آراء

الـغــرب وصـكـوك الغـفـران

hasan zayedيبدو أن الحضارة الغربية لم تتخلص بعد من فكرة صكوك الغفران، التي كانت تهيمن علي العقل الغربي قبيل عصر النهضة . فمن منح الصك غفر له ما تقدم من ذنبه، وما تأخر، وتمتع بالنعيم المقيم في أحضان هذه الحضارة. ومن لم يمنح الصك ظل ذنبه معلقاً في عنقه، مطروداً ومطارداً داخل التاريخ وخارجه، إلي يوم يبعثون. وليت الذنب ذنباً وفقاً لمعايير موضوعية استقرت في وجدان الحضارة منذ فجر الضمير الإنساني، وإنما الذنب هو ما تراه تلك الحضارة ذنباً، وفقاً لما تحب وترغب، ويحقق مصالحها العليا والسفلي، وليت ما تراه يثبت علي حال، وإنما يعتوره التغير والتبدل، بتغير وتبدل الزمان والمكان،ومن هنا تأتي الصعوبة في متابعة إرضاء سدنة هذه الحضارة. فهذه الحضارة تنطلق من منطلق أنها رجل الدين الممثل لكل القيم، ويمتلك وحده كل صكوك الغفران، ومن ثم يمتلك الحق في محاكمة الجميع وفقاً لمنظومة قيمه، ثم يمنح صكوك الغفران، والكل في نظره مدان حتي يحصل علي الصك، فإن حصل عليه فلابد أن يعمل جاهداً من أجل الحفاظ عليه . وقد قدمت هذه الحضارة نفسها للبشرية باعتبارها مصدراً للقيم الإنسانية، وحارساً أميناً عليها . قيم الحرية والإخاء والمساواة، وقيم الديمقراطية والتعددية السياسية والعدالة الإجتماعية . وقد قام فلاسفتها ومفكروها بالتنظير لهذه القيم، باعتنبارها قيم مطلقة لا تقبل القسمة، حتي يخيل لمن يقرأ لهم أن الجنة قد جيء بها علي الأرض بأيدي هؤلاء وفكرهم . فإذا بحثنا عن هذه القيم علي الأرض، وجدنا أن هذه الحضارة قد قامت علي امتصاص دماء شعوب الأرض، واستلاب خيراتها، ونهب ثرواتها، واستعباد أهلها فيما يعرف تاريخياً بالحقبة الإستعمارية ـ وهي حقبة لم تكن استعمارية، وإنما استخرابية ـ التي استحلوا فيها الحرمات بما فيها القتل والتدمير وسفك الدماء . وضاعت منظومة القيم المطلقة تحت سنابك الخيل، وجنازير المدرعات، وقعقعة السلاح . تجد ذلك واضحاً في اللصوصية الأمريكية التي قامت علي سرقة حضارة الهنود الحمر وإبادتها، والنهوض علي أنقاضها وجثامين أهلها . ويتكرر ذات المشهد في فلسطين، حيث يأتون بشعب بغير أرض هو الشعب اليهودي، ليحل محل شعب آخرهو الشعب الفلسطيني، وهو صاحب الأرض، وصدقت في حقهم مقولة : " أعطي من لا يملك، لمن لا يستحق " . وكي تظل حضارة الرجل الأبيض سائدة في الكون، أشعل الغرب حربين كونيتين، اختلطت فيهما وبهما أوراق اللعب، وجري تقسيم خريطة العالم من جديد بحسب مراكز النفوذ، وموازين القوي . إن الحضارة الغربية وإن كانت قد قادت البشرية في المجال التقني، إلا أنها قد سقطت سقوطاً مروعاً في المجال القيمي، فقد أصبحت حضارة منافقة ذات ضمير متعدد الأوجه، حضارة تمثل تجارة السلاح فيها العمود الفقري لاقتصادياتها، وتجارة السلاح هي تجارة الموت والخراب . وفي هذا الإطار تجدها تشعل الحروب هنا وهناك ترويجاً لبضاعتها في الأسواق . وقد تعرت هذه الحضارة وانكشفت عورتها، وبانت سوءتها في موقفها من شعب فلسطين، آخر شعوب الأرض رزوحاً تحت نير الإحتلال، وموقفها من ربيبتها المدللة اسرائيل التي تمارس إرهاب الدولة ليل نهار، معربدة في المنطقة ككلب عقور. لقد فرشت العالم كرقعة الشطرنج، وجلست تلعب بقطعه المتراصة، تحركها كيف تشاء، بما يخدم مصالحها، وأولوياتها، وعلي رأسها استمرار سيادة حضارة الرجل الأبيض . فها هي تضرب الإتحاد السوفيتي في أفغانستان علي أيدي الجماعات الإسلامية، وتكون النتيجة انهياره وتفتته إلي دويلات صغيرة لهذا السبب، إلي جانب عوامل أخري . وتوعز إلي صدام باحتلال الكويت، ثم تضربه، وتحاصره، وتجوعه علي مدار عقد من الزمان . ثم تغمض العين عن تنظيم القاعدة كي يضرب برجي التجارة لديها، فتكون تلك ذريعة لضرب أفغانستان / طالبان / القاعدة . ثم تعاود الإلتفات إلي العراق، فلا تبقي فيه حجراً علي حجر بدعوي السلاح النووي تارة، ومساندة القاعدة تارة أخري، وتركته نهباً للصراعات الطائفية، وضاعت الدولة في خضم قعقعات السلاح . وإبان ذلك أطلقت مشروعها عن الشرق الأوسط الكبير، مستهدفة تجزيء المجزأ، وتفتيت المفتت، بتحالفها مع تيار الإسلام السياسي، الذي أطلقت شرارة وجوده في بدايات القرن العشرين . فكانت ثورات الربيع العربي بنتائجها المعروفة . وقد أفلتت مصر من المحرقة الربيعية بالكاد، بفضل تضافر الجيش والشرطة والشعب، فأطلقوا عليها مارد الإرهاب من قمقمه، ثم يصدرون إليها مصطلحاتهم البالية، ويحاكمونها بها، دون مراعاة للظروف الموضوعية التي تمر بها البلاد . فهل إلي الخروج من شرنقة صكوك الغفران الغربية من سبيل ؟ .

 

حـــســــــن زايـــــــــد

في المثقف اليوم