف لي أن أتوقف.

ـ ولكن.. إنك تنزف بشدة.

دروب الضوء تستفز، وتلملم شتات بيوت الفاو المهدمة. الدم الحار الوقاد يبلل صدري ويختلط بتراب دروبك. أحس طعم ثمر البمبر الصمغي يغلي في جوفي. أدلك شعر صدري لتثب في جسدي روائح العشب وطراوة الماء عند السواقي في بساتينك. في أزقتك التي كبرت مع الفراق وتيبس فيها صوتي وهمسك. كريات لدم مشع تصعد في تجاويف نافذتك. سرب طيور حلـّق فوق رأسي، فأضاء الفضاء والشط. دفعت جسدي بقوة وركضت، وكانت تتملكني اشراقات صوتك وارتعاشات الهواء الخفيفة، والنوارس ترفع بأجنحتها جسدي الواهن.. لم يبق في مدينتي سوى أقدام صبية مرسومة فوق أديم الأرض. أجري بين الخرائب وأقترب من همسك، من مناجاتك.

ـ تعال يا حبيبي.. تعال.. إنك في الوادي المقدس.

ـ قادم أنا يا زينب.. مدي كفيك واحتضني وجهي. مسّدي شعري. شدّيه، فساعة الفرح مثل أجنحة العصافير المبللة برذاذ الماء. كل شيء الآن قابل للمزاح. فرح ينثال من السماء ملوّن بأشعة مبهرة تلتمع بين آكام الشجر وفوق حافة الشط. أنصتي.. اسمعي آلاف السفن تمخر عباب النهر. أصواتها تصم الآذان، وأسراب النوارس تغشى السماء مثل سحابات بيضاء. تتقاسم فتات الخبز، لا تدعه يسقط نحو الأرض. أصائل تختلط تتجمع، تنبسط. وتبر الأرض يلتمع عند حافة النافذة. اسمعي..اسمعي أصوات المجاذيف. رنينها الدافئ يملأ المدينة بأنغامه. سطع زعانف السمك يرف فوق حافات شباك الصيد، والكرب الراقص فوق سطح الماء. مدّي ذراعيك وتلمسي جرحي. رشيه وعفريه بعرق يديك. أشبكي أناملك بين أصابعي، فطرطشة الماء تغمر صدري الآن. يسحبني السمك الملون نحو العمق وسرب عصافير يلهو فوق كتفي… إنه فرح صباحات الفاو يرش صوته في ثغر الكون. إني أذوي سعادة فتعالي جواري. يشبكني (السعد) نحو برودة الطين فتلسعني طيبته. أتفتت، أنزلق عند (السرسيحة) فتضمني ذراعاك. أتأرجح مثل كتلة رخوة. أتلمس رقبتك، أشم ضوع أنفاسك، فأدس أنفي بين طيات (شيلتك) وأرغو فتتهدل السعفات تحت وطأة أقدام البلابل وهي تفرش أعشاشها بالريش الأصفر. التماع الصدف يغطي ظلام المدينة. إني أرغو بين أناملك، أبكي فضميني لصدرك. مدي دثاري في واديك المقدس.

***

فرات المحسن

 

في نصوص اليوم