آراء

سيكولجيا الانتخابات .. ومستقبل العراق

 الاحتراب الطائفي وافرزت  نتائج  أفضت الى أسباب جديدة للمرحلة الحالية،ستضعف في نهايتها لتؤدي نتائجها الى أسباب جديدة للمرحلة التي تليها، وهكذا في عملية تطور مستمر ما لم يحصل انقلاب يطيح بالنظام القائم، وهو أمر صار مستبعدا في المستقبل المنظور. وكما تحكّمت " سيكولوجيا الاحتماء " في مرحلة الانتخابات السابقة (الناخب يلجأ مضطرا لأن يحتمي بطائفة،عشيرة،قومية..)، تتحكم الآن "سيكولوجيا الاحتواء" في مرحلة الانتخابات الحالية، أعني أن الكتل الكبيرة احتوت الكتل الصغيرة وصار هدفها ان تحتوي الواحدة الاخرى. ومع أنها شهدت تحالف كتل بوجه يبدو وطنيا ولكن "برئة " طائفية ضد كتل أخرى بنفس الصفتين، فان البرلمان المقبل سيكون أفضل من سابقه، ممهدا الطريق الى مرحلة انتخابية أنضج في 2014 تحكمها " سيكولوجيا المواطنة " .

 

وعلى وفق "قوانينا" السيكولوجية فان الانتخابات العراقية ما تزال تحكمها "سيكولوجيا الضحية" القائمة على آلية الانتقام، التي يسوق جماهيرها عقل انفعالي لا الى خلاص تمنته بل لخيبات استفتحتها بمجيء برلمانيين كثير منهم عديمو كفاءة ومشرعنو فساد ومثيرو فتنة ومسيئو اخلاق ودين. والأوجع،على الضحية الأكبر، أن الحكومة التي قادتها الشيعة وحققت انجازات كبيرة،منحت الفرصة لأنظمة عربية بارتكابها اخفاقات كبيرة عززت لديها مقولة ابتدعتها "أن الشيعة لا يصلحون للحكم" مع أن في الشيعة، كما في السنّة، عقول ..توزن بلد.

 

وخطيئة ارتكبها "مخترعو" قانون اجتثاث البعث تحكّمت بهم سيكولوجيا الضحية حتى في اختيار مفردة "اجتثاث" التي تعني القلع والاستئصال والافناء، برغم أن نظام الحكم السابق اعتمد من السبعينيات سياسة "التبعيث" لاسيما في قطاعات التعليم والجيش والشرطة التي تظم الالاف معتمدا اسلوب قطع الارزاق،فضلا عن بعثيين كانوا ضحايا "الرفيق الأكبر" الذي فتك بهم كما فتك ستالين برفاقه.

 

ومع ان الاف البعثيين (وبينهم من يطلب حزب البعث تعويض ما عاناه من ذّل باجباره قسرا" على الانتماء) عادوا لوظائفهم الا ان السلطة الجديدة حولتهم الى"ضحيه" وفرت لها الديمقراطية، كما لسابقتها، فرصة استعادة حقوقها.. بدأتها- والمتعاطفون معها- بتجميل صورتها للناس بأنهم بريئون من طغاة رحلوا وارهابيين احياء وداعين لاسقاط الحكومه، وانهم الوحيدون القادرون على انقاذ البلد من محنته بوصفهم اصحاب خبره وكفاءات في العمل السياسي والأمني، ولأنهم علمانيون غير طائفيين، وانهم سيحرصون على عروبة العراق ويوقفون"عنفوان" الكرد المتطلعين للانفصال،ويردعون الجارة الشرقية .. فيلقون الترحيب والأسناد من الأنظمة العربية، ويعود العراق لاستقراره بمسيرة جديدة.. كما يبشّرون.

 

واكثر العراقيين اصيبوا بالاغتراب السياسي الذي يعني تحديدا:الشعور بخيبة الأمل والعجز والنفور من العمل السياسي.فالأشخاص من هذا النوع يعتقدون ان العملية السياسية بكاملها لا معنى لها. ولك أن تعدّ انخفاض التصويت في أية انتخابات عامة دليلا على الاغتراب السياسي..وتحديدا في المجتمعات الديمقراطية التي تضمن حق التصويت بحرية للجميع!!

 

واللافت،سيكولوجيا،أن المغتربين السياسيين لا يلومون القادة السياسيين على الحالة المؤسفة لشؤون الحياة بقدر ما يكتشفون أن النظام السياسي الذي حلموا به كان وهما أو أنه مصاب بخلل لا يمكن اصلاحه.

 

والسبب الرئيس للاغتراب السياسي، اذا صار ظاهرة بين المواطنيين، يعود الى فشل الثقة بالحكومة. ففي المجتمعات الديمقراطية،والمجتمع العراقي صار بالمقدمة اقليميا، يتوقع الناس من الحكومة أن تكون: نزيهة،وكفؤة،ونشطة في خدمة الناس.غير أن ما يحصل هو العكس غالبا.فالأمريكيون يرون في حكوماتهم المنتخبة ديمقراطيا أنها مصابة بثلاث رذائل: الفساد والفضائح وتبديد الثروة. والمفارقة أن هذا حصل في الحكومة المنتخبة ديمقراطيا في العراق الجديد،مع أن الدور الأكبرفيها كان لأحزاب اسلامية تدين قيمها هذه الرذائل.

 

وسواء كانت الحكومة في امريكا او في العراق فان مهماتها تتحدد بثلاث: حماية المواطنين من أي تهديد يأتيهم أيا كان مصدره، وفرض النظام بالسيطرة على سلوك الأفراد لحماية المجتمع من شيوع العنف والفوضى،والعمل على تحسين نوعية الحياة للمواطنين بتأمين: المساواة في الفرص،وحماية حرية المواطن وحقوقه،وتحقيق الاحتياجات الأساسية للناس.

 

لقد نجحت الحكومة العراقية الى حد كبير في الوظيفتين الأولى والثانية وبخاصة تجنيب المجتمع من حالة فوضى وعنف كان يمكن أن تستمر أطول،لكنها فشلت الى حد كبير في الوظيفة الثالثة المتعلقة بجودة الحياة للمواطنين .فلا استطاعت تأمين الحاجات الضرورية لاسيما الكهرباء والبنى التحتية،ولا انتشال الناس الذين هم تحت مستوى خط الفقر،ولا تأمين المساواة في فرص التوظيف ومعالجة البطالة،برغم أن العراق أغنى بلد بالعالم، يوجب على نظامه الجديد تأمين حياة كريمة للعراقي واعتبارعالمي يليق به كالذي يتمتع به شقيقه الاماراتي.

 

ومع أن الحكومة ورئيسها يتحملان المسؤولية، الا أن السبب الرئيس هو البرلمان الذي أفشل ثقة الناس به. واذا كان الطائفيون من الناخبين العراقيين هم الذين جاءوا ببرلمان لم يمثل شعبه،فما نخشاه الآن أن المغتربين السياسيين من العراقيين سيوفرون الفرصة لعودة كثيرين منهم ومجيء أمثالهم ..ان بقوا يتفرجون على مباراة الديمقراطية شبه النهائية بيومها التاريخي الذي سيشهده العراق في آذار 2010،فيؤخرون تتويج العراق بطلا للديمقراطية في العالم العربي.

 

هذا يعني أن نسبة كبيرة من العراقيين يائسون من اصلاح الحال، وموقفهم هذا ناجم عن حالة سيكولوجية سببها..ان تكرار الفشل يؤدي الى اليأس، وان الشعور باليأس هذا يقوى اذا جرى له تعزيز من يائس آخر،والأخطر اذا تحول اليأس الى عدوى تنتشر بين الناس..ويبدو أنها ما تزال ساريه وان "لقاحات" البرامج السياسية والدعائية ما تزال غير مؤثره.

 

ومشكلة اليائس انه يرحّل اخطاءه على الآخرين. فاذا كان يرى في عدد من أعضاء البرلمان الحالي أنهم خذلوا الناس، واثروا وفسدوا.. فهم لم يأتوا عبر انقلاب بل هو الذي جاء بهم( الناخب العراقي) وعليه أن يكفّر عن خطيئته. ولأن تغيير حاله نحو الأحسن مرهون بمجيء برلمانيين كفوئين ونزيهين، فان الفرصة متاحة له في الانتخابات المقبلة، فبصوته يستطيع ان يغير ليس حاله فقط بل مستقبل وطن، سيما وان الانتخابات المقبلة حررت الناخب العراقي من "طائفية" القائمة المغلقة وانتخاب ارقام قوائم الى انتخاب من يرى فيهم الكفاءة والنزاهة وخدمة الناس.

 

ولهذا فان مشاركة الشعب في الانتخابات المقبلة مرهونة بقدرة المثقفين والسياسيين على توعية الناخب العراقي بان فرصة الانقاذ،لك واهلك والوطن،آتية في آذار،وانك ان فرطت بها فلا تلومن الا نفسك،وعليك ان تغلق فمك ان بقيت بأردأ حال،فضلا عن انك (الناخب) تخون دينك وقيمك والوطن في مجيء حكومة لا تصلح حال ولا تليق بالعراق..وهذا يعني أن مقاطعة الانتخابات خطأ عظيم ..بل جريمة بحق الوطن والناس ..وذنب آخر، أن يلدغ (الناخب) من انتخاب مرتين.

 

والتوعية بهذه الأفكار لن تكون الا باعتماد سيكولوجيا الاقناع القائمة على صدق الدعاية الانتخابية وثقافة الاعلان،التى اراها ما تزال مرتبكة،وانعكاس ذلك على الناخب الذي ما يزال حائرا..لا يعرف من ينتخب لاصلاح الحال: استاذا جامعيا،رجل دين،علمانيا،تكنوقراط،شيخ عشيرة...

وبالصريح،ان الذي يحسم فوز الكتل الرئيسة في البرلمان هم جماهير الشيعة والسنّة غير المسيسيين..فعليهم الرهان،لأن الأمر محسوم فيما يخص الكرد والتركمان والاقليات الأخرى والمنتمين لاحزابهم وكتلهم.

 

نعم، ستخسر الاحزاب الاسلامية بعض مكاسبها التي حققتها في الانتخابات السابقة لصالح احزاب وكتل علمانية او وطنية،ولكنها ستبقى الكتل الأقوى في البرلمان .على ان المكسب الأكبر ان الانتخابات المقبلة ستأتي بعدد معتبر من الكفوئين والنزيهين ولن تعيد مفسدين بهذا الحجم والصفاقة وقلة الحياء،ومن كان ( ضمير سز).

 

ان الانظمة في دول المنطقة قلقة جدا من نجاح الانتخابات في العراق،لا خوفا فقط على انظمتها بل رعبا من ان يكون العراق دولة كبرى على صعيد العالم لما يمتلكه من ثلاث ثروات:تحت الأرض وفوقها وفي العقول ..لاسيما عقول خمسة ملايين عراقي في الخارج،لو عاد منهم مليون الى جانب مليون نزيه وكفوء في الداخل لجعلوا العراق جنة الله في الأرض.لكن شعوب تلك الانظمة ستكون فرحة جدا بنجاح الانتخابات ..لانها ستقرّب يوم زوال انظمتها المتخلفة.

 

شكرا لموقع المثقف ..لدوره المؤثر في اشاعة الثقافة التي تسهم في صنع مستقبل العراق ..ليكون جوهرة العالم في الشرق الأوسط.

 

...........................

خاص بالمثقف

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (عدد خاص: ملف: تذكر قبل ان تنتخب .. دور الشعب في تقرير مستقبل العراق 03 - 05/03/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم