آراء

أَمَرِيْكَا خَسِرَتْ العِرَاقَ .. والعِرَاقُ كَسَبَ إِيْرَانْ (3)

mohamadjawad sonbaفي الحَلَقَتيّْنِ السَّابقتيّْنِ من هذا المقال، قدَّمتُ إِيجازاً بمواقف الإِدارة الأَمريكيَّة، التي تمادت في إِهمال مطالب الشَّعب العراقي، لتحقيق الأَمن والاستقرار في بلاده. وتعاونها مع الإِرهاب العالمي، من أَجل تحقيق مكاسبها الاستراتيجيَّة في المنطقة. وأَستكملُ الموضوع في هذه الحَلَقَة موضِّحاً، بأَنَّ على العراق أَنّْ يأخذَ موقفاً سياسيّاً واستراتيجيّاً، ليصحِّحَ الخلل الذي وقع فيه، جرّاء الخضوع لسياسات الإِدارة الأَميركيَّة. ومن نافلة القول أّنّْ أَفتتحَ هذه الحَلَقَة، بالمُقتَبَس التّالي من كتاب (الصراعات الدولية المعاصرة/ د. عبد الخالق عبد الله):

(ففي حين أَنَّ صراع الشرق والغرب، صراع القوى النووية العظمى فيما بيّنها، فإِنَّ صراع الشمال والجنوب، هو صراع الضعفاء والفقراء ضد الأَقوياء والأَغنياء في العالم. أَيّ أَنَّ الصّراع بيّن الشمال والجنوب، يجسِّد نضال الشعوب المُضطهدة والمُستغلة والتابعة (و المُستَعمَرَة سابقاً)، ضدَّ الدُّول الاستعماريَّة والإِمبرياليَّة، التي كانت وما زالت، تنهب وتستغل ثروات وخيرات الشعوب، وتحاول فرض إِرادتها وهيّمنتها على العالم.)(انتهى).  

إِذَنّْ التَّخلص من الهيَّمنة الأَمريكيَّة على العراق، يتطلَّب التَّفكير بعقليَّة استراتيجيَّة، تضع في الحسبان افتراضيّْن هُما:

الأَوَّل؛ المضَارُّ التي تحصلُ للعراق، إِذا ما مَضى قُدُماً، بالاعتماد على أَمريكا ومحورها.

و الافتراض الثَّاني؛ المنافع الّتي تَعودُ عليه، جرَّاء تحيّْيد موقفه مع أَمريكا.

بالنِّسبة للجواب على الافتراض الأَوَّل؛ فإِنَّ الواقع العَمليّْ أَثبتَ، أَنّْ لا جَدوى تُرتَجى من بقاء العراق مُرتبطاً بأَمريكا.

و أَمَّا جواب الافتراض الثَّاني؛ فمن مصلحة الشَّعب العراقي، التَّعاون مع إِيرانَ، بعدما ذاقَ كأْسَ المرارة، على يَدِ السياسَة الأَمريكيَّة وحلفاء أَمريكا، من عرب وتُرك وغيرهم؟.

كما أَنَّ الافتراض الثَّاني، يقودُنا الى التَّفكير بمجموعة من العوامل، إِذا ما نظرنا إِليها بنظّْرة استراتيجيّة فاحصة شاملة، ستُولِّد عندنا مجموعة من القناعات، تُقدِّم لنا مفتاحَ الإِجابة على السؤال آنف الذِّكر. ويُمكنُ استعراض تلك العوامل باختصار شديد، كما يلي:

1. لا أَحد ينكر أَثر البعد العقائدي في بناء العلاقات الدُّولية. والعراق وإِيران يشتركان في بعد عقائدي واحد، هو الإِسلام المحمّدي الصَّحيح، وليّس (التَّأَسلم الوهابيّْ). والإِسلام الصَّحيح مشترك آيديولوجي، يحتضن المذاهب الإِسلاميَّة الخَمّْسة، على العكس من (التَّأَسلم الوهابيّ) الأُحادي النَّظرة، الذي لا يقبل إِلاَّ مَنْ يُؤمن بأَفكاره فقط، ويَنظُرُ الى المختلفين معه بأَنَّهم كفَرة.

لقدّْ قَدَّمَتْ القوَّات المُسلَّحة العراقيَّة، وقوَّات الحشّْد الشَّعبي، أَثناء معارك تحرير العديد من المناطق العراقية (ذات الصِّبغة السُنيَّة)، من براثن تنظيم داعش الاجرامي، أَروع الأمثلة لتأكيد الرُّوح الإِنسانيَّة، والوحدة الإِسلاميَّة والوطنيَّة المشتركة، بين أَبناء العراق النُّجباء.

و لا أُريد أَنّْ أَقفَ طويلاً عنّْد هذه النقطة، فقدّْ بَاتَ معروفاً عنّْد كلِّ العالم، أَنَّ أَبناءَ العراق الشِيّْعة، قدّْ حَمَلوا أَرواحهم على الأَكفِّ، لنُصّْرَةِ إِخوانهم السُنَّة، وتحرير مناطقهم في المحافظات السُنيَّة، من ظلم عصابات داعش. والجميع شَاهَدَ كيّْفَ أَنَّ أَبناءَ العراق الشِيّْعة، تعاملوا بأَخلاق الإِسلام، مع إِخوانهم السُنَّة، دون أَنّْ تَغرَّهم نشوَةَ الانتصار، بسلوكِ أَيّ سلوكٍ خاطئ. فأَبناء الشِيّْعة تعالَوا على جراحَاتهم، التي أَحدَثَتها مجّْزرة (سبايكر)، وعاملوا إِخوانهم السُنَّة، كما تعامل رسول الله (ص) مع النَّاس عندما فتحَ مكّة.

كما لا يَخفَى على أَحدٍّ، موقفُ أَبناءَ العراق الشِيّْعة، مع إِخوانهم أَبناءِ العراق السُنَّة، عنّْدما استَقبلوا العوائلَ السُنّْية النازحة من المناطق السُنيَّة، وآووهُم في مدينة كربلاء والنَّجف المقدَّستيْن، وفي الحلة والدِّيوانيَّة. وكيّف أَنَّهم فتحوا لهم بيُوتَهم وحسينياتهم لاستقبالهم فيها. لا بلّ أَكثر من ذلك، فقدّْ قامت إِدارات العتَبات العلويَّة والحُسينيَّة والعبَّاسيَّة، بفتح مدينة الزائرين في محافظة كربلاء المقدَّسة، وفتح فنادق مدن النجف وكربلاء، لاستقبال النَّازحين وإِيوائهم بكلّ احترام وتقّْدير. إِنَّ المُشترك العقائديّْ بيّن الشيّْعة والسُنَّة، كان الدَّافع وراء التغلُّب على تلك المُشكلة الإِنسانيَّة الكبيّْرة الطارئة.

و كذلك عنّْ طريق المشترك العقائدي، يُمكن إِقامة أَوثَق العلاقات بيّْن العراق وإِيرانَ، تحت مظلّة الإِسلام الكبيّْرة. فشيّْعة العراق وشيّْعة إِيرانَ، لا يوجد لديهما عائق فكّْري أو نفّْسي، من احتضان كلِّ أَبناء الإِسلام. بيّْنما العكس من ذلك، نجدُ أَنَّ دولَ المحور الوهابيّْ التَّكفيريّْ، لا تستطيع استقطاب أَتباع أَيّْ مذّْهبٍ، من المذَّاهب الإِسلاميَّة الخمّْسة. فالمحور الوهابيّ أُحادي الهويَّة، مثّْلما هو أُحاديّ البُعد العقائدي، ولا يقبل هذا الفكّر المُنحرف، سوى من يُؤمن بأَفكاره فقط.

(أَمّا التتابع الظاهري لآيديولوجيّات علمانيَّة، مثل الآيديولوجيَّة القوميَّة والآيديولوجيّات الاشتراكيَّة، فلم تكُنّْ سوى صورة مؤقتَّة، على السَّطح الظَّاهري للحدَث السِياسيّ، داخل العالم الإِسلامي، في حين أَنَّ الإِسلام كعقيّْدة دينيَّة، وكأَرضيَّة مقاومة فكريَّة، كان يشهدُ حالة تراكم طرديّْ، على الصَّعيد البُنيويّ والجوهريّ للأَحداث، ظَلَّ يتصاعدُ ضمن ظُهور الوَعيّْ الدِّينيّْ السِياسيّْ الجديد، منذُ نهايَة عقد السَّبعينيَّات، في حيّْن أَنَّ الآيديولوجيّْات العلمانيَّة الأُخرى، لَمّْ يكُنّْ وجودها بنيويَّاً وجوهريَّاً، داخل الحدَث السِياسيّ المعاصر في العالم الإِسلامي.)(العالم الإِسلامي في الاستراتيجيَّات المعاصرة/ د. علاء طاهر).

في الحَلَقَةِ الرَّابعةِ والأَخيرة من هذا المقال، سأُكمِلُ إِنّْ شاءَ اللهُ تعالى، مناقشةَ ما تبَقى مِنْ عواملَ أُخرى، تُقدِّمُ لنا عنّْد تَفهُمِها بعُمّْقٍ، رؤْيةً استراتيجيَّةً لاتِّخاذ قراراتٍ سياسيَّةٍ، تنقُلُ العراقَ الى وَضعٍ أَكثرَ مَنَعَةٍ وقوَّةٍ، مِنْ وضّْعهِ الحاليّْ، المُتَّسِمُ بالضَّعفِ والتَّفكُكِ والارتبَاكِ، بسبَبِ ارتبَاطِ سياسَتهِ العامَّةِ، بالفَلَكِ السياسيّْ الأَمريكيّْ. واللهُ سُبحانَهُ مِنْ وراءِ القَصّْد.  

في المثقف اليوم