آراء

شرارة "بو عزيزي"

كثيرون مثله تعرضوا للقهر ما يكفي لكي يستسلموا أو يأملوا أو يرضخوا، لكنه كان الإستثناء المعاكس للتيار، تيار الأكثرية التي بلا ظل، والشذوذ اللغوي المسكون بكل مفردات النفي وسط قواميس الإمتثال، وحده من كان بوسعه تحويل القهر إلى شرارة تشعل الواقع وتلهم ملايين المهمشين وتقلب أبجديات الطاعة والرضا والتملق المازوشي.

"بو عزيزي" هو عالم وحده، عالم من الظلال المزعجة. كينونة استثنائية رغم ما فيها من تفاصيل تشبه سواها. كان له أن يكون كالبقية، يتسول، يشحذ، يتلقى الفتات بطيب خاطر، أن يتعايش، أن يسلّي النفس بما تجود به الوعود وما تخبئه الأيام، كان له أن ينتظر كما لو كان بطلا في مسرحية "في انتظار غودو" لكاتب اليأس الأكبر صموئيل بيكيت، كان له أن يقنع، أن يتأس بأخلاقيات وأيديولوجيا العمل التي تحبك وتصاغ وتجدد دوريا ليجترها رفاق "بو عزيزي" ومن هم على شاكلته، لكنه آثر أن يحيل لحمه إلى قنبلة واسمه المهمل إلى علامة لقيامة قادمة.

لم يكن هذا الرجل كسواه، ربما كان في داخله شعور بأن هذه الروح النرجسية، الروح المتذمرة الساخطة والكبيرة هي أكبر من أن يحتويها جسد، وربما لأنه آمن بتعاليم اليأس دون أن يتعلمها، بحيث يجعل من هويته المشطوبة والمستبعدة إلى الهامش رمزا وعلامة ونصبا ونصا تأسيسيا ومربكا، ويحيل ذاته وروحه المنهكة إلى "سؤال" يقذفه بوجه هذا العالم الجاحد.

كأي نبتة مثمرة وسط بستان من اليأس سيظل بلا شك أيقونة ولحظة تؤسس لما بعدها. ما بعد "بو عزيزي" ليس كما قبله. ليس في تونس وحسب، ولكن على مستوى العالم العربي، بل في العالم كله. من نيويورك حتى أعرق مدينة في أوروبا، لم تكن أثينا لتصدق –ومن عساه أن يصدق- أنها ستأخذ دروسا من بربري صعلوك كهذا الـ "أبوعزيزي" ليس على طريقة المسيح المبشر بما سيأتي، ولكن على طريقة سدنة اليأس الأشد نسيانا وإهمالا: الاعتراض على الحياة بالحياة ذاتها.

كان يتلقى الأوامر، فصار هو ذاته وبكل كيانه أمرا.. كان يتلقى الصفعات والتنكيل والإهانات، فأحال جسده المثقوب بكل الجراحات إلى يافطة للإدانة، إلى حريق حقيقي، إلى صفعة كفيلة بأن تفزع وتهز الكيانات وكل عراقة استئثارية اخطبوطية، كان حطبا للمحارق فصار هو ذاته محرقة.

ليس كمثلك أحد يا "بو عزيزي"، والتاريخ يشبهك ولا يشبهك، يتحرك على إيقاع خصمك لكنه يخضع لك أيضا، كما لو كنت الجواب أو طبقة "السوبرانو" في السمفونية: صوت أوبرالي حاد يلتهم بقية الأصوات.. التاريخ فاتنة حسناء لا تمنح ذاتها إلا للمنتصر في معركة فروسية، التاريخ ملحمة للأوغاد والأبطال، للسوبرانو والصوت المنخفض، للانتصار واليأس، للزعيم الأوحد و"أنت".

الموتى لا يموتون، وكذلك "بو عزيزي". بأي كيفية نتذكر معجزته وسطوته الصادمة الملهمة الاستثنائية بكل ما تعني الكلمة من معنى؟

أواخر ديسمبر، مع ذكراه السنوية، يليق الاحتفاء به بالهروب إلى كتاب أو رواية من واقع تعس يحتفي بكل أوغاد العالم ولا يكترث به. أخذت "الشرارة" للكاتب الفرانكفوني الطاهر بنجلون، المعروف باشتغالاته على ثيمات الاغتراب والرحيل وكل ما يمت بصلة إلى العذاب الإنساني، "تلك العتمة الباهرة"، "الرحيل"، "حرودة"، وغيرها. والآن: "الشرارة"، أي شرارة "بو عزيزي" وما أشعلته من حرائق في المغرب والمشرق العربيين. قرأت الكتاب الذي كان عبارة عن فصول يخصصها لكل زعيم خلعه الربيع العربي، متوغلا في كل فصل داخل الرؤوس المتخشبة للزعماء، ليرسم لنا في المحصلة بانوراما يتمزج فيها التحليل الاجتماعي والسياسي بمنولوجيا سلطوية مستوحاة من سيكولوجيا جنون العظمة. إلا أن المنولوج السلطوي، المتعسف، الانتقائي بطبيعته، والمدان هنا، قد تبلس الروائي ذاته، بحيث أصبح متعسفا هو الآخر، فما إن يغادر تونس ومصر وليبيا حتى يقع في تخبط وإرباك، ممارسا أشد أنواع الخطابات خجلا وازدواجية، يصبح "البو عزيزي" على إثره رمزا ولغة وقيمة غير قابلة للتعميم: احتكارا عربيا أولا، ثم أفارقيا، لكي يتقلص أخيرا إلى أيقونة محض تونسية. وكأن القيم التي هي ذات طبيعة كوسمولوجية انسانية ليست هي القيم ما إن يتعلق الأمر بالأمكنة الأثيرة والمحببة إلى روح الأديب ومخيلته.

ولأن الاحتفاء يجب أن يكون بحجم المناسبة، رميت الكتاب جانبا وعدت لائذا بمفكر وأديب أكثر سخطا ونقمة، هو لغز قائم بذاته تماما كما هي شرارة "بو عزيزي". آلان باديو، الفيلسوف والمسرحي الفرنسي، الذي بوسعه اشباع اللحظة وتفسير الجسارة "البوعزيزية".

يخبرنا باديو أن الوجود أو التاريخ بنية وحدث، استمرارية وطفرات غير محسوبة، و لكن أيضا -ولكي نفهمه أكثر- يمكننا القول: ليس التاريخ سوى زعيم مألوف و"بوعزيزي" مباغت.

البنية عقل وسياسة موضوعية، أما الحدث فمباغتة، تمزيق للبنية برمتها، قلب كامل للصورة والعبث بها: البنية فوتغراف والحدث تشكيل.. إن الحدث الذي يمثله هنا "بو عزيزي" "اقتحام مفاجئ" وإبداع محض، تماما كما هو الحب الذي يرى فيه باديو "امكانية للمساعدة على ولادة العالم" وتفردا لا يتكرر.. "أن تحب هو ما لن تفعله مرتين"، تماما مثل شعلة "بو عزيزي"، لا تحترق مرتين.

في المثقف اليوم