آراء

أَمَرِيْكَا خَسِرَتْ العِرَاقَ .. والعِرَاقُ كَسَبَ إِيْرَانْ (2)

mohamadjawad sonbaفي الحلقة الأُولى من هذا الموضوع، استعرضتُ بايجاز مختصر، بعض الأَحداث التي صَنعتها أَمريكا، في عدد من شعوب العالم، خدمة لمصالحها التي لا تتحرج أَبداً من أَجل تحقيقها، وإِنّْ كان ذلك يتطلّْب تدّمير عدد من الشعوب. والشَّعب العراقي، كان أَحد تلك الشعوب، التي دمَّرها المستعمر الأَمريكيّ. والآن أَستأْنفُ مواصلةَ موضوع الحَلَقَة الأُولى فأَقول:

من أَجل الإِمعان في خلط الأَوراق في العراق، أَوكلت أَمريكا هذه المهمّة للإِرهاب العَربي والعَالمي، ليصبح العراق ساحته الكبرى في العالم. وظلَّ الموقف الأَمني في العراق مرتبكاً، بالرغم من جميع الجُهود السّياسيَّة والأَمنيَّة، التي بُذلت لاحتواء الإِرهاب. لكنّْ كلّ المساعي ذهبت سُدى، وكان أَكبر خرق أَمني واجهه الشَّعب العراقي وحكومته، سُقوط مدينة الموصل، بيد منظمة داعش الإِرهابيَّة بتاريخ 9/6/2014.

و إِزاء هذا الموقف الصَّعب، أَصدرت مرجعيَّة السيَّد السيستاني، فتوى الجهاد الكفائي بتاريخ 13/6/2014، فانخرط ثلاثة ملايين متطوِّعٍ، مُلبيّن نداء المرجعيَّة، مُلتحقين جنّباً الى جنّْبٍ، بصفوف القوّات المسلحة العراقيَّة، ليكونوا تحت تصرفها ويأْتمرون بأوامرها. وهؤلاء المتطوعين عُرفوا بعنوان قوّات(الحشّْد الشَّعبي).

و كانت باكورة هذا العمل الجماهيري الواسع، تحرير منطقة جُرف الصَّخر بتاريخ 24/10/2014. وبتاريخ 24/2/2015 حُرِّرَتْ محافظة ديالى بقيادة النائب هادي العامري. وفي 11/3/2015 بدأَت القوّات العراقيَّة ومعها قوَّات الحشّْد الشَّعبي، بتطّويق مدينة تكريت، بعدما حَرَّرت القُرى والقَصبات التابعة لمحافظة صلاح الدّين.

و لأَجل أَنّْ تكون أَمريكا صاحبة الموقف الأَقوى في العراق، بادرت لعقد مؤتمرات عالميّة، لمناهضة الإِرهاب، وشكّلت في 5/9/2014، قوّات من عدد من الدول، اسمتها (قوّات التّحالف الدّولي لمحاربة الإِرهاب). وبدأَت تصريحات المسؤولين الأَمريكان تتصاعد، بأَنَّ القضاء على داعش في سوريا والعراق، مهمّة صعبة تحتاج لعدّة سنوات من الحرّب، قدّ تصل الى ثلاثين سنة، وقدّ تبلغ تكّلُفة هذه الحرب (500) مليار دولار. إِنَّه كلام سماسرة الحروب ونَخَّاسيّْها، للمتاجرة بأَرواح وأَموال الشعوب. لكن الإِرادة الوطنيَّة العراقيَّة الصَّادقة، أَسقطت هذا الرِّهان بالمرّة. وظلَّ التَّحالف الذي أَسَّسته أَمريكا غير فاعل، في استئصال شأْفة الإِرهاب في العراق.

و عودةٌ الى الوراء، تذكِّرنا بأَنَّ أَمريكا لمّْ تَفِ بالتزاماتها، المبرمة مع العراق، بموجب الاتّفاقيَّة الأَمنيَّة الموقعة بين الجانبيّن، لتزويد العراق بما يحتاج من أَسلحة لمكافحة الإِرهاب. كما أَنَّ أَمريكا تلكأَت بتجهيز العراق بطائرات(أف-16)، بالرغم من تسديد العراق، لكامل ثمن هذا العقدّ في عام 2013. لكنَّ العراق لمّْ يستلم من هذه الصِّفقة، غير طائرة واحدة فقطّ، ولمّْ تدخل للخدمة لحدّ الآن، بسبب وجود بعض المشاكل الفنيّة.

إِنَّ أَمريكا عنّدما لاحظت، انتصارات القوَّات المسلَّحة العراقيَّة، بمساندة الحشّْد الشَّعبي، والمساعدات الإِيرانيَّة للقوَّات العراقيَّة، على مستوى التَّسليح والخبرة، شَعَرَتّْ أَنَّ حساباتها العسكريَّة، وتصوّراتها الاستراتيجيَّة، حول الوضع في العراق، كانت خاطئة. فإِنَّ أَمريكا طالما خطَّطت لستَّة أُمور في العراق، وهي تنّْتظر أَنّْ تحصل كلّها وتصبح واقعاً. وهذه الأُمور هي:

أولاً: أَنّْ تكون الحكومة العراقيّة الاتّحاديّة ضعيّفة. وأَنّْ تكون حكومات المحافظات وإِقليم كردستان، غير متوافقة مع الحكومة الاتّحاديّة، كخطوة استباقيّة تُهيء الظروف الاجتماعيّة سلَفاً، لتقسيم العراق مستقبلاً.

ثانياً: شَعّْبٌ مُمزقٌ تنهكه الخلافات السياسيّة والحرّب الطائفيّة.

ثالثاً: أَنّْ لا خيار أَمام العراق، غيّر التَّقسيم على أُسُس طائفيَّة وقوّْميَّة.

الرابع: أَنّْ يكون العراق ضمن المنَّظومة الأَمريكيَّة في منطقة الخليج.

الخامس: نظام الحكم في العراق يجبُ أَنّْ تقودَه القوى العلمانيَّة.

السادس: من مزايا الإِرهاب الحَسَنة في العراق (من وجهة نظر أَمريكيَّة)، إِنَّه سيُخَلِّف ملايين الأَيتام والأَرامل والمعوّقين والمُعوَزين ماديّاً. وهذا الحجم البشري من هذه المكونَّات، يساعد على انتشار الفساد الأَخلاقي في المجتمع العراقي. وبالنّتيجة فإِنَّ الإِرهاب في العراق، سيُنتج بيئة اجتماعيَّة مُتَفَسِّخة، تستطيع أَمريكا تشّْكيلها وفقَّ الرؤْية التي تلائم إِرادَتها.

الصَّدمة التي تلقتها أَمريكا (انتصارات القوّات العراقيّة بمساندة الحشّْد الشَّعبي والدَّعم الإِيرانيّ)، جعلت عدداً من المسؤولين الأَمريكان، يصرّحون أَمام وسائل الإِعلام، بصورة متكرّرة، بأَنَّهم قلقون على مستقبل السُنَّة في العراق. وفي ذلك إِطلاق إِشارة الى الأَنظمة العربيّة والمؤسّسات الإِعلاميّة، السائرتين في الفلك الأَمريكي، أَنّْ باشروا بطرح نغمة (الخوف على سنّة العراق من إِيران).

و فعلاً قد تمَّ ذلك، فقدّ صرَّح (سعود الفيصل) في المؤتمر الصّحفي، الذي عقده مع (جون كيري)، على هامش مؤتمر وزراء الخارجية العرب في 5/3/2015 حيث قال: (عبّرنا لكيري عن قلقنا من تدخل إِيران في سوريا ولبنان واليمن والعراق، موضحاً أَنَّ إِيران تستولي على العراق، وهي مُشجّعة للإِرهاب فيه. وإِنَّ أَمن الخليج، يبدأ بالحيلولة دون حصول إِيران على النَّووي).

و لأَجل تعزيز أَمن المنطقة، وإِعادة ترتيب الأَوراق لحفظ التَّوازن الأَمني، إِنعقدَ بتاريخ 13/3/ 2015، في مُنتجع (شَرم الشّيخ) بمصّر، مؤتمر بعنوان (مصر المستقبل). إِنَّ عنوان هذا المؤتمر، له الكثير من الدّلالات الأَمنيّة، خصوصاً إِذا عرفنا أَنَّ داعميه، هم أَمريكا ومحورها من دول الخليج، ودول عربيّة وغيّر عربيّة أَيضاً. فقَدّ تجسَّد الحضور الأَميريكيّ في هذا المؤتمر، بوزير الخارجية الأَميريكيّة(جون كيري)، والحضور السعودي بوجود وليّ عهد النّظام، والكويّت بحضور أَميرها، والبحرين بحضور ملك النظام، والامارات العربية بحضور نائب رئيس دولة نظام الامارات، وشخصيات أُخرى لها تأثير اقتصادي، في المنّْطقة والعالم. فقد صرَّح (إِبراهيم محلب) رئيس الوزراء المصري:

(تم الاتّفاق خلال مؤتمر دعم وتنمية الاقتصاد المصري، الذي عُقد بمدينة شرم الشيخ بلغت (60) مليار دولار، بالاضافة الى (12.5) مليار دولار دعم من دول الخليج).

و بالضّدّ من الموقف الدَّاعم لمصر، وقفتّ السعوديّة وعدد من دول الخليج، بمثابة رأْس الحرّبة لتدّمير العراق، عن طريق دعم الإِرهاب، بمختلف الصور والأَشكال داخل العراق.

أَمريكا خَسِرَتْ الشَّعب الإِيراني، لكثّرة المؤامرات التي حاكتها ضدّه، منذ سقوط نظام شاه إِيران في 1 شباط 1979. في بحّث منشور في عام 1998، لمركز الإِمارات للدّراسات والبحوث الاستراتيجيّة، يحمل عنوان (أَمن الخليج في القرن الواحد والعشرين)، جاء فيه:

(و من الاجراءآت الأمريكية التي فاقمت من شعور الايرانيين بعدم الأَمان، الدعوة التي أَطلقها (ثيون جنيجريتش)، رئيس مجلس النواب الأمريكي، لتخصيص (18) مليون دولار لميزانية الاستخبارات الأمريكية لكي توجه الى الأنشطة السرية (لزعزعة استقرار الحكومة الايرانية)، (وفقاً لما افترضه السيناتور (الفونسو داماتو) حول تنفيذ مقاطعة اقتصادية ثانوية لتشديد المقاطعة الاقتصادية الحالية ضد ايران، وهي بالفعل مقاطعة واسعة النطاق)، وكذلك لاستمرارية تجميد الأرصدة الايرانية في الولايات المتحدة الأمريكية، والوجود العسكري الأمريكي الضخم المشار اليه سلفاً، ومواصلة واشنطن الضغط بالحاح على حلفائها لايقاف تعاملاتهم الاقتصادية والسياسية مع ايران.)(المصدر المذكور اعلاه ص 118)(انتهى).

و على نفس منهج أَمريكا في تدّمير الشَّعب الإِيراني، فإِنَّ أَمريكا أَقدمت على تدّمير الشَّعب العراقي، وخَسِرَتْه هو الآخر أَيضاً، ويعود ذلك لجملة من الأَسباب منها: دعم أَمريكا لنظام (صدَّام) المقبور، الذي قهر الشَّعب العراقي، وأَدخله في حروب، لا ناقة له فيها ولا جمل. والنتيجة أَفضتْ الى حصار اقتصاديّ، دمَّر الشَّعب العراقي، وأَخيراً احتلال أَمريكا للعراق، وتدّمير بُنيته التَّحتيَّة. وآخر المؤامرات الأَميركيّة على الشَّعب العراقي، وليّس أَخيرها، كانت ادخال العراق في فوضى الإِرهاب مُنذ عقد من الزَّمن.

إِزاء كلّ تلك الخلفيّات المأْساويّة، التي مرَّ بها العراق، جرَّاء التآمر الأَميركيّ عليه، سواءً بصورة مباشرة او بالواسطة، أَصبح لزاماً عليّه أَنّْ يأْخذَ موقفاً حاسماً، ضدّ التَّسلّط الأَميركيّ، الذي لمّْ يدّْخر جهداً لجعل العراق، جزءً من النَّظريَّة الأَميركيّة (الفوضى الخلاّقة).

في الحَلَقَة الثَّالثة والأَخيرة من هذا الموضوع، سأَبحث فيها إِنّْ شاءَ اللهُ تَعالى، العوامل التي تجعل العراق، ينّْفُضُ يده من أَمريكا ووعودها، وإِنَّ مصلحته الوطنيّة، تَفرض بناء علاقة استراتيجيَّة مع الجارة إِيران، لوجود مجموعة من الأُسُس الاستراتيجيّة المشّتركة بيّْن البلدين، بموجبها يستطيع العراق، حفظ أَمنه وثرواته، وتحّقيق استقراره والحفاظ على وحدته الوطنيّة.

 

مُحَمَّد جَواد سُنبَه

كاتِبٌ وبَاحِثٌ عِرَاقي

 

في المثقف اليوم