آراء

ملف: المواجهة بين العمامة والأفندي / صالح الطائي

نعم جاءت العمامة لتعطي توصيفا لفئة مجتمعية كما هي بدلة العمل وصدرية الطبيب وبيرية الجندي وحتى أزياء السواق وعمال المطاعم، وذلك من حسنات التخصص، وربما ضمن سياق هذه الرؤى يطالب البعض المعممين بنزع العمامة بعد أوقات الدوام الرسمي، وهؤلاء معذورون لأنهم يهتمون بمظهر العمامة أكثر من اهتمامهم بدورها الإنساني الريادي، فالمعمم يشبه الجندي المرابط  أمام قوات العدو كلاهما يخوض حربا ذاك أمام عدو منظور هو جندي مثله وهذا أمام عدو غير منظور هو إبليس وجنوده (من الإنس والجان)، وكما لا يحق لنا مطالبة الجندي بتغيير ملبسه بعد ساعات الدوام في ساحة المعركة كذلك لا يحق لأي إنسان مطالبة المعمم بنزع عمامته بعد الخروج من المسجد، فالعمامة هي الضمانة الأكيدة التي تؤكد وجود المتصدين للتخريب بكل أنواعه.

من جانب آخر نرى أن العمامة بالأساس غير مقيدة بقانون، فلبسها متاح للجميع ولا يوجد مانع يحول بين إنسان ما ولبس العمامة، فهي ليست زيا رسميا تقيده القوانين كما هي أزياء الجيش والشرطة ورجال الإطفاء وبالتالي ممكن أن توضع على رأس أعلم الناس وممكن أن يلبسها أوضع الناس وأكثرهم انحرافا، ومع كل ما يمثله هذا التسامح من خطر إلا أن الناس أنفسهم لا يلبسون العمامة اعتباطا إلا ما ندر، وهذه الندرة تتمثل بمجموعة رجال المخابرات الذين زج بهم النظام البعثي بين رجال الحوزة مستفيدا من هذه الميزة والذين تمسكوا بالعمامة بعد سقوط النظام لأن سرهم لم يفتضح بعد، ومجموعة من الطامحين الباحثين عن الوجاهة والقداسة الزائفة الذين استغلوا هذا التجويز لتوظيف العمامة في مشاريعهم الدنيوية.

هذا الأمر فضلا عن الاختلافات الدينية المذهبية، والسياسية الحزبية، وأشياء أخرى لا نريد الإشارة لها أتاح لهذه الفئات كلها الدخول إلى المؤسسة الدينية من بابها الأوسع تحت مسمى (رجل دين) وهؤلاء أنفسهم ربما بسبب الدعم المالي واللوجستي الذي تقدمه لهم الأطراف الداخلية والخارجية المستفيدة من حراكهم أو التي وظفتهم لأداء هذا الدور نجحوا في أسلمة مشاريعهم الخاصة التي لا تمت للإسلام الحقيقي بصلة وبالتالي نجحوا في خلق (إسلامات) كثيرة داخل الإسلام الواحد.

المشكلة الكبرى أن كثير من الناس بما فيهم شرائح واسعة من المثقفين والباحثين والكتاب والسياسيين اليساريين، إما لا يعرفون هذه الحقائق، وإما يعرفونها ولكنهم يوظفون تداعياتها لخدمة مشاريعهم المتنوعة وهي في الغالب مشاريع معادية للإسلام تنتهز الفرص للنيل منه وتحاول عكس كل تصرف على الإسلام الحقيقي سواء كان حقيقيا أم مفتعلا، صادرا من متدين بلباس مدني أو من معمم، وهم يعلمون يقينا أن الإسلام بريء من هكذا عمل.

في الجانب الآخر هناك مجاميع وظفتهم المخابرات المعادية والحركات الدينية المتطرفة المعادية للإسلام للعمل على محاربة الإسلام من الداخل وربط كل موبقة أو خطأ بالدين ونسبة كل الأفعال المشينة للمتدينين لكي تخلق حاجزا بين الفكر الديني ورجال الدين من جهة وبين القاعدة الجماهيرية العريضة من جهة أخرى أملا في تفكيك عرى الروابط التي تجمع بين الاثنين لكي يتخلصوا من أقوى المتصدين لتخريبهم واعمالهم الشريرة.

فضلا عن ذلك نجد أن من ضمن مهام المعمم الاهتمام بالشأن السياسي في كل النظم السياسية لما للسياسة من تأثير على كافة مناحي الحياة الإنسانية، فالمعمم مواطن يحق له ضمن فقرات الدستور أن يمارس كل الحقوق التي يجيزها الدستور للمواطنين الآخرين تماما كما هو الموظف والعامل والأكاديمي،فضلا عن كونه المسؤول الشرعي عن متابعة وحل الإشكالات الفقهية التي تواجه المؤمنين وبالتالي يحق للمعمم ممارسة السياسة وفق منظور خاص مؤطر بالأحزاب الإسلامية، وفي ذات الوقت أداء واجبه الديني، رغم أن ذاك لا يعني بأني أضفي صفة التدين على السياسيين الدينيين المشاركين في العملية السياسية اليوم في العراق فمن بين هؤلاء ما لا علاقة له بالدين إلا من حيث لبس العمامة.

مما تقدم أجد أن دور رجل الدين الحقيقي وليس المزيف ومن كل الأديان في الدولة المدنية الدستورية أو الدينية أو الدكتاتورية أو الرأسمالية أو الاشتراكية هو نفسه لا يتغير سواء أكان مقيدا أم حرا مطلقا، أما الذين يردون تحجيم رجل الدين وتحويله إلى موظف رسمي تابع لسلطة النظام العالمي الجديد أو الشرق الأوسط الجديد أو منظمة الأمم المتحدة أو قوى العولمة ويلزموه بإتباع مناهج هؤلاء ورؤاهم ونظمهم وقوانينهم فإنهم يردون إحداث فجوة يمررون من خلالها مشاريعهم التخريبية لأنهم على يقين أن الفشل مكتوبا لمشاريعهم ما دام هناك رجال دين يتصدون لإرشاد الناس إلى الطريق القويم ليتكاتفوا وقوفا بوجه هذه المشاريع الباطلة.

إن الذين يريدون تسقيط العمامة الإسلامية إنما يريدون السير بالمجتمع الإسلامي  في طريق التغريب عملا وإيمانا وسلوكا وبالتالي تتاح لهم فرصة إشباع غرائزهم وتحقيق أمانيهم بعد أن تتحرر الفتاة من رقابة الدين ويتحرر الشاب من قيود الحلال والحرام وتتحرر الأسرة من القيود الدينية.

ومن الإنصاف والعدل بمن يريد إصلاح المجتمع أن يدعم كل المشاريع الإنسانية بما فيها المشروع الديني برجاله وفكره وعقيدته، أما أن يحارب الدين وحده ويروج بالمقابل للفكر التوحشي الإفتراسي العبثي اللهوي الاعتباطي مقابل اتهام الدين ورجاله بأنهم مسيئين ويوغلون بالإساءة للناس أو أن العمامة خلقت لزمان غير زماننا أو انه لا فائدة منه في الدولة المدنية أو أنه يمارس مهنة غير حقيقية ومنقرضة أو أن  أدمغتهم متجذرة في العصور الدينية /الفلاحية /الزراعية القديمة أو أنهم طبقات طفيلية أو أن الدين هو الواجهة للعهر السياسي وغيرها من الآراء السقيمة التي تنضوي على تطاول حقيقي لا تجيزه كل القوانين، فمع احترامي للرأي الآخر أراهم بعيدين كل البعد عن جوهر الموضوع وما في داخلهم من كره للروابط الدينية هو الذي دفعهم لإبداء تلك الآراء الغريبة.     

 

خاص بالمثقف

للاطلاع: (استطلاع: ما هو دور رجل الدين في الدولة المدنية؟)

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :209 الأحد 22 / 01 / 2012)

 

 

 

في المثقف اليوم