آراء

حين سقطت شيماء الصباغ

nadeer almajed"ذهبت لتضع إكليلا من الزهور لشهداء 25 يناير، فالتحقت بهم.. على يد الشرطة".. تختصر هذه العبارة التي اختارها حزب التحالف الشعبي الاشتراكي المصري لنعي الناشطة وعضو الحزب الشهيدة "شيماء الصباغ" التي سقطت برصاص الشرطة في الاسكندرية، تختصر ما آلت وستؤول إليه الثورة في ذكراها الرابعة، فالمواجهة ليست بين خيار مدني وآخر أصولي، كما تدعي البروبجاندا الضخمة لما بات يعرف بالدولة العميقة، وإنما هي المواجهة ذاتها التي كانت وستظل بين خيارات الثورة والحرية وخيارات القمع والهيمنة، بين خيار أن تكون مصر هي مصر وأن تكون غيرها.

الصورة لا تخطئ وأن أخطأت الرصاصة. الصراع هنا بين طرفين لا ثالث لهما: شيماء الشهيدة والرصاص الغبي، هذه هي الحقيقة التي لا لبس فيها، إذ في زمن اليوتيوب تصعب الفبركة وتقل حظوظ الإعلام الموجه في احتكار الحدث والمتلقي. الحدث في نقاوته تجليه الصورة المتحركة والتي لا تستهلك الحدث وتمتصه إلا لكي تثبّته قبل أن تحيله إلى وثيقة إدانة لعبثية الهيمنة ووحشيتها وأخطائها.

الحدث واضح إذن، والصورة تشهد بما لا يحتمل الشك والتأويل: تظهر شيماء في مقدمة الاحتجاجات، إلى جانب اليافطة تحديدا، تحمل آمالها معها، تردد الشعارات وتهتف " عيش، حرية، عدالة اجتماعية، القصاص للشهداء" وفجأة، نسمع دوي الرصاص الغبي، الذي لا يخطئ إلا لكي تصيب الصورة وتعيد تفجير الحدث بكل طاقته الثورية عوض أن يكون مجرد ذكرى عابرة لثورة مجهضة.. تختلط أصوات الرصاص بالهتافات، تهتز الصورة قليلا، ثم يتفجر الحدث الملحمي: البطلة تتحول إلى شهيدة.

هكذا توثق الصورة حدثا تأسيسيا في ذكرى الحدث التأسيسي، حدث 25 يناير، الحدث "الطري" الذي لازال ساريا منذ 2011 وحتى العودة الغير ظافرة للعسكرتاريا ومنظومة المصالح الخانقة لأنفاس المصريين، قد يكون الحدث حدثا تصحيحيا ومربكا في آن، حدثا تصحيحا لمسار الثورة ولإرباك خارطة طريق تؤدي إلى كل الطرق والغايات والأزمنة إلا "روما الثورة" وأهداف الثورة وزمن الثورة. وقد تكون أيضا الأيقونة الجديدة التي ستدشن "25 يناير" جديد في الذكرى الرابعة، حدثا مفصليا قاطعا لخارطة الطريق الهادفة لتعزيز الاستقرار المزعوم، الكلمة المركزية في كل خطاب يميني، والتي تشكل دائما وأبدا وفي كل مكان، تحايلا لغويا ملطفا للقبضة الأمنية البوليسية.

الشهيدة سقطت وأسقطت معها خطابات الزيف، خطابات الاستئثار الهمجي للرصاص والهيمنة ووقاحات البرابجندا اليمينية التي لم تتعب يوما في تبرير كل ما هو مضاد للثورة، اليوم ومع استشهاد شيماء استعادت الذاكرة وهجها الثوري، وتحررت وإلى الأبد من كل أشكال النسيان والاختطاف.

بالتأكيد لن يكون يناير هذا العام كسابقه، ذلك أن القائدة اليوم فتاة ليست إخوانية ولا هي أصولية، والغبي وحده من سيضعها في قائمة إرهاب.. شيماء ناشطة يصعب إلصاق تهمة الإرهاب بها، وهنا بالضبط تكمن خطورتها، حيث بسقوطها تسقط شماعة الإرهاب، وهكذا لم يعد واردا توظيف هذه التهمة الفضفاضة والتي ألصقت يوما بنلسون مانديلا كما ألصقت بمقاتلي فيتنام والفدائيين الفلسطينيين، وها هي تستخدم اليوم لتشويه كل حراك حقيقي، هذا المشجب الذي تعلق عليه جرائم الاستبداد فضحته شيماء.

وإذ تسقط خطابات الزيف تسقط المؤامرة، قيل كثيرا أن الربيع العربي نتاج مؤامرة، والمقصود من ذلك بطبيعة الحال تأبيد وضعية الاستبداد كثابت يتعالى على التاريخ وأن المجتمعات العربية أقل من أن تنجز حدثا ثوريا، كأن الثورة والتغييروالحرية مفردات تحتل مكانها في كل لغات الدنيا إلا العربية، أو كأن الواقع العربي فردوس أرضي لا تضاهيه جمهورية أفلاطون أو مدينة الفارابي الفاضلة. اليوم وإذ يتكرر الحدث بكل زخمه الثوري، ومع حضور كل القوى الشبابية والثورية، الإسلامية والمدنية، تتأكد عفوية الحدث مثلما تتكشف عفونة الواقع وزيف هذا الخطاب التآمري، لكن هذا الحدث الدرامي المؤثر لسقوط الشهيدة جدير أيضا بكشف تلك الحقيقة المغيبة حتى الآن: لا تكمن المؤامرة في الحدث الثوري وإنما في هذا الخطاب التآمري نفسه.

وماذا بعد؟ للشهيدة شيماء زمنها الجديد، يناير جديد يخط مساره اليوم معمدا بدمها المعجون بعذابات المهمشين، تموت الشهيدة لتحي حدثا مغتصبا، إذ يعود يناير بكل شموخه لحاضنته الحقيقية، لوهجه الحلمي المؤجج للهذيان الخطير، يناير الفريد والذي عرف منذ 2011 بهوس التحول، يناير السعيد بذاكرته الثورية المعمدة بدم الشهيدة وبكل ما تحمله كلمة ثورة من قطيعة وولادة وكسر لكل أشكال الهيمنة، ذكورية كانت أو أصولية أو عسكرتارية.

في المثقف اليوم