آراء

ملف: الدين والدولة المدنية الحديثة / مهدي الصافي

وتعد بقية التجارب الإسلامية اجتهادات وأفكار وتصرفات شخصية،

بدءا من الخلافة الراشدة وصولا إلى طبيعة الدولة الوراثية في العهدين الأموي والعباسي، الغريب إن بعض المدارس الإسلامية المخالفة لوجهة النظر الشيعية حول وصايا الرسول ص بتحويل عهدة وولاية المسلمين إلى عترته الطاهرة من ذرية علي وفاطمة عليهما السلام (مدرسة ألاثني عشر أو المدارس الواقفية الشيعية)، هم أنفسهم من يخضع ويتمسك لعقود من الزمن بولاية خلفاء بني أمية والعباس والدفاع عنهم

(وهذا تشكيك واضح بازدواجية القناعة والرفض المتبع من قبل المذاهب الفقهية السنية الرافضة لفكرة وجود قصة إعطاء راية  الخلافة بعد حجة الوداع-في واقعة غدير خم من قبل  الرسول الأكرم ص إلى الإمام علي ع)،

وقد كانت بالفعل الأحداث المختلفة الدائرة في عهد الخليفة الثالث عثمان ابن عفان رض (التي أدت لمقتله)، تثبت فشل دولة الخلافة الإسلامية في إتباع نمط إسلامي حضاري مدني في توزيع الحقوق الشرعية والمناصب السياسية والإدارية، فقد اتهم الخلفية الثالث بتقريب أبناء عمه وعشيرته،  وإغداقه عليهم بالعطايا والأموال والمناصب(وهو من قرب مروان بن الحكم، والوليد بن عقبة، عبد الله بن ابي سرح - انظر كتاب أبو الأعلى المودودي الخلافة والملك، وعزز دور معاوية في الحكم، وسمح بطريقة أو بأخرى لولاته الخاصين، بعضهم مشهور بالفسق وشكوهم إليه الناس دون أن يتخذ بحقهم أي إجراء في والكوفة والبصرة وبقية الأمصار بالتمادي في إذلال المسلمين، كابي ذر الغفار-عبد الله بن مسعود، وعمار بن ياسر، وفيما بع= حجر بن عدي الكندي وأصحابه)،

وجعلهم حاشية مكروهة ومشكوك بإخلاصها إلى الإسلام،

وبعد استلم الراية الإمام علي ع لم يستطع إن يعالج تركة الخلفاء السابقين، فوجد امة بولاة غير شرعيين وأحيانا فاسقين، وكانت قمة الصراعات القائمة بينه وبين معاوية بن ابي سفيان، هي محاولته لإعادة تطبيقه الشريعة الإسلامية وعدالة توزيع الحقوق بين العامة من الناس(وهو أول من ساهم بتوحيد عطايا المسلمين من الحقوق دون تمييز)، ومع إن الرسول كان قد حذر بعض ضعاف النفوس من المسلمين من هذه الحوادث،

(كمعركة الجمل بقيادة الزبير وطلحة وأم المؤمنين عائشة زوج الرسول ص، ومعركة صفين)،

فقال لهم موجها كلامه إلى الصحابي الجليل عمار بن ياسر رض (بما معناه، ياعمار تقتلك الفئة الباغية)، فلم يتعض احد، بل ظهرت فرقة جديدة أضرت بالإسلام والمسلمين (الخوارج)،  أثارها باقية إلى يومنا هذا، والتي أقدمت على اغتيال الإمام علي ع في حادثة المسجد المعروفة.

مما تقدم نجد إن النماذج المبعثرة للدولة الإسلامية (والتي توسعت بفعل الفتح الإسلامي المثار حوله الجدل)،

لاتعطي احد من المؤسسة الدينية الحق باستنساخ تلك التجارب، وإلباسها صبغات وتأويلات وأفكار شخصية مقدسة (كالمدارس السلفية الحالية، وريثة مدرسة محمد بن عبد الوهاب المتشددة والمسيسة المنحرفة عن خط المذاهب الأربعة المعتمدة)،

والدليل على إن الهدنة والخنوع الاستسلام والتبعية المخالفة للشرع التي أعطيت للحكام العرب، أثبتت انحرافها عن المبادئ الإسلامية، وفشلها في تغيير سلوكيات المجتمعات الإسلامية خدمة لمصالح الحكام،

فجاء الربيع العربي ليكشف المستور عن الشخصيات والمؤسسات الدينية المتناغمة مع هوى السلطة وأوامرها وشروطها، السخية جدا معهم، هذه المؤسسات والشخصيات لازالت تمارس أدوارا خبيثة لحماية سلطات وأنظمة بعض الدول المنحرفة عن الخط الإسلامي (وخصوصا بعض دول الخليج التي صرفت ولازالت تصرف ملايين الدولارات على ملذاتها ونزواتها، دون أن تلتفت إلى حال المسلمين المزري).

يبقى فقط النموذج الإيراني الإسلامي، والذي يقال إن الشهيد محمد باقر الصدر (قدس سره الشريف) هو من شارك بوضع نظرية الحكم في إيران (مع انه لم يطرح فكرة ولاية الفقيه بشكلها الحالي)، وهذا يعني إن المدارس الفقهية والإسلامية جميعها تجتهد في مسألة التعامل مع الدولة المدنية الحديثة، وفقا لوجهة نظرها الإسلامية،

لكن الشعب الإيراني الذي كان يعيش في كنف دولة مدنية (لكنها غير أخلاقية، ولم تلتزم بالأخلاق الإسلامية، مقلدة للنموذج الغربي)، وجد نفسه يعود إلى الوراء من خلال حكم الملالي (هكذا يسمونه هناك)، بل تجد إن المواطنين الإيرانيين في بعض المناطق ومنها شمال طهران مثلا يستهزئون باللباس الديني وبمن يلبسه،

(يقول الشيخ محمد باقر الناصري لمجموعة ممن حضروا مجلس تلبيس العمة، لاتعتبروا هذا اللباس حاجزا لكم ومقيدا لحركتكم، فهو لباس عادي يمكن أن تلبسه بعض الشعوب كالسودان، إلا إنهم متمسكون به في بلادنا، وعندما يدخلون بلاد الغرب تعود الأمور إلى طبيعتها الأولى)، ولولا حضارة وذكاء وحيوية الأمة الإيرانية، لما استطاع رجال الدين أن يحرك العلم ويصل إلى مصاف الدول النووية، بعض رجال الدين العراقيين الذين كانوا يقيمون في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، يقولون إن النموذج الإيراني نموذج غير إسلامي، فهو يمنع حق التملك لغير الإيراني، ويمنع حق العمل وكسب الرزق، ولايسمح بالعلاج المجاني، يعارض إقامة حتى المدارس الأهلية الغير إيرانية، فضلا عن غلقه أبواب مدارسه بوجه المسلمين الآخرين، والتعامل بعنصرية رغم إتباعه مبدأ ولاية الفقيه، الخ.

المشكلة في نموذج رجل الدين المقدس الذي لايتورع عن إصدار أحكام الموت الفردي والجماعي، وفقا لمنظاره وقراءاته وتفسيراته الخاصة للنص الديني، علما إن السنة النبوية هي ترجمة واضحة للنص ألقراني المقدس (مع إن الرسول الأكرم ص كان يعمل على تفسير الآيات القرآنية وقد حفظها الصحابة ورووها)،

هذه الإشكالية إضافة إلى اختلاف المذاهب الفقهية وتنوعها (السلفية وحدها تمتلك أكثر من سبعة مدارس)، مع الحداثة والتطور المدني الإنساني التكنولوجي والعمراني، وتنوع مدارس الاختصاص المهني والإداري والتقني الفني، جعلت عملية المشاركة والانفتاح على بقية الأنظمة والقوانين المدنية أمر ضروري لايمكن تجاهله، أو تعويضه من قبل رجل الدين (الذين يعدون أنفسهم علماء بمجال الدين والتفسير ألقراني)، ولكن هل بإمكانهم قيادة معركة وطنية ضد العدو الخارجي بالسيف، كما كان يفعل المسلمون، أم عليهم أن يرجعوا إلى رجال الاختصاص كما فعلت إيران.

المسألة الأخرى الشائعة بين أفراد المجتمع الإسلامي، إن الرجل الإسلامي اقرب إلى النزاهة والعفة والزهد المطلق، لكن التجارب أثبتت عكس ذلك (ومنذ زمن)، ففيهم النزيه والمتدين المؤمن الزاهد، وفيهم أيضا الرجل المتلبس بلباس الدين،  الانتهازي، والبخيل، والحرامي،  والنفعي، والوصولي، وحتى الدجال والمنافق،  الخ.

فالنموذج العلماني الغربي المتماسك في وطنيته، اثبت للجميع إن اللباس الديني ليس ضمانة مطلقة لأحد من الانحراف، ومسألة العصمة التي يمكن أن تمنحها بعض المدارس الفقهية على بعض الخلفاء والصحابة، لا يمكن استحضارها حاليا وإلباسها لرجال اللحى الطويلة،

إنما نحن بحاجة إلى وعي حقيقي بمسألة تطبيق شؤون إدارة الدولة وأنظمتها التشريعية والتنفيذية والقضائية، وانتشال مجتمعاتنا الجاهلة بحقوقها وواجباتها الأخلاقية والشرعية من وحل الانغلاق الفكري والثقافي،

من اجل تفعيل دورها في اختيار الشخص أو الحزب والجهة المناسبة، التي تلبي احتياجاته الوطنية، ومراقبة أداء هؤلاء الأشخاص والجهات الممثلة له في الحكومة والمجالس البرلمانية والوطنية والمحلية، الخ.

تبقى لدينا مسألة علاقة الدين بالدولة المدنية، نحن نعتقد إن التجارب التاريخية حول علاقة الدين بالدولة (شرقا وغربا)،

لاتعطينا نماذج مثالية أو واقعية لنجاح تلك التجارب في إدارة الدولة والحكم، وإنما هي أمثلة متناقضة ومحملة بالكثير من المشاكل والأزمات والظلم الاجتماعي والإنساني أحيانا (وخصوصا فيما يتعلق بمسألة حرية التعبير والفكر والعقيدة والاختيار)،

ولكن لابد من التدخل الديني المحدود في جميع مرافق الدولة وأجهزتها الحكومية والإدارية، وفقا للشريعة الإسلامية المعتدلة، هذا النوع من التدخل لايتعارض مع النظم الديمقراطية وحتى العلمانية، لأنها ستضع في حساباتها محدودية التدخل، وذلك عبر إبداء الرأي الشرعي في بعض القضايا والمسائل الشرعية الاجتماعية والقضائية،

(الزواج والطلاق - الإحكام الإسلامية القضائية كالقتل والدية والاعتداء والضرر- عدالة التوزيع للثروات-نشر التعاليم الإسلامية وأركان الإسلام الخمسة وتشجيع المسلمين على الالتزام بها-عقود الشراء والبيع والقروض-الوصايا العائلية وتقسيم الميراث-الخز)،

هذه المسائل تخضع إلى المشاركة والتداخل مع التشريعات المدنية، بحيث إنها يجب أن تتوافق (التشريعات المدنية) مع الشريعة الإسلامية المعتدلة، ولكن ضمن مفهوم المواطنة، الضامنة لحقوق الجميع دون استثناء، بما فيها حقوق الأقليات والطوائف الدينة المخالفة، واحترام إرادة المجتمع.

(وما وصية الإمام علي ع لمالك الاشتر رض عندما ولاه مصر، إلا دليل على ضرورة أن تكون هناك سياسة معينة شخصية ونفسية لمتابعة شؤون الناس واحتياجاتهم)

 

مهدي الصافي

 

خاص بالمثقف

للاطلاع: (استطلاع: ما هو دور رجل الدين في الدولة المدنية؟)

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :209 الأحد 22 / 01 / 2012)

 

في المثقف اليوم