آراء

ملف: رجل الدين والدولة المدنية .. اشكالية المصطلح / جابر مسلماني

وتشكل آليات مضمون هذا المصطلح في الوعيين الديني والعرفي العام من خارج سياج النص وسياقاته.

لا أريد الحفر تحت هذا المصطلح المستنبت وإحالته الى ترسانة المنظومات الذكورية ومقولات الأمام، فبذلك يصبح مفهوم رجل الدين مقابلا لمفهوم مضمر وهو امرأة دين أو نساء دين في مقابل رجال دين، فالمرأة على الدوام في الثقافة الاجتماعية العربية كائن مستتر ومدلول عليه بملازمات فوقانية، هذا الانشطار أو الأحادية تحيل الى خلفيات فكرية وحقوقية  في نظرتها الى المرأة تصل الى جدالية فكرة القضاء والسلطة وغيرها من الأسئلة الكبرى التي تعمل في دائرة ممكنات المرأة ضمن نظريات معينة لا تبتعد عن مقاربات تاريخية .

أخطر من ذلك إفتراض أن يكون مصطلح رجل دين مقابلا لرجل دنيا وهو تقسيم يتناقض بنيويا مع التصور القرآني الذي يدمج الدين بالدنيا من حيث مناطق ومساحات الاشتغال لا التشغيل والتوظيف، مما يفتح المجال واسعا الى نقد الفكرة القائلة بأن رجل الدين "يعلمكم شؤون دينكم ودنياكم"فمجال الدين هو المدى الدنيوي الذي يسأله موضوعيا من حيثية التناسب ودائرة الممكنات الموضوعية لتغطية مساحات الأسئلة نفسها لا كل مدى وساحة ودائرة، فالدوائر الدنيوية ذات الأبعاد الدينية او المفتوحة على سؤال الدين هي التي يعمل فيها الدين ويغطيها لا الدوائر المحايدة او البعيدة عن وظائف الدين التي تحتاج الى أجوبة دنيوية صرفة.إن سحب الدين على كافة مرافق الحياة شكلا ومضمونا هو على خلاف نداءات الدين نفسه ومبتنياته، الدين نفسه لا يدعي ذلك.

غني عن القول إن سؤال رجل الدين أو مصطلحه في الاستطلاع الذي اجرته "المثقف" الموقرة لا يُقصد به الرسول الأعظم (ص) إنما المقصود به رجل الدين المعاصر ووظائفه ودوائره الراهنة دون ان يعني ذلك عدم حضور النبي الاعظم كمكون عظيم لثقافتنا الدينية ابدا ، منعا لإلتباسات وقع فيها بعض الإخوة المعلقون المحترمون....

 - من منطلق ديمقراطي وثقافي صرف على تماس مع الحرية التعبيرية ومواثيقها، لا يصح الإفتئات على رجال الدين وتعميم النشاز على المستقيم وخلط المضمون بالزي، فليس كل رجال الدين واحدا منمطا، بحيث يؤدي رياضيا نقده الى نقد المفهوم، كما أن ملاحظة السائد ونقده لا تؤدي الى تدمير المفهوم، ولا أظن أن سؤال "المثقف"الرائدة يتضمن أو يحيل أو يؤدي الى نقض المفهوم أي مفهوم رجل الدين، لقد تركز السؤال على دور رجل الدين في الدولة المدنية إبتناءا على ما يمكن أن يُجلي الدور ولا يتصادم مع الفضاء العام للدولة المدنية، وعن ممكناته أيضا، والامثلة المقدمة من قبلها كان بهدف النقاش أولا والتصحيح ثانيا، ولم أفهم المعنى القائل :على رجال الدين العودة الى المساجد وترك كل ما هو خارجها !

 نعم لا بد من تعديل وإعادة النظر من قبل رجال الدين لطبيعة دورهم ومساحاته هذا لا أناقش فيه ابدا، ومتفق معه حتما، ومن حق كل إنسان أن يعبر عن رأيه ولكن بعيدا عن التسطيح والكلمات المقذوفة على طريقة الأخبار العاجلة، لرجال الدين -إنسانيا- كرامة لا بد من إحترامها ككل إنسان! بأي منطق يُقال إن رجل الدين يرتدي زيه للارتزاق؟ قد يكون البعض منهم يفعل ذلك وهو ليس منهم بحسب المعايير الثقافية والاخلاقية، فهل الكل كذلك؟! ألا يرتدي بعض من ينتسبون الى دوائر إختصاصات آخرى أثوابها أو رموزها ودلالاتها للارتزاق الصرف بعيدا عن رساليتها؟ فهل يصح التعميم، أجدها مناسبة لكي أدعو الصحيفة الكريمة لوضع ضوابط أخلاقية" فقط" لإبداء الرأي أولا وللنشر ثانيا، هذا مع تقديري الكبير لها وللعاملين عليها...

صحيح أن فكرة الخاصة مقابل العامة التي تسكن ذهنية رجال الدين قد نحتت أولا من دوائر الإختصاص، الا أن المعنى أخذ لاحقا وحُمل في المخيال الديني معنى فوقانيا احتكاريا للمعرفة الدينية والموقع والاشراف !، ليس عند جميع رجال الدين حتما ولكن عند الاغلبية قطعا، مما يفترض إنسداد ممكنات المعرفة عند غيرهم ويؤدي الى شبه هرمية او وكالات حصرية للتعاطي مع الحرف الفقهي او الديني العام وهذا ما لا نوافق عليه بمقدار ما لا يسمح بالمشاعية غير المدشنة بممكنات البحث العام و آلياته

 

لا اعتقد أن هناك من يوافق على دخول شخص الى دائرة بحث بالمطلق من دون تمكنه من آليات وأبواب وأدوات البحث المذكور هي سنة عقلانية جمعية راسخة ومنطقية، إلا ان التمكن ليس حكرا على رجال الدين ابدا، كما لا يصح تضخم الشخصية الدينية وممارسة طبقيتها ونرجسيتها على أحد أبدا.

إن إفتراض إنحصارية ولادة الفهم الديني من اروقة الحوزات هو الذي يؤدي الى فوقانية معرفية وآحادية قطبية فوق كل من يقدم فهما دينيا من مكان آخر، هذا مع وحدة السياقات والمنطلقات ناهيك عن كيفية الرؤية والنظر" للمختلف" الذي ينظر ويُنظّر لنصوص لا ينتمي اليها أيديولوجيا أو دينيا أو مذهبيا يظهر ذلك جليا في نظرات المسلمين الى الاستشراق الذي اشتغل على حقولهم المعرفية حيث خلعوا عليه "نظرية المؤامرة"وسحبوا ذلك التقييم على كامل الجهد الاستشراقي الذي عمل في حقولنا المعرفيه بالرغم من الفتوحات الكبرى التي قدمها الاستشراق لإطاري المعرفة والثقافة العربية والاسلامية، لا يمكن أدلجة أهداف الاستشراق وتنميطها وأخذها حزمة واحدة، هناك الكثير منها ما لم يكن الا بأهداف معرفية صرفة ونبيلة.

أجد من المناسب جدا هنا الدعوة الى توحيد النظرة الاسلامية لرجل الدين واشكالياته وجدالياته، فلا يصح الحديث عن رجل دين شيعي او رجل دين سني بل عن رجل دين اسلامي وهذا لا يمكن ان يقوم الا بتوحيد الروافد المعرفية والتراثية والفقهية وجعلها مستندا واحدا بعرضه العريض كي يُشكل هذا الكل الضخم اساسيات المعرفة الدينية الاجتهادية بعيدا عن منطق الأنتي-آخر والإقصاء والتذويت والانحصار.

 متفق تماما مع فكرة ضرورة ترسيم حدود دور رجال الدين، دور بات جداليا وغير واضح، اشعر أن رجال الدين أنفسهم بنحو كبير يشعرون بمأزق الدور بلحاظات نظرات عقلانية تدرك الفجوة بين العقلين التاريخي والمعاصر وكيفية المواءمة والتوفيق بينهما، سؤال أدى الى إنشطارت بنيوية في الجسم العلمائي الديني وتمظهر بمظاهر وصلت الى حد التباين في طرائق مقاربة النصوص التاريخية وفضاءاتها والسياق المعاصر وتحدياته .

هناك من يظن الى الآن أن الرسائل العملية بإمكانها إدارة الدولة الحديثة، وهي رسائل لا تتعدى كونها بمثابة ميثاق للأحوال الشخصية مع نظرات جدالية أيضا، دون أن يعني ذلك الغاءها عن منصات وظائفها المعروفة والمطلوبة ...

هناك ثروة طائلة منتجة عن النصوص القرآنية في الدائرة الاسلامية الشاملة وهي نصوص الخمس والزكاة لا تزال تعمل وتنتج اموالا طائلة لا يمكننا حتى تصورها، يحق لكل انسان السؤال عن مصارفها لا الفقهية بل الخارجية، يحق السؤال عن أنظمة" الحواشي" وعن مجمل ما ينطبق عليه تحالف السلطة مع المال، هي أموال تُجبى بالمفرق كأنهار متعددة تصب في أمكنة متحدة أو محددة على الأصح...

لا بد لرجل الدين ان يراجع ايام الدول الدينية ويقرأ نصوص منظريها عن تجربتها وبالأخص تلك التي تتحدث عن الاصطدام الكبير بين بعض التراث الفقهي ومتطلبات اللحظة الراهنة للإجتماع السياسي والاقتصادي، يختلف الامر عندما توضع النظريات والمنتجات القديمة على محك وفوهة الاختبار الصارم الذي لا يقبل بأطلال أو توليف مقنع لعقل تاريخي فقط.

هناك من لا يزال يشتغل فكريا او تلقيا لزخات النصوص والافكار بإفتراض أن خلفية النصوص او لوحتها الزيتية مؤمّنة، أي" الدولة الدينية" ا ن النصوص الدينية لا دولة حاضرة وقائمة لها في الخارج "الشامل"، يجدر التفريق بين نص يراد اعماله في سياق دولة قائمة على اصولها ينتمي النص اليها وتنتمي اليه عن فضاء مختلف لا يتبنى فضاءات النص او ينتمي الى نداءاته فلا يمكن سلخ الاجتماع الديني عنه بحكم الاتصال الكبير والتداخل المكثف بين الناس، ولا يصح ولا ينبغي.هنا لا بد من قراءة النصوص في مناخاتها القيمية التي لا تتناقض مع البنية العامة للاجتماع المعاصر.لا يمكن اجترار فهم مُتخيل للنصوص يعمل على قاعدة الانتظار لدول متخيلة، بل العمل على المديات المشتركة بين قيم النصوص الدينية وفضاءات الدولة المدنية المعاصرة، وهنا يمكن لرجل الدين القيام بالكثير مما يمكن ان يفعله وهو ترشيد الاجتماع في دائرة القيم جزءا من منظومة ترشيدية أعم تقوم على التحصين للفضاء المشترك الذي يعيش المشترك في فضائه.

ان التجارب دلت على شيئين:

 

1-إمكانية مشاركة رجل الدين في السلطة كحد أعلى لأن التعددية الحقيقية لا الشكلية في المشاركة السياسية هي ضمانة العدالة في المجتمعات ذات المكون الديني على مستوى الهوية الثقافية للشعوب، ومشاركته تكفلها الديمقراطية كحق لا كحتمية.

2-ضرورة أن يعي رجل الدين انه ليس هناك تضاد بين المكتسبات الحديثة ونظم الدولة المدنية ومواثيقها في الخطوط العريضة كالحرية والعدالة وحقوق الانسان وووو...وبين مقاصد الدين العليا والإستراتيجية .

وبذلك يشترك رجل الدين مع غيره في تعضيد وصيانة المشترك العام بين الإجتماع الانساني على إختلاف مكوناته، من أجل أعلاء جبين الحياة والانسان وعلى قاعدة القيم الكبرى التي يندبها الجميع ويسعى اليها.

 

الشيخ جابر مسلماني

لبنان

 

 

خاص بالمثقف

للاطلاع: (استطلاع: ما هو دور رجل الدين في الدولة المدنية؟)

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :209 الأحد 22 / 01 / 2012)

 

 

في المثقف اليوم