آراء

ملف: المرجعية الدنيوية وإشكالية الدين والدنيا في العراق (1-2) / ميثم الجنابي

 فمن الناحية النظرية تتعدى ماهية المرجعية كل الأشكال الواقعية. وذلك لان حقيقة المرجعية مثال متسامي. وبالتالي لا يعني حصرها بالمؤسسة الدينية سوى تحجيم وتقييد مضمونها الحقيقي.

فحقيقة المرجعية، بالمعنى الفلسفي، تتطابق مع فكرة الاحتمال الواقعية والعقلانية. بمعنى أن الجوهري فيها للفكرة المجردة، أما تحقيقها العملي فهو نماذجها الملموسة. وهو الأمر الذي يعطي لنا إمكانية الحديث عن مرجعيات عديدة هي جزء من صيرورة الوعي النقدي والبحث عن البدائل، أي كل ما يتراكم في تجارب الأمم بوصفه مرجعيات متسامية. وهي الرؤية الوحيدة القادرة على تحرير الوعي من ثقل القيم والمفاهيم التقليدية باعتبارها بقايا قابلة للعيش وليس للإبداع. فالقيم والمفاهيم التقليدية تبقى، في أفضل الأحوال، جزء من بقايا البنية التقليدية للوعي والوجود الاجتماعي. ذلك يعني أنها تعيش في الأغلب بمعايير الزمن وليس التاريخ. وهي الحالة التي يمكن تحسس كل طابعها المأساوي في تاريخ العراق الحديث، الذي جعل من "البديل الديني" نفيا "للايدولوجيا العلمانية" (الدنيوية). وهو نفي مزيف، تماما بقدر زيف الأيديولوجية "العلمانية" للعراق الحديث.

إذ لم تكن "الإيديولوجية العلمانية" الأكثر انتشار وسيادة في تاريخ العراق الحديث سوى صيغ متناقضة في وحدتها للهامشية الاجتماعية والعرقية والمذهبية، أي لأشد أنواع الصيغ الإيديولوجية تخلفا وتخريبا، كما هو جلي على مثال الشيوعية والبعثية. فقد كانت الشيوعية والبعثية "العراقية" تعبيرا نموذجيا عن سيادة الحثالة والهامشية. وهو سر انحطاطهما المعرفي والأخلاقي والسياسي. وبالتالي لم تكن البدائل المصاغة بمعايير النفي المباشر سوى الصيغة المكملة لهما. وهو واقع جلي في صعود التيارات الأصولية الدينية المتنوعة، وبالأخص في نماذجها الطائفية. وهو صعود يبرهن بحد ذاتها على افتقاد تأسيسها لمعنى "المرجعية" من قيمتها ومعناها الحقيقي بوصفها مثالا متساميا. وهو الأمر الذي يجعل من إعادة النظر بإشكالية الديني والدنيوي في العراق، إحدى أهم القضايا النظرية والعملية التي يتوقف على كيفية حلها مهمة التأسيس الواقعي والعقلاني لمرحلة الانتقال صوب التحرر الفعلي للفرد والجماعة والمجتمع والفكر، أي كل ما يؤدي الى بناء الدولة والمجتمع والثقافة بوصفها منظومة الحرية الشاملة. وهي نتيجة تفترض بدورها تحليل خصوصيتها الباطنية، أي البحث في إشكالية الدين والسياسة بوصفها إشكالية التاريخ الثقافي والسياسي للعالم العربي والعراق بشكل خاص.

فإذا كانت الكلمة تاريخا، أصواتها ولسانها في الثقافة، فان كلمة التيار الإسلامي في العراق هي الأخرى صوت من أصوات الثقافة العربية الإسلامية ولسانها في العراق. لاسيما وانه التيار الذي يعكس في خصوصيته ظهور وتبلور أحد نماذج ما ادعوه بالظاهرة الإسلامية المعاصرة. والظاهرة الإسلامية ليست فرضية أيديولوجية مجردة، كما أنها ليست مجرد "تسييس" للإسلام. فالجدل الدائر حول ما يسمى "بتسييس" الإسلام هو من بقايا التحزب الأيديولوجي النابع من انعدام أو ضعف إدراكه للحقيقة القائلة، بان "الظاهرة الإسلامية" هي إحدى أهم واعقد الإشكاليات الثقافية السياسية بالنسبة للعالم الإسلامي. من هنا تنوعها وخصوصيتها.

فمن الناحية الظاهرية تبدو كما لو أنها مجرد إشكالية الدين والسياسة. بينما هي في الواقع إشكالية الوجود التاريخي والكينونة السياسية والثقافية "لعالم الإسلام". وذلك لان حصر هذه الإشكالية في ثنائية الدين والسياسة يعني قصر مضمونها التاريخي والثقافي إلى مجرد تكرار ونسخة باهتة لإشكالية الدولة والكنيسة، التي واجهها الغرب الأوربي وحلها بطريقته الخاصة. وهو حل ساهم في بناء الحضارة الأوربية (الغربية) المعاصرة وصروح القومية والمجتمع المدني والديمقراطيات الرأسمالية. أما في عالم الإسلام فان لها مقدماتها الخاصة. فقد ظهرت في بادئ الأمر كما لو أنها شكلا من أشكال التحدي، بعد أن تحسس العالم الإسلامي للمرة الأولى انهياره شبه التام أمام الغزو الأوربي. حينذاك بدأت تطفو إلى سطح وجوده الاجتماعي والسياسي ردود الفعل المتنوعة، التي جرى تصويرها بعبارات التحدي واليقظة والنهضة والانبعاث والثورة وغيرها. وهي أوصاف تعكس لحد ما بعض جوانب الظاهرة الإسلامية لا حقيقتها.

من هنا، فإن الاجتهادات النظرية المتنوعة في محاولاتها كشف علاقة الإسلام بالسياسة انطلاقا من تحسس هذه المواجهة أو التحدي للهجوم الأوربي الغربي تهدف في نهاية المطاف إلى بناء صرح تأويلي يؤيد أو يعارض هذه العلاقة لا إلى تأسيسها العلمي والعملي بمعايير الحاجة التاريخية والانتماء الثقافي. بينما ينبغي البحث عن جذور هذه الظاهرة في كيفية الانقطاع الذي حدث تاريخيا بين المرجعيات الثقافية والواقع المعاصر للإسلام في هذه المنطقة أو تلك. ومن هنا عالمية الظاهرة الإسلامية، باعتبارها بحثا عن المرجعيات الثقافية الذاتية.

وإذا كان تأثير الغرب الأوربي جليا وعميقا في إبراز الظاهرة الإسلامية إلى حيز المواجهة، فلأنها كانت تتراكم في الواقع باعتبارها جزء من تاريخ الثقافة الذاتية. وهو الأمر الذي يفسر سبب الزوال التدريجي والاندثار الهائل لكمية ونوعية التأثيرات الغربية الأوربية في العالم الإسلامي في مجرى القرنين التاسع عشر والعشرين، بعد أن استثارت فيه الظاهرة الإسلامية نفسها من سباتها الطويل تحت عروش الاستبداد. من هنا، فإن صعود الظاهرة الإسلامية نفسها لم يكن رد فعل على الهيمنة الأوربية (المادية والمعنوية)، بقدر ما كان رد فعل على النفس.

واتخذت هذه المركزية الإسلامية في مجرى تطور العالم الإسلامي صيغا وأبعادا سياسية متنوعة ومختلفة، عبّرت بمجموعها عن حوافز المواجهة والتحدي واستثارة الإرادة، أي كل ما كشف بمعايير السياسة والثقافة عن نزوع الإسلام للتعبير عن المصالح الجوهرية للعالم الإسلامي من خلال تحوله إلى "مشكاة" المواجهة الثقافية مع الغرب (الأوربي) آنذاك. فقد سعت المركزية الإسلامية، من الناحية التاريخية، إلى وضع أسس الرؤية النقدية تجاه التجربة الأوربية وتطبيقاتها السياسية والاجتماعية والأخلاقية في العالم الإسلامي، أي أنها أرست بصورة تدريجية معالم الوحدة الضرورية بين الوعي السياسي والاجتماعي المعاصر وبين تاريخ الأمم الإسلامية. وحاولت استعادة اللحمة المنفرطة بأثر الغزو الكولونيالي، بين التاريخ والوعي، بين الرؤية الواقعية ومرجعيات الثقافة الخاصة، بين البدائل ومصادر الوعي التاريخي والثقافي. ومن ثم إعادة ترتيب الأحجار الضرورية لبناء صرح التلقائية الفكرية في العلم والعمل. إلا انه كان صعبا عليها أن تتخذ في بادئ الأمر توجها سياسيا دينيا صرفا، لأنها لم تتحدد بآلية النظام الثقافي المستقل. فهي لا تشبه بشيء آلية الإبداع الثقافي الإسلامي في  عصور الخلافة المزدهرة، رغم الاستقلال النسبي للعالم الإسلامي، بما في ذلك في أواخر مرحلة لدولة العثمانية. لهذا عانت الحركة الأولى للتلقائية الثقافية الإسلامية من انفصام حاد عن مصادر وعيها التاريخي، ومن ضغط الثقافة الأوربية. مما كان يعّرضها على الدوام لعواصف التغيرات المفاجئة والطارئة. من هنا سرعة انحلال التراكم الفكري والروحي والاجتماعي الأولى في أواخر الدولة العثمانية الذي ساهم في بلورة تيارات سياسية وفكرية جديدة ونشطة مع سقوط السلطنة وتجزئة العالم الإسلامي بشكل عام والعربي بشكل خاص. ورافق ذلك شرذمة القوى الاجتماعية والفكرية والسياسية. وكسر هذا التحول المفاجئ والطارئ تقاليد الرؤية المتراكمة في غضون قرن من الزمن. مما أضطر الوعي الاجتماعي إلى أن يقع من جديد في نفس آلية ما أسميته بالحركة الأولى للتلقائية الثقافية الإسلامية، ولكن ضمن شروط جديدة تجسدت بسيادة الرؤية الدنيوية (العلمانية) وحركاتها السياسية (من ليبرالية وقومية واشتراكية وشيوعية وغيرها). وتعرض هذا التراكم بدوره في مرحلة النضال من اجل الاستقلال الوطني وما تبعها من الانقلابات العسكرية وصعود الدكتاتوريات الحزبية والفردية والعائلية والقبلية إلى كسر وهدم جديدين.

كشف هذا الانقطاع عن وجود هوة عميقة بين التاريخ الإسلامي وبين الواقع المعاصر، وعن غياب الرؤية العقلانية والثقافية، وبالأخص عند الحركات السياسية، تجاه الإشكاليات الواقعية الكبرى. غير أن هذا الانقطاع المفاجئ أدى أيضا إلى تعميق وترسيخ التوجه العام القائل بضرورة التأسيس الذاتي(الثقافي) للرؤية التاريخية تجاه الماضي والحاضر والمستقبل، باعتباره إحدى المرجعيات الفكرية الكبرى. وعليها أيضا ظهر التحسس الأولى لأهمية البديل الثقافي – السياسي. بمعنى تنامي براعم الرؤية التاريخية والسياسية عن ضرورة  التحّصن الثقافي، وما يترتب عليه من استقلالية حضارية في العالم المعاصر. وهو أمر جعل من التفعيل السياسي للإسلام جزءا من البحث عن البديل الشامل في حوار الحضارات وصراعاتها في العالم المعاصر.

لقد تحول الإسلام في تياراته المتنوعة واستقطابه المتنامي لمختلف القوى الفكرية والسياسية، إلى ميدان التحرير الثقافي للنفس. ومن ثم استعادة المركزية الثقافية الإسلامية على أسس جديدة قادرة في المدى القريب على إبداع نظما معقولة ومقبولة في العالم المعاصر. ذلك يعني، أننا نقف أمام إجماع خفي متراكم في الوعي الاجتماعي والسياسي المعاصر في العالم الإسلامي على ضرورة تأسيس نظم للحياة تستمد مرجعياتها الفكرية والروحية من التاريخ الثقافي للحضارة الإسلامية وأممها المتنوعة. ومن ثم تحول جهادها واجتهادها في مختلف الميادين إلى "قطب" روحي فعال في الصراع الحضاري، مع ما يترتب على ذلك بالضرورة من تفعيل سياسي لمكوناته الثقافية. فهي المرحلة الضرورية التي ينبغي أن تقطع أمم العالم الإسلامي ودوله أشواطها من اجل تكاملها المادي والروحي في نظم حكومية وسياسية وثقافية على المستوى القومي والإسلامي والعالمي.

غير أن هذا التكامل مرهون بخصوصية الظاهرة الإسلامية في هذا البلد أو ذاك. وهو الأمر الذي يدفع إلى الأمام هذا الجانب أو ذاك باعتباره القضية الجوهرية لما أسميته بأشواط التكامل المادي والروحي في نظم حكومية وسياسية وثقافية. ولا تشذ الظاهرة الإسلامية في العراق عن ذلك. إذ نقف الآن أمام ظاهرة الانتشار الواسع للدين والتدين والحركات الدينية الاجتماعية والسياسية. ويعبر هذا الانتشار أولا وقبل كل شيء عن طبيعة ومستوى الخلل المادي والمعنوي في العراق المعاصر. وذلك لان هذا الانتشار لم يكن جزء مكونا من أجزاء الصيرورة الروحية المعاصرة للعراق،  كما لم يكن عنصرا من عناصر التركيبة الروحية للمجتمع المدني. على العكس! لقد كان من حيث مقدماته ونوعه وأساليب فعله ردا على الانحطاط الشامل الذي أحدثته "دنيوية" التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية. إذ جسّدت هذه "الدنيوية" في ذروة انحطاطها الصيغة الأكثر غلوا للتدين المفتعل، كما هو جلي في بناء المساجد الفارعة الفارغة و"الصحوة الإيمانية" وكتابة القرآن بدم صدام وما شابه ذلك. وتعبر هذه المكونات عن عمق الخلل في الفكرة الدنيوية البعثية في العراق. من هنا خصوصية الانتشار الديني الجديد فيه. وبغضّ النظر عن تاريخه العريق، بما في ذلك بالنسبة لتشكيل الحركات الإسلامية السياسية (الشيعية خصوصا)، إلا انه أصبح جزء من تقاليد التوتاليتارية نفسها بسبب تراكم مكوناته الاجتماعية والنفسية ضمن معايير ومقاييس ونفسية الدكتاتورية الصدامية. بحيث جعلت من الإسلام والتدين وجهين لمعالم الانحطاط الشامل في العراق. من هنا لم يكن هذا التدين في الواقع أكثر من شعائر زائفة لنفوس خربة. وحالما جرى تأطيرها بمعايير ومقاييس السياسة، فانه لم يكن قادرا، بعد سقوط التوتاليتارية،على إنتاج شيء غير الطائفية السياسية. وهو إنتاج يعيد بعث الصدامية بغلاف إسلامي، كما نراه بوضوح في جعل الطائفية السياسية أساسا للسلوك السياسي، وفي تحويل الطائفية السياسية إلى أحد العناصر الجوهرية في "بناء" الدولة والمجتمع والثقافة.

وقد ورث التدين العراقي "الجديد" هذا الخلل الأكبر في مواقفه من كل مكونات وإشكاليات العراق المعاصر. ومصدر الخلل الأكبر هنا يقوم في ضعف البنية الاجتماعية وتخلفها المريع. فالحالة العراقية المعاصرة تتصف بنوع من التخلف المادي والمعنوي، بحيث يصعب أحيانا وصفها بمعايير العلم وذلك بسبب تداخل مكونات ليس من السهل فرزها وتصنيفها. إلا أنها تشكل بمجموعها حالة الانحطاط الشامل. فالانحطاط لا يعرف التمييز والتصنيف، لأنه يجر الأشياء جميعا إلى مستوى واحد من الهمجية. وهي حالة نعثر عليها في نوعية وكمية الإرهاصات الهائلة التي يعاني منها المجتمع والدولة في مجرى محاولاتهما تذليل عوائق الانتقال من التوتاليتارية إلى الديمقراطية. فهي حالة مزدوجة ومركبة ومعقدة. وذلك لأنها تفترض في آن واحد تذليل الماضي وتأسيس الحاضر واستشراف المستقبل. بينما تمثل القوى السياسية والاجتماعية السائد وتتمثل رحيق الانحطاط التوتاليتاري البعثي والدكتاتورية الصدامية. ولا يمكن فصل هذا الانحطاط عن طبيعة الخلل الهائل الذي حصل في كل من بنية الدولة والشرعية والديمقراطية والدنيوية (العلمانية). ووجد هذا الخلل انعكاسه المباشر وغير المباشر في تدمير خلايا المجتمع المدني. أما نتائجه الأولى فقد ظهرت بصورة جلية في فوز الحركة الدينية السياسية والقومية العرقية في الانتخابات الأولى في تاريخ العراق المعاصر.

فقد كانت تلك الانتخابات ونتائجها، من الناحية التاريخية، خطوة هائلة إلى الأمام في ميدان الحرية (السياسية والاجتماعية) ولكنها كانت خطوة هائلة أيضا إلى الخلف في ميدان العقلانية. وهو تناقض يعكس أولا وقبل كل شيء "مآثر" التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية، التي جعلت من العراق رمادا لا يؤدي نشره إلا إلى إعماء العيون وتشويه التنفس. وهي حالة ميزت نوعية وكيفية "الانتخاب" السياسي. أما النتائج الأولية له فإنها تشير إلى هزيمة القوى الديمقراطية والدنيوية والعقلانية. وهي هزيمة تعبر من وجهة نظر معاصرة المستقبل على عمق الانحطاط الشامل في العراق. كما تشير من الناحية الفعلية إلى انغلاق الأفق الديمقراطي الاجتماعي والدنيوي في ظل سيادة القوى الدينية السياسية والعرقية القومية. فكلاهما يصبان من حيث الجوهر في إعادة إنتاج الانحطاط التوتاليتاري.

إن سيادة الحركات الدينية السياسية هو بحد ذاته مؤشر على كمية ونوعية التخلف الاجتماعي والسياسي والثقافي للمجتمع. وهو مؤشر موضوعي أيضا. إذ نعثر فيه على ست مؤشرات عامة وهي:

    انتشار النزعة التقليدية،

    وسيطرة الذهنية الأسطورية،

    والجمود العقائدي،

    وانحطاط الحرية الفردية والاجتماعية،

    وسيادة نفسية العوام،

    والاستعداد الدائم للتجزئة المذهبية والفرق المنغلقة مع ما يترتب عليه من إمكانية الغلو والتطرف المذهبي في بداية الأمر ثم الطائفي لاحقا.

وهي صفات عامة، إلا أن ما يميزها في ظروف العراق الحالية هو ارتباطها بطبيعة النظام التوتاليتاري البعثي والدكتاتورية الصدامية، وكيفية سقوطها، وحالة الانتقال إلى الديمقراطية.

فقد جسدت التوتاليتارية البعثية الصدامية في العراق نموذجا خاصا ربما هو الأتفه في تاريخ التوتاليتاريات بأسرها. فقد كانت في ممارساتها تجسيدا لفقدان الحدود العقلانية في العلم والعمل، وفقدان الاعتدال العقلي – الأخلاقي، وخلل التوازن الداخلي، الذي وجد انعكاسه في سيادة الغلو والتطرف العملي. أما النتيجة فهي "تنظيم" دكتاتورية بلا حدود ولا قيود، "نظامها" الوحيد هو تقنين العنف والإرهاب. بحيث جعلت من "مشروعها" لبناء العراق عقدا أبديا لا علاقة له بالتاريخ والمجتمع، وتطاولت في "كفاحها" هذا إلى درجة بحيث لم تسمح بأي قدر من البدائل، بما في ذلك من جانب "الحزب" الذي تمثله. وأكملت ذلك بيقينها القاطع لكل احتمالات من جانب أي فرد وجماعة ومنطقة وطائفة وحزب وقومية، باختصار أنها وجدت في كل "احتمال" مهما صغر جريمة ومؤامرة وتخريبا للحق والحقيقة. مما جعلها تمارس أقسى أنواع القهر والإكراه. وأعطت لكل أفعالها المنافية للقانون والأعراف والأخلاق والحق والحقيقة صفة "الإرادة الثورية". مما افقدها تدريجيا من كل رادع عقلي وأخلاقي، بحيث دفع بها في نهاية المطاف إلى أن تلتهم نفسها بنفسها بعد إفراغ مستمر للمجتمع من كل قواه الحية. أما النتيجة فهي سيادة رؤية عقائدية لا علاقة لها بالمفهوم الحقيقي للسياسة بوصفها إدارة شئون الدولة استنادا إلى المجتمع وتنظيم قواه بما يخدم المصلحة العامة. وهي رؤية لا مكان فيها للثقافة بالمعنى الدقيق للكلمة. بعبارة أخرى، أنها أدت إلى واحدية عقائدية – سياسية بلا روح ثقافي. أما النتيجة فهي إنتاج مستمر للرخوية والرخويات في كل مكونات الدولة والمجتمع. مع ما ترتب عليه من بعث دائم للأشباح وتخريب شامل الأرواح. بحيث جرى إفراغ التاريخ من محتواه الواقعي. وبما أن جهلها بالتاريخ هو شرط وجودها التاريخي، لهذا عادة ما كانت تجعل من تغييب وعي الذات التاريخي سلاحها الفعال في مواجهة الحاضر والمستقبل. وفي هذه المواجهة تجرّب كل الصيغة الممكنة للجهل الذاتي لكي تقف في نهاية المطاف أمام نفس هاوية الانحطاط والسقوط المميز للتوتاليتاريات جميعا. باختصار أنها شكلت بحد ذاتها صرحا خاصا لثقافة التخريب الشامل والانحطاط التام. وهي حالة ومقدمة تاريخية خربة لا يمكنها أن تصنع قوى عقلانية. من هنا تعقيد الحالة المادية والمعنوية لمرحلة الانتقال إلى الديمقراطية في العراق. وهو تعقيد يتمثل في مجال وميدان صعود الحركات الدينية السياسية أيضا في خصوصية ما أسميته بالمؤشرات الست التي تشير إلى طبيعة ومستوى التخلف الاجتماعي والسياسي والثقافي للمجتمع.

إذ أننا نقف أمام انتشار واسع وعريض للنزعة التقليدية التي تمد الحركات الإسلامية السياسية المعاصرة في العراق برصيد اجتماعي ومعنوي. والقضية هنا ليست فقط في تحجر العلاقات الاجتماعية وضمور ديناميكيتها الفعلية، بل وبهيمنة الرؤية التقليدية في كل شيء. وهي حالة تميز رؤية وطبيعة الحركات الإسلامية السياسية المعاصرة في العراق من حيث غياب الإبداع في الفكر، واستفحال الجمود في الرؤية، ومحاربة التجديد ومناهضة المعاصرة. وتجد هذه المواقف "تنظيرها" الفكري في سيطرة الذهنية الأسطورية. الأمر الذي جعل من اجتهاد الحركات الإسلامية المعاصرة مجرد اجترار لنصوص القدماء و"اختلافاتهم" التي لا تتعدى في أغلبها أمورا زهيدة للغاية. من هنا سيادة النص المقدس في الفكر والعبودية المذهبية للكلمة والاستنطاق المتبجح والفارغ للعبارة الميتة. وهي حالة لا يمكنها أن تصنع غير الجمود العقائدي، بمعنى اضمحلال الرؤية العقلانية والنقدية تجاه النفس والتاريخ والحاضر والمستقبل. أما النتيجة فهي "العمل المنظم" لاستكمال تلاشي الحرية الفردية والاجتماعية، كما جرت وتجري في أحداث عديدة تفعل على تعميق الإرهاب المنظم ضد الحرية الفردية باسم الدين والأخلاق مع انتشار ظاهرة الفساد المرعب في مؤسسات الدولة و"الرؤساء" الجدد. وتعبر هذه النتائج وتتمثل في الوقت نفسه سيادة نفسية العوام المميزة للحركات الإسلامية السياسية المعاصرة في العراق. فهي حركات لم ترتق فيها حتى النخبة إلى مصاف الحد الوسط المقبول والمميز لهذه الكلمة.

بعبارة أخرى، أننا نقف أمام ظاهرة الانتشار الفاقع للحثالة الاجتماعية وتجييشها المستعر في خطاب لا عقلاني مهمته إعادة إنتاج العبودية المغلفة بقدسية الماضي، أي إعادة استعباد الفئات المهمشة (والعراق في اغلبه مهمش) بالشكل الذي يستعيض عن دكتاتورية البعث الصدامية بتسلط ديني مذهبي طائفي. وبهذا بصبح الانحطاط الديني والتدين المفتعل حلقات إضافية مكملة لحالة الانحطاط الشامل في العراق بوصفه الإرث المرئي والمستتر لبقايا التوتاليتارية والدكتاتورية. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار تاريخ الانحطاط العريق للإسلام في العراق، فان "تكاملهما" في ظروف الانتقال إلى الديمقراطية يقوم في الاستعداد الذاتي للنزوع صوب الطائفية. إذ يؤدي هذا النزوع في النتيجة إلا إلى التطرف والغلو.

إن تاريخ الإسلام لا يخلو من تطرف وغلو. لكنه كان يجري عموما بمعايير الرؤية الفكرية والاجتهاد العملي. ذلك يعني انه كان يسير في اتجاه مناهضة ما يراه خروجا على منطق الحق والعدل والإخلاص. فالتطرف والغلو في الثقافات الكبرى والأصيلة هي الخميرة الوجدانية التي تميز نشاط القوى الاجتماعية والسياسية التي لا تستطيع لسبب ما من الأسباب تجسيد نفسها بمشروع عملي عقلاني. من هنا دورها الإيجابي والفعال في رفد تيار الاعتدال العلمي والعملي بعناصر الشحنة الدائمة للاجتهاد. لكن الأمر يختلف عندما يصبح الغلو والتطرف الوجه الآخر للتخلف والانحطاط كما هو الحال في العراق. ففي هذه الحالة تصبح القوى التقليدية والمتخلفة حاملة لواء التحدي والتصدي والبدائل. بينما في مجموعها ليست إلا كمية الأفعال اللاعقلانية والبقاء بمعاييرها. أما النتيجة الحتمية لذلك فهو استفحال نفسية التقليد والجمود والعقائدية، ومن ثم التطرف والمغالاة في محاربة كل ما لا يستجيب لها.

وتميز هذه الحالة مرحلة الانتقال إلى الديمقراطية في العراق. إذ نقف أمام ظاهرة الصعود العنيف للحركات والتيارات والجماعات والفرق الإسلامية السياسية في ظل انعدام تاريخ اجتماعي سياسي خاص بها. إذ من الصعب الحديث عن تاريخها الفعلي. مما جعل من تاريخها مجرد احتمال وكمون. ولم تكن هذه الخصوصية الكبرى للظاهرة الإسلامية السياسية العراقية معزولة عن غياب التاريخ المدني والسياسي الاجتماعي في العراق في مجرى العقود الأربعة للتوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية.

فالحركات الدينية السياسية عموما، شأن اغلب الحركات السياسية الأخرى، تعاني من نقص هائل في إدراك وتحقيق المضمون الاجتماعي للسياسة، مع غياب شبه كامل للرؤية العقلانية وافتقاد فاضح للأبعاد الوطنية في الموقف من الإشكاليات والمشاكل الكبرى التي يعاني منها العراق حاليا. مما يدفع بها بالضرورة إلى التوجه صوب الانعزال المذهبي والطائفي. ويشكل هذا التدين المفتعل ذروته العملية. ولا يعني ذلك في الواقع سوى العمل بمعايير الرؤية التقليدية ومحاربة كل ما يمكنه أن يكون رصيدا للإسلام الثقافي. بمعنى انتشار وتوسع وتعمق الإسلام المذهبي، أي الإسلام غير الثقافي. ولا تؤدي هذه العملية في النهاية إلا إلى إعادة إنتاج الراديكالية السياسية، التي مثلت التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية نموذجها الدنيوي (العلماني). بمعنى تأديتها بالضرورة إلى تصنيع نفسية التطرف والغلو. كما لا تفعل هذه النفسية إلا على شحن الراديكالية الدينية العراقية بعناصر متزايدة من اللاعقلانية. مما يدفع بها بالضرورة إلى أن تتمثل مختلف نماذج الانغلاق الأيديولوجي والطريق المسدود. والنتيجة هي الخراب والتخريب الذاتي والدمار والاندثار.

***

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2011 الثلاثاء 24 / 01 / 2012)

 

 

 

في المثقف اليوم