آراء

قراءة في خلفية انتفاضة الشعب التونسي على نظام بن على

في هذا المقال نحن لا نتحدث بلسان حالنا وهذا حتى لا يساء فهمنا أو القول بأننا نتخذ موقفا معينا مما حدث في السنوات الأخيرة هنا وهناك في بعض البلدان العربية وإنما نحن هنا نتحدث بلسان حال الأحداث وإن كان المنطق والعقل ونحن هنا معهما ضد أي حراك وسمه ما شئتَ يؤدي إلى الدمار والخراب السوري أو إلى حالة الاقتتال اليمنى أو إلى حالة الدولة الفاشلة كما هو الأمر في الصومال أو إلى حالة الفوضى الليبية أو إلى مثال الدولة المأزومة كما هو حال تونس كما وأننا لنصاب بالرعب من مجرد التفكير في أن إحدى هذه الشرور قد تحل في يوم ما بوطننا الغالي الجزائر ويكفي لنا درس العشرية السوداء والذي لا نريد أن يُــبعثَ رماده من جديد ومن قعر الجحيم ليقذقنا فيها مرة ثانية . ولأن هناك من يدعي بأن ما تعيشه الجزائر اليوم من حراك ومن احتقان لا بد وأن تكون نتيجته مصادمة بين الشعب والحكومة في قادم الأيام وهو هنا يمارس التحريض على الفوضى ويؤجج الفتنة بين أبناء الوطن الواحد ورأيه هذا مرفوض جملة وتفصيلا وكان الأجدر بأصحاب هذا الكلام أن يعملوا جاهدين وقدر ما استطاعوا على إصلاح الوضع وتفكيك القنابل الموقوته والتي ولدت ما أصبح يعرف بالربيع العربي والذي تحول إلى كارثة في العديد من الدول العربية ولذا فإننا وفي هذا المقال سنعمل على عرض بعض النقاط التي نراها قد أدت إلى الخروج على نظام بن على في تونس ومنه سقوطه كنتيجة حتمية في الأخير وكل هذا لنتعلم من تجارب ومن إيجابيات ومن سلبيات غيرنا وبالتالي نتفادى سواء كنا شعوبا أو حكومات ما قرره الجنرال جياب من أننا قد لا نفهم الدرس إلا بعد تكراره مرتين لأن تكرار الدرس – الذي لا نريده أن يتكرر أصلا لأننا لسنا تلاميذ أغبياء كالاستعمار البائد – نقول لن تكون نتائجه حتما بردا وسلاما على أوطاننا ولأنه ليس من الحكمة أن نضعف جبهتنا الداخلية لصالح العدو الخارجي المتربص كما أنه من العبثية أن يتحول أبناء الوطن الواحد إلى أعداء .  

وبداية نقول بأنه ما من أحد منا لم تهزه أحداث تونس في العام 2010 فمنا من بقي كمن هو على رأسه الطير والبعض الآخر قال الكثير والكثير وإن لم يقل شيئا في حين أن البعض الآخر لم يستطع التعليق سواء كان هذا التعليق إيجابيا أم سلبيا وكل هذا لأن المفاجأة كانت كبيرة وكبيرة جدا وعلى الجميع إلى درجة كان من الصعوبة معها استيعاب سيل الأحداث وبسهولة وهذا من جراء حدوث اللامفكر فيه واللامتوقع على الأقل في تلك الفترة الزمنية . ولكن ومن بعد امتصاص عقولنا لارتدادات الصدمة الأولى كل واحد منا بدأ يحلل ما حدث وطبعا كل من زاوية يرى أنها المحرك الأساسي والأهم فيما حدث ولكن الكل يجمع على أن أسباب ذلك الزلزال تتمثل أولا وأخيرا في انعدام عنصر الحريات العامة والديمقراطية والقهر والظلم الاجتماعي والسياسي والثقافي هذا إضافة إلى لغة الخشب المتعالية والمنافقة والتي كانت تتعامل بها إدارة النظام السابق مع الشعب التونسي .

خلاصة لكل هذا يمكن القول بأنه يمكن إرجاع أسباب ما حدث وهذا من بعد حصر دوافعها في عبارة واحدة ألا وهي غياب المجتمع المفتوح بتعبير الفيلسوف كارل بوير والذي نصب الكثير والكثير من أعوان نظام بن على من أنفسهم أعداء له وإن تعددت مذاهبهم وأيديولوجياتهم وأهدافهم وغاياتهم وجمع بينهم حب الذات وتضخم الأنا القاتل والتعطش لتحقيق المصلحة الشخصية على حساب مصلحة الوطن والشعب وهي أمور كان يراها تسير على قدمين كل من زار تونس في سنوات حكم بن على وهنا لم تنفرد تونس لوحدها بتلك الصفات بل تتقاطع معها في هذا الأمر جل دول العالم الثالث .

كما أن الخطأ الفادح والضربة القاضية التي أسقطت نظام بن على هي محاولة هذا الأخير إلباس الشعب التونسي جلدا غير جلده وبالقوة ويتجلى هذا في العمل على فرض نموذج وطبعة شخصية وصادمة للعلمانية وبقوة الحديد والنار على الشعب التونسي – وإن كنا هنا لسنا ضد العلمانية وهذا ليس موضوعنا اليوم - ومن مظاهرها تحدى معتقدات الشعب التونسي وبشكل منفر ومستفز يغرس في النفوس بذور الحقد والثورة والنفور من نظامه . ووصل هذا التطرف إلى حد معاندة الشريعة والتطاول عليها وتجاوزها وهذا يذكرنا بنموذج تعامل أتا تورك معها في الماضي القريب وهي التي تمثل روح الشعب وهويته ومصدر توازنه ومن ذلك إباحة الإجهاض ومنع التعدد بقوة القانون وفي مقابل ذلك إباحة العلاقات غير الشرعية وتنميتها وهو من فتح بيوت الدعارة لمجموعة من بنات تونس وصنع من بعضهن ورغما عنهن عاهرات ؟ كنوع من صناعة الترفيه التي تضمن مداخيل قارة لخزينة الدولة ؟ . ونحن هنا لا نتخذ موقفا معينا من نظام بن على بل نحن نقوم بقراءة أسباب وخلفيات ما حدث لنتعلم من تلك التجربة ولو كان ما حدث قد وقع مع نظام آخر لكنا وجهنا قراءتنا إليه كما هو الحال فيمن يدرس فلسفة التاريخ وهذا حينما يرصد الظواهر لا الأشخاص وهذا لمعرفة القوانين التاريخية التي تتحكم في سير الأحداث فتكون له عونا على الأيام .

نعود ونقول بأن محاولة فرض هوية دخيلة على الشعب التونسي تخبرنا بأن أصحابها جهلة بالتاريخ فها هو المؤرخ الكبير أرنولد توينبي يخبرنا بأنه يمكن للفرد أو للأمة أن يتشكل كل منهما تشكلا كاذبا قد يمتد إلى آلاف السنين كما في حالة بلاد الشام والتي فرضت عليها الهلينستية لمدة تفوق الألف عام ولكنها رجعت إلى هويتها الحقيقية وهذا في أول فرصة سمحت لها بذلك . كما أنه تنبأ برجوع تركيا العلمانية إلى أصولها وجذورها التاريخية وهذا ما نراه اليوم يجري فيها وإن كان بصورة هادئة وناعمة وتدريجية . ولنا كذلك في عباس فرحات الزعيم الجزائري والذي حاول النظام الاستعماري تغيير هويته خير عبرة لنا ألم يبدأ حياته نافيا لوجود الأمة الجزائرية وانتهي بالاستعداد للموت في سبيلها وهذا ما كان لا يجب أن يغفله نظام بن على أو غيره من النظم الفردية المشابهة له .

كما أن فرض بن على لرؤيته قد خلق من حوله محيطا منافقا يقول ويعمل ما يُـرضيه هو ونظامه وهو مستعد للانقلاب عليه وتقديم الولاء لمن يخلفه طالما هو يحقق أهدافه وأن يحمل السكاكين لنحره تقربا من السادة الجدد ويضحي به تملقا لهم وهذا ما لاحظناه في تونس عندما أخرج الأتباع السابقون حرابهم ووجهوا سهامهم لنظام بن على كرشوة مفضوحة للمنتصر الجديد تماما كما فعل بعض الفرنسيين الذين صفقوا لحكومة فيشي الموالية للألمان أثناء الحرب العالمية الثانية ثم صفقوا من جديد ومرة ثانية لديغول المنتصر . إن مثل هؤلاء هم من أوصلوا بن على إلى الهاوية وإن نحن هنا لا نعفيه من المسؤولية لأنه ما كان ساذجا لتنطلي عليه حيل هؤلاء ولكنه الجهل من أعماه عن رؤية الحقيقة .

ولهذا لم يفرخ نظام بن على إلا أتباعا لا لون ولا طعم ولا رائحة لهم لأنهم من طينة من لسان حاله " إن الصلاة خلف على أسلم والأكل على طاولة معاوية أدسم " ومثل هؤلاء لا ثقة للأوطان فيهم ولا يمكن أن يكونوا أعمدة تبنى عليها الأوطان فالأخيرة بحاجة إلى من هم من جنس سقراط والمسيح وغاندي ومصطفي بن بولعيد والأمير عبد القادر الجزائري ماتوا لتعيش الأوطان ولم يكونوا مصاصي دماء ليضمنوا حياتهم هم والجحيم لشعوبهم . ألم يعلم نظام بن على بالمثل الذي يقول إن الحب الذي يبنى على الهدايا يبقى دوما جوعانا نعم إن بعض أتباع بن على ما كان همهم إلا التصفيق بقدر ما يضمن هذا الأخير تحقيق مصالحهم ولذا تخلوا عنه في أول اختبار تاريخي فما بالك بشرفاء تونس .

وإن هذا الجو لن يترك أمام الشعب من خيار إلا أن يساير الواقع حتى لا يتصادم مع السلطة أو أن ينسحب من الحياة العامة ويعيش أسلوب حياة الفرد المتوحد كما يخبرنا بذلك ابن الصائغ في كتابه الشهير تدبير المتوحد . وفي هذا إهدار للطاقات البشرية والتي من الأجدر أن يستفيد منها المجتمع ولكن هذا هو حال الديكتاتور فهو لا يحب إلا أن يرى ظله وأفضل أفراد شعبه من كان ميتا .

كما يخلق هذا المناخ النفاق الاقتصادي وهو أن يمارس بعض التجار المتملقون التجارة التي يريدها الحاكم لا حبا فيه ولا اقتناع بفكره وتوجهه وإنما الرغبة في الربح ولو تدمر المجتمع وهذا ما فعله بعض تجار إيران في عهد الشاه وليذهب الشاه والدين والوطن إلى الجحيم المهم مصالحهم هم وهم على استعداد لتغيير نشاطهم رغبة في الربح مع كل حاكم جديد وقس على هذا بعض الشعراء والمثقفين يفعلون نفس الأمر ومعهم بعض الساسة ورجال الدين وهكذا أمر كل واحد منهم في مجاله وهذا هو النفاق الذي يدمر الدولة والمجتمع وعلى الدول شعوبا وحكومات التفطن له والحذر منه . وهذا هو السر وراء الحداثة المهلهلة والرثة بتعبير برهان غليون والتي أوجدها هؤلاء الحكام في دول العالم الثالث .

نعود ونقول بأن التاريخ يخبرنا بأن محاولة فرض نموذج معين بالقوة لا يصلح أبدا فها هي إسبانيا عهد محاكم التفتيش فرضت التنصير وبالقوة على المورسكيين ولكنهم جابهوها بالثورة أي نعم صحيح لقد فشلت ثوراتهم تلك لأن اللحظة التاريخية لم تكن لحظتهم ولكن على المدى البعيد فشلت محاكم التفتيش في أن تكون جزء أصيلا من المجتمع الإسباني ومن مكونات هويته الأساسية وها هي اليوم تلك الحقبة من تاريخها تسمى بعار إسبانيا . ثم ها هي المنطقة الأندلسية تستعيد هويتها التاريخية وإن كان هذا يتم بصورة تدريجية . كما أن المسيحية والتي قد فـُرضت فرضا على الشعوب من قبل البابوية ها هي اليوم منهزمة ذليلة أمام العقل . نعم هي لم تنهزم عسكريا ولكنها دحرت فكريا وأفلست عقائديا وهذا لكونها استعملت شعارات مثل أجبروهم على الدخول كما جاء في الأناجيل ثم في فتاوى مختلف الباباوات المميتة وهذه هي السياسة التي انتهجها نظام بن على في تونس وهذا على عكس الإسلام الذي لم تخلعه أمة دانت به لأن شعاره الأول والأخير كان ولا يزال الحرية والحرية فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ألم يكن نظام بن على والنظم العربية التي هي على شاكلته اليوم على علم بكل هذا ؟ . أما كان الأولى بها أن تمنح شعوبها الحرية وأن تسمع لها وأن تتشارك معها لأن ما يجمعهما مجرد عقد اجتماعي يحق لأي طرف منها الانسحاب منه طالما أخل أحدهما بشروط ذلك العقد وهذا قبل أن يأتي الطوفان ؟ ؟.

ألم يمر نظام بن على المثل القديم والقائل " بأنك تستطيع أن تأخذ الحصان إلى النهر ولكنك لا تستطيع أن ترغمه على أن يشرب منه " وهذا هو بالضبط ما يريده حكام العالم الثالث أن تشرب شعوبهم من النبع الذي يختارونه هم لها . وهنا نصل إلى القول من أنه لا ولا يمكن لأي أحد من أن يغير هوية شعب ما ما لم يكن هو يريد ذلك فها هو ابن بطوطة قد حاول مثلا أن يقنع زوجته المنتمية إلى جزر المالديف بأن تغطي بطنها وصدرها ولكنه فشل لأن هذا ما كانت تعتقده هي وعلى العكس من هذا هو ما حاول فعله مثلا نظام بن على وهو الذي عمل على تعرية المرأة التونسية بالقوة ولكن النهاية كانت مأساوية بسقوطه وسقوط ما كان يؤمن به من أفكار كانت في نظره صحيحة إذن القضية ليست ما تريد أنت بل ما نريد نحن يقول لسان حال الشارع التونسي والعربي ولأن كليهما قد راهن على عنصر الوقت والذي أثبت أنه يعمل لصالح الشعوب والمعارضة وهذا من بعد أن أفلست النظم الحاكمة ومشاريعها التنموية وذلك بفشل الدولة القطرية الحديثة .

وفي ظل مناخ الفرض هذا لا يحيط بعض الحكام العرب أنفسهم إلا بالمنافقين والمخادعين والدجالين والمشعوذين والوصوليين والانتهازيين والذين يعرفون جيدا من أين تؤكل الكتف فيسمعونهم ما يريدون هم أن يسمع فيتملقونهم وينفخون فيهم إلى درجة يتوهموا أن كا واحد منهم هو وحيد عصره وجنسه وكل هذا لتحقيق مآرب شخصية ظرفية وعندما يجد الجد يقلبون له ظهر المجن ويبحثون عن سلم جديد يرتقونه ويحافظون به على مكاسبهم التي حققوها بواسطة السطو على حقوق الشعب سابقا ولعل ما حدث لبن على لخير شاهد على هذا . ومن جهة أخرى فإنهم يبعدون كل شريف عن مجلسهم ويسمعون فقط لمن هم على شاكلة وعاظ السلاطين نعم قد يكون قول الشرفاء والحكماء قاسي ولكنه الدواء المر والضروري للبقاء .

كما وأن انعدام العدالة الاجتماعية يخلق أعداء حقيقيين ومتخفين للدولة وللمجتمع ، جيشا ناقما ومستعدا للانقضاض في أية لحظة على الدولة وعلى من يمثلونها وهذا لا يخدم حتى من هم في السلطة لأن إضعاف الدولة سيدمرهم هم كذلك وهو سيخلق مجتمعا ضعيفا يدمر الدولة بدل أن يكون عونا لها لأن قوة الأخيرة هي من قوة أبنائها وضعفها من ضعفهم أي الشرفاء والحكماء أليست قوة الأندلس وخلودها في الزمن من قوة ابن طفيل وابن رشد وابن زيدون والمجريطي وابن الصائغ وضعفها من ضعفهم . أليست قوة وثروة أوروبا اليوم من قوة شعبها المبدع والخلاق من قوة هاري بوتر ورونو وشكسبير وديغول وتشرشل وشبنجلر وميشال فوكو .

ولا أحد منا ينكر على بن على ونظامه محاولتهما وسعيهما الجاد إلى تحديث تونس واستلهام فكر الحداثة لبناء دولة تونس المستقلة ونحن كلنا مع الحداثة الغربية ومع ما جاء به عصر الأنوار وهي خطوة تحسب له ويشكر عليها ولكن الكل يعيب على بن على ونظامه استلهام الحداثة في طبعتها المفلسة أوروبيا وعالميا والتي قد تجاوزها الزمن كما تجاوز الكثير من مسلمات عصر الاستنارة والتي تشبث بها نظام بن على والتي هي قشور للحداثة ولا علاقة لها بروحها وجوهرها ولعل هذا النظام قد كان جاهلا بما كتبه فوكو وهيدجر وهابرماس فيما يخص فكر الحداثة وما بعدها . وهنا نقول بأن نظام بن على لو كان عمل بما كتب هؤلاء لكان قد صحح مساره - وهذا ما يجب أن تفعله الحكومات العربية اليوم والتي تتشارك وتتقاطع مع نظام بن على السابق في بعض المسائل والتوجهات - ولما كان قد انتهي نهاية فضائحية ولكان تعلم حتى لا يسقط فيما سقط فيه غيره من الحماقات ولكان تجنب ذلك المصير المؤلم .

و النظم الأكثر استبدادا لم تقرأ الواقع العالمي جيدا فالعالم ومنذ زمن طويل يتجه صوب نموذج واحد لكي يكون مشتركا كونيا في حين بقيت هذه النظم تريد أن تحكم وفق آليات تجاوزها الزمن وواقع الحال ولم تتعامل مع المعطيات الجديدة إلا بأسلوب القمع والعصا والترويع وفي مقابل هذا لم تقدم هي بديلا إيجابيا نظير تعاطيها السلبي مع النموذج العالمي البراق والمغري لمن هم يعيشون زمنيا في القرن 21 وواقعا في زمن ستالين وبالتالي كان هناك تناقض بين القمة والقاعدة كان يجب أن يحسم لأحد الطرفين آجلا أو عاجلا كما حدث في تونس .

وهنا يتساءل البعض من أين لبعض حكام العالم الثالث ولمن يحيطون بهم من الفاسدين والانتهازيين والوصوليين وهنا نقول البعض وليس كل المحيطين بهؤلاء الحكام علما بأن النفاق الاجتماعي والسياسي معروف وهذا منذ أن وُجد الإنسان وسيبقى معه إلى أن يفنى وفي عهد الرسول الكريم ص كان عدد كبيرا ممن يدعون إتباعه من المنافقين نعود ونقول من أين لهؤلاء أن يفهموا سيكولوجية الشعوب حتى يحكموا ويترأسوا ؟ ترى هل قرؤوا تاريخ تطور الفكر السياسي من ميكيافلي وروسو وإلى اليوم أم تراهم فئة تحاكي الاستعمار في أساليب حكمه للشعوب خارج إطار الزمان والمكان ولهذا سقط هو ثم سقطوا هم من بعده وهذا لكونهم استمرار لمشاريعه الاستعمارية والتي حاول بها دمج هذه الشعوب في بوتقته وبالتالي كان حتما أن تثور عليها الشعوب لأنها تريد استكمال استقلالها السياسي والثقافي والاقتصادي والاجتماعي تريد أن تجد لنفسها مكانا تحت الشمس لا أن تكون خادما وتابعا للاستعمار وبقاياه وأن تمارس مواطنة حقيقية لا مواطنة مزيفة . تريد أن تتخلص من التخصص الدولي للعمل الذي فرضه الاستعمار عليها فرضا لتبنى اقتصادا حديثا بها ولها تريد أن تخرج من هوامش منظومة المركزية الأوروبية البائدة .

كما أن بعض نظم الحكم في العالم الثالث قد نسوا أن الديمقراطية وحقوق الإنسان كالمعطف تصلح لجميع شعوب العالم فليس من المنطق أن تحكم اليوم بأساليب العصور الوسطى وإلا سنكون كمن يغرد خارج السرب والعصر ومن يمارس هذا فقد حفر قبره بنفسه خاصة إذا ما نشروا التعليم بين أبناء شعوبهم فأساتذة الجامعات والطبقة المثقفة العصامية الكل يواكب الأحداث ومجريات الأمور جيدا في الغرب وفي العالم الحر ككل وهذا ما حاول الاستعمار نهجه من خلال تجهيل الشعوب المحتلة ولكن نجد أن تعلم نخبة قليلة منها كان كافيا لإسقاط النظام الاستعماري البغيض فما بالك حينما يتعلم شعب بأكمله وهنا ننصح الحكومات المستبدة برأيها عربية وغير عربية ونقول لها بأن شعوبها لم تعد قاصرة حتى ينوبوا عنها وأن يتجاوزوها وأن يحاولوا التفكير في مكانها فهذا الأسلوب في الحكم هو أسلوب بائد وعقيم تجاوزه الزمن وهو من مخلفات نظام ستالين والغير مأسوف عليه فمن منا اليوم لم يسمع بروسو والعقد الاجتماعي وفكتور هيجو ومن منا لم يقرأ جورج طرابيشي ومحمد أركون من منا لم يقرأ سارتر وشبنجلر ومالك بن نبي ؟ ؟ ألم يدرك الحكام العرب بعد أن القاطرة التي تقود المجتمع هي قاطرة المثقفين ولكن قيادتها تكون بصورة خفية . و الخطأ الكبير والقاتل هنا لنظام بن على وأمثاله من النظم الحاكمة هو في معاداة الأقلام أما قالها نابليون بونابرت من أن مَـلـَكية آل البربون لو عرفتْ كيف تتحكم في الأقلام لما سقطت ولهذا كان يجب على نظام بن على أن يطبع علاقاته مع المفكرين الحقيقيين ومع المثقفين الأصلاء وليس مع التافهين والمنافقين والدعار دعارة فكرية وأدبية والمتطفلين على الثقافة وعلى الفكر ممن شعارهم الأكل على مائدة معاوية أدسم والصلاة خلف على أسلم كما مر أعلاه .

ترى ألم يقرأ حكام العالم الثالث ما جاء في الإنجيل من أن الإنسان لا يحي بالخبز وحده ألم يقرءوا أن الفرنسيين ثاروا على ديغول في العام 1968 لا لأجل الخبز وإنما لأجل الحرية والحريات ؟ . ألم يكن نظام بن على قادرا على تصحيح مساره وتجديد ذاته وتجاوز أخطائه ولكنه لم يفعل هذا جهلا أو تجاهلا فكانت النتيجة أن تجاوزه الزمن وإن لم تتعلم الأنظمة التي لا زالت قائمة فسوف تقضي عليها ثورات ولكن هذه المرة ستكون المطالب اجتماعية لا سياسية وخاصة مطلب العدالة الاجتماعية المغيبة عمدا في وطننا العربي .

كما وأن بعض الحكام في العالم الثالث عموما قد تحولوا إلى محتل بدل المحتل السابق وتقمصوا هويته وجلسوا مكانه وتسلموا منه العصا والسيف والسكين والزنازين وأصبحوا يحكمون بتفويض منه وهذا ما تفطنت له الشعوب في العالم الثالث عموما وأصبحت تتطلع إلى التخلص منه .

ومنه نقول بأن التداول في الحياة هي سنة كونية سواء كان هذا التداول في علم الأحياء أو علم الفيزياء ونحن هنا لا ننطلق من منطلق ديني وإنما هي القراءة المنطقية لصيرورة الحياة على سطح كوكبنا هي من تشهد لهذا الحكم . ولكن بعض الحكام في العالم الثالث قد تضخم أناهم الفردي لدرجة لم يعدوا يرون سوى ذاتهم وهم هنا يدمرون الوطن والحياة من حيث لا يعلمون فمثلا كلنا يعلم أن القيادة هي فن قبل أن تكون علم فأنت تستطيع أن تدرس القيادة ولكن ليس بالضرورة أن تصبح قائدا ناجحا فالكاريزما هبة من الطبيعة قبل أن تكون طابع مصنع ومعلب . وهذا يقودنا إلى محاولة بعض الحكام العرب توريث السلطة لأبنائهم وهم أول من يعلموا بأنهم لا يصلحون لها أبدا فما من ميزة لهم إلا أنهم أبناء للرئيس وما كان هذا أبدا بالمعيار الحقيقي لاختيار حاكم أمة وشعب ما . ولو أنه – ابن الرئيس - ينزع عن نفسه هذه الصفة فهو لن يتجاوز أبسط بسطاء البلد فما بالك بنخبة المجتمع ؟ وبعض الحكام العرب هنا هم يذكروننا بنموذج حكم آل البربون في فرنسا هذه الأسرة التي كان نابليون بونابرت الشاب ينظر إليها بإعجاب سرعان ما انهار لما وصل إلى السلطة وتكشفت له حقيقة الأمور فما هم إلا مجموعة من الأفراد التافهين يتخفون وراء أرستقراطية زائفة كما قال .

ولما لا نتعلم من التاريخ فالحكم العثماني في الجزائر قد مارس نفس الأسلوب في توريث الحكم لفئته فقط فكانت النتيجة ضعف الدولة الجزائرية وانهيارها في الأخير لأن هذا النظام أصبح ينتج حكاما ضعافا تماما مثلما ينتج زواج الأقارب سلالات هزيلة وضعيفة مصيرها القبر لأنها لا تستطيع الصمود أمام ظاهرة الانتقاء والانتخاب الطبيعي . أما يعلم هؤلاء أن المواهب لا تورث فهل يا ترى تمكن سقراط أو أفلاطون أو أرسطو أو ابن رشد أو ابن خلدون من توريث عبقريتهم لأبنائهم بالرغم من أن نفس الجينات الوراثية تسري فيهم ؟ ترى هل استطاع الإسكندر الأكبر ويوليوس قيصر وخالد بن الوليد توريث عبقريتهم العسكرية لأبنائهم ؟ ترى هل استطاع معاوية بن أبي سفيان توريث حنكته السياسية لأبنائه ؟ وقس على هذا مختلف مناحي الحياة الأخرى . إن الأفراد مثل بصمات الأصابع كل طبعته تختلف عن الآخر ولا مجال للتطابق بينهما . وهذا هو سر العبقرية وسر المسؤولية مدنية كانت أو لاهوتية . وإن كنا هنا لا ننكر حقوق أبناء الحكام في العالم الثالث ولكن أن تكون حقوق مكتسبة عن طريق المنافسة المشروعة مع باقي أفراد الشعب وليتسابق المتسابقون والبقاء للأفضل وللأصلح - كما هو الحال في الدولة المدنية في الغرب اليوم والتي نتمنى تجسيدها بعالمنا العربي بدل مشروع الدولة الدينية المرعبة والمخيفة لنا لأنها دولة استبداد بعنوان براق ومراهق فقط – نعود ونقول بأنهم مواطنون لهم الحق ككل المواطنين في أن يحكموا بلدانهم ولكن وفق قوانين ودساتير بلدانهم وليس وفق أهوائهم هم .

ترى ألم ينبع داوود ملك بني إسرائيل من عامة الشعب ؟ وكذلك شأن المنصور بن أبي عامر بالأندلس ونابليون بونابرت ابن الكوسيكي البسيط . ألم يبدع خير الدين التونسي صاحب الأصول المتواضعة أما وصل إلى منصب الصدر الأعظم بمواهبه الشخصية لا بتزكية وتوصية من هذا أو ذاك ؟ .

وهنا نتساءل هل أحفاد نابليون بونابرت اليوم وأحفاد الطهطاوي وأحفاد الأمير عبد القادر الجزائري هم من نفس عيار هؤلاء الأجداد الأفذاذ؟ أم أن سنن الكون أن يخلف هؤلاء أفراد آخرين حملتهم أرحام أخرى ومن ماء حمله رجال غرباء عن الذين ذكرناهم ؟ أليست هذه هي عبقرية الحياة في أن تعطي للجميع فرصا متكافئة فلماذا نتعامى نحن البشر عن هذه الحقائق مما يؤدي إلى التحارب والتطاحن كما نراه اليوم في سوريا الجرح النازف بداخلنا والتجربة المرة التي لا يجب تكرارها في أي بلد عربي آخر ومهما كان الثمن نقول لا يجب أن تتكرر وشلت يد كل من يفكر في هذا الأمر لأنه ينوى خراب أوطاننا من حيث يضن هو أنه يريد إصلاحها ؟ .

نعود ونقول هل يجب أن نغلق المجتمع مثل الأتراك في الجزائر ونقلدهم في احتقار عامة الشعب وغلق الأبواب أمامها ؟ ترى ألم يُــكذب الأمير عبد القادر هذه النظرة الإقصائية ونبغ بمجرد أن وجد فرصته وأين ما كان يزعمه أتراك الجزائر من أن العرب لا ينجبون سلالات الأمراء ؟ وهل كنا نسمع بالأمير عبد القادر لولا رحيل الأتراك ألم تكن البشرية ستخسر الكثير لولا تلك الفرصة التي منحها التاريخ له ألا يكفيه فخرا أن أصول القانون الدولي فيما يخص الحرب هو من وضع أسسه ومن يدرينا كم من أمثال الأمير عبد القادر يعيشون بيننا اليوم ولكننا بجهلنا نقذف بهم في التراب ونمارس عليهم خصاء بالقوة . ماذا سيخسر الحكام في العالم الثالث ومن سلك دربهم عندما يفجرون طاقات شعوبهم فتغدو بهم دولهم آيات ومعجزات بين الدول والأمم غير أنانية بعضهم القاتلة والمدمرة .

ولذا علينا أن نبنى مجتمعا مفتوحا يؤسس دولا لا تزول بزوال حكامها الذين كانت الصدفة البيولوجية هي من قذفت بالبعض منهم ليصبحوا أبناء للرؤساء وللوزراء ولصناع القرار في بلدانهم . ولو كانت الأمور يجب أن تورث لورث أبناء الأنبياء آبائهم وكلنا يعرف قصة نوح وابنه الشهيرة . وكلنا يعرف قصة يوسف مع أخوته وهم أبناء رجل واحد وقصة إبراهيم مع أبيه آزر . وكلنا يعرف الفرق بين أبي جهل وابنه عكرمة . وقصة أم المؤمنين أم حبيبة مع أبيها ابن حرب قبل إسلامه . وكل هذا يوصلنا إلى أن الحاكم العربي رجلا ككل الرجال يمكن أن ينجب شيطانا آدميا كما يمكن أن ينجب ملاكا آدميا والأول - وهنا نحن نقصد ابن الإنسان في معناه المجرد بعيدا عن كل تشخيص - أولى بأن يطرد من جمهورية أفلاطون ومن مدينة الفارابي والثاني أجدر به أن يحكمهما .

ومن جهة أخرى ألم يكن يجب على الحاكم العربي أن يتساءل أين هي الدولة الأمة لقد زال هذا المفهوم مع مفهوم الدولة القومية ولكن بعض الحكام العرب لا زالوا خارج التاريخ ولم يفهموا أن العالم تغير فمباراة كرة القدم التي تجري في تونس بن على تحكم بنفس القوانين التي تحكم بها مباراة قدم في ألمانيا وفرنسا وهنا الشعب يسأل لماذا هذه الازدواجية في التعامل مع المعايير الدولية ؟ لماذا بعض حاكمنا يرضون بأن تطبق القوانين الدولية على كرة القدم ويرفضون تطبيق القوانين السياسية والاجتماعية والثقافية على المجتمع وهنا تبدأ تتبلور فكرة الثورة وهذا انطلاقا من الملاحظة والمشاهدة وتبقي الأخيرة كامنة إلى أن تحين الظروف وعندها تكون طوفانا ووبالا على هؤلاء الحكام وعلى نظمهم .

ومن بعد كل هذا هل يجب أن يتعامل الآخر مع الحاكم العربي على أنه غاصب وظالم وديكتاتور فقط أم يجب أن ينظر إليه كذلك على أنه هو كذلك ضحية لمنظومة قيم وأفكار غرست فيه وكان أولى على الطبقة المثقفة والمستنيرة وليست الطبقة الجاهلة والمتعصبة والمبرمجة قبل أن تعتبر نفسها ضحية أن تتخلى عن جبنها وأن تعمد إلى تغيير هذا الواقع ونحن هنا لا نعفي أحد من المسؤولية الشخصية ولكن يجب كذلك أن يتحمل كل منا مسؤوليته و من الموقع الذي يوجد فيه وهنا نشير كذلك إلى أنه لا يجب أن يكون المواطن العربي حاكما كان أو محكوما مثل نظام بن على لا يقبل النصح والمشورة وليأتي في الأخير ويدعى بأنهم قاموا بتغليطه .

ومن جهة أخرى نعود ونقول هل كان نظام بن على سوى حاكما لتونس بالوكالة لصالح القوى الكبرى شأنه في هذا شأن الكثير من نظم العالم الثالث ؟ ألم يصل بورقيبة ذاته إلى الحكم في تونس بتزكية من الولايات المتحدة الأمريكية التي رأت فيه خير وكيل لفرنسا وللغرب في تونس وهذا بشهادة أركان حكمه . ثم من بعده بن على ومن كان سيخلفه لولا أن ما حدث بتونس قد قطع الطريق عليه ولعل تقارير السفراء الأمريكيين هنا لهي خير دليل على كل هذا . إن كل هذا قد أثار غضب وخنق شرائح واسعة من الشعب التونسي التي اعتبرت أن استقلال بلادهم ما هو إلا استقلال صوري وشكلي وخصوصا التيارات اليسارية والإسلامية والقومية ومن هنا صنع النظام التونسي أعدائه سواء ممن هم قوميون متطرفون أو إسلاميون وهم من سيكونون المعول إلي سيهدم نظام بن على ببطء ولكن بفاعلية وهي نقطة نرى أنه يجب على الحكومات في العالم الثالث اليوم أن تتجنبها قدر المستطاع لتتجنب مصير نظام بن على المؤلم .

ثم أليست خيانة لدماء الشهداء وأحرار أوطاننا أن نحاكي الاستعمار في سياسته الظالمة لنا ألم يحاول الاستعمار الفرنسي فصل المقدم عبد الرحمان بن سالم عن الثورة الجزائرية بمنحه قصرا وراتبا وامتيازات مغرية على أن يبتعد عن الجزائريين الوسخين و القذرين على حد تعبير فرنسا الاستعمارية ؟ ألم يجبها هذا البطل بأنه قد رأى بأم عينه كيف جعل هوشي منه في الفيتنام من شعبه الذي سحقته فرنسا شعبا محترما ككل الشعوب ألم يضحي هذا البطل وإخوانه لأجل هذه الغاية أين نحن اليوم من كل هذا أليست هذه أكبر خيانة منا لهم ولدماء شهدائنا الأبرار ؟ .

ترى ألم يكن ماو تسي تونغ على حق وهذا عندما دعا إلى ضرورة احترام حياة البشر ؟ ترى من يضمن لنا أن من صلب من سحقناهم من الرجال ومن النساء لن يلد عالم أو طبيب أو مهندس يكون سيل خير للبشرية كلها وفخرا وعزة لدولته وشعبه وأمته ترى لو منهم ولد صيدلي فكم هي الأرباح التي ستجنيها الدولة من وراء اختراعاته ؟ وكم هي الآلام التي سيسكنها ؟ ومن هنا سيساهم في خلق مجتمعا قويا تقوى به دولته وشعبه ؟ ألم تقف الصين على هذه الحقيقة ولذلك استطاعت أن تستضيف الألعاب الأولمبية ؟ أما عندنا نحن فتوجد الأنانية القاتلة وتضخم الأنا المدمر للذات الفردية والجمعية .

والمشكلة هي أن بعض الحكام العرب يراهنون على خوف الجماهير ونسوا أن للخوف حد ومتي تجاوزه الفرد كسره وهنا يكون الطوفان كما حدث لنظام بن على في تونس فهؤلاء الحكام قد راهنوا على حصان خاسر وكان الأولى أن يراهنوا على شعب حر وقوي يحميهم ويحمى نفسه وقت الخطر الداهم ونسوا بأن العبيد لا يبنون أبدا دولا ولا يستردون حقا وهل العبد يحسن الكر والفر كما قال عنتر بن شداد وهل ثورة الجزائر المباركة خاضها بنو وي وي أم أحرار الجزائر من النساء والرجال نعود ونقول إضافة إلى ما سبق فإن بعض الحكام في العالم الثالث ونحن جزء منه قد خلقوا من شعبهم عدوا لهم وهذا أخطر ما في الأمر وركنوا إلى الحلول الأمنية وراهنوا عليها وهي لم تجد في التاريخ أبدا فأين هو الاستعمار الذي وضع السكين على رقابنا ألم ينقلب السكين عليه واقتلعه من جذوره أما كان أولى ببعض الحكام العرب بأن يتعظوا من كل هذا ؟ ؟ وكل هذه المساوئ تأتت من فرض ساقط والمتمثل في ادعاء امتلاك الحقيقة كل الحقيقة ونسوا أننا اليوم نعيش عصر النسبية لا الإطلاق .

ومن جهة أخرى يمكن القول أنه حتى إن حاصر النظام الرسمي المطالب الشعبية فإنه سيكون حصارا منتحرا أو كمن يريد أو يوقف عجلة التاريخ وهو هنا يمكن له أن يؤخر حركة هذه العجلة ولكنه لن يكون قادرا على إيقافها أبدا ولنا في التاريخ الأوروبي الحديث خير مثال على هذا ألم تقف أوروبا الرجعية كلها ضد أفكار الثورة الفرنسية الكبرى " 1789 " وحاولت وبكل قوتها إجهاضها وتدميرها؟ وعلى رأس كل ذلك كانت النمسا وبريطانيا وروسيا القيصرية وحتى الدولة العثمانية وقفت هي الأخرى إلى جانبهم ولكنهم فشلوا لأنه كانوا يحاربون روح التاريخ التي تحركت كما يقول هيجل ويحاربون لحظة التاريخ التي هي ليست لحظتهم وإنما هي لحظة الشعوب والقيم الفكرية الجديدة . يحاربون أفكارا عابرة للحدود وللحواجز الأمنية واعتقدوا وهم على خطأ من أن هزيمة جيوش فرنسا الثورة وجيوش نابليون سيقضى على الثورة وعلى أفكارها فسقط فرضهم الساقط مسبقا في الماء . وبالتالي فعلينا أن نكون أكثر حكمة في تعاملنا مع الواقع والتاريخ الذي لا يرحم وأن نسجل أنفسنا فيه كشعوب عظيمة خادمة لحرية ولكرامة الإنسان لا أن يسجلنا على أننا طغاة أعداء لأوطاننا واليوم الأفكار قد قالت كلمتها ومهما حاولنا الوقوف في وجهها فحتما سنفشل ولنا في تاريخ فرنسا ما بعد الثورة الكبرى خير شاهد على هذا ألم يكن إرجاع ملكية آل البربون سوى لعبا في الوقت الضائع وكتابة في الهامش . ولنا أن نتساءل من يترحم عليه التاريخ اليوم أهو الكواكبي وخير الدين التونسي وفولتير وروسو وفيكتور هيجو أم هؤلاء الطغاة الذين لا يعرف حتى أكبر المثقفين أسمائهم لقد طواهم التاريخ ورماهم في مزابله في حين جعل من الأوائل شموسا لهداية البشرية في عتمة الليل الذي حاول الطغاة فرضه .

وبعد كل هذا علينا أن نتساءل ما الحل للحيلولة دون الوقوع في هذا المطب مستقبلا والذي يكون الوطن شعبا وأرضا هو الخاسر الأول والأخير فيه ؟ الحل كما قلنا سابقا نراه يكمن في المجتمع المفتوح وهذا لكي يمتص روح الغضب والحقد والضغينة وروح التربص بين مختلف فئات الشعب وحتى تغلق وبصورة نهائية كل احتمالات الحرب الأهلية مسبقا وحتى تحدث مصالحة حقيقية بين الشعب ومختلف مؤسسات الدولة ويصبح الشعب والدولة لحمة واحدة كما هو في الدول الغربية اليوم بحيث أن الدولة هي الشعب والشعب هو الدولة وحتى يكون ولاء الأفراد للدولة الباقية وليس للأفراد والذين هم حتما سيرحلون وأي خير نرجوه من موظف وظف بالوساطة على حساب الكفاءة فولائه سيكون لمن وظفه ومتى كان هذا فالدولة ستنهار عند أول تحدى تواجهه لأن الولاء للشخص لا للدولة وسيكون هنا في صف من يدفع أكثر ولعل ما حدث في العراق خير شاهد على هذا .

ومن يوظف بالواسطة لن يكون فعالا في مجاله و لن يكون مخلصا لا لوطنه ولا لشعبه الذي يحتقره ولن يعير القانون أدني احترام لأنه مسنود بسلطة أقوي من القانون سلطة من وظفه وسوف يكون نقيض العامل الياباني المتشبع بالوطنية ولأننا لم نخلق فردا مسئولا بل فردا أنانيا وانتهازيا . ولاؤه لمن وظفه من اللوبيات المختلفة والتي أصبحت تشكل دولة داخل الدولة وأصبحت سلطتها تعلو على سلطة دولها وأي دولة انقسمت على نفسها هكذا فمصيرها الزوال كما عبر على هذا السيد المسيح في إنجيله . وهل بمثل هؤلاء سنخلق فيلسوفا مثل غاستون باشلار أو طبيبا فذا مثل ابن زهر أو رساما عظيما كبيكاسو أو شاعرا كبيرا مثل بلبلو نيرودا أو اقتصادي مثل ماكينزي نشك في هذا الأمر إن لم يكن نراه من المحال ؟ .

نعود ونقول لا لن نكون أكثر حكمة من أفلاطون وابن رشد ومفكري عصر الحداثة وما بعدها والذين دافع أغلبهم عن المجتمع المفتوح والذي يفجر الطاقات الإبداعية للأفراد ويضمن دوام شباب وفتوة الدولة واستمراريتها لأنه وبفتح الطريق أمام الجميع وبصورة متساوية ومتكافئة تـُضخ دماء جديدة في عروق الأمة والدولة وبصورة دورية ولعل مثال الولايات المتحدة اليوم خير شاهد على هذا فهي بلد الفرص المتساوية وهي حالات إبداع أقليات ولذا فهي تعمل على جلبهم سنويا عن طريق الهجرة ولا تغلق الأبواب في وجههم ولئن كانت هي تفعل هذا مع الغرباء أليس أجدر بنا أن نفعله نحن مع أبنائنا ؟ كما أن مثال ماري كيري في فرنسا وهي الوافدة عليها من بولندا بخافي على أحد كما وأن التاريخ يخبرنا أن أعظم ملوك اليهود هو داوود وهو الفلاح وابن الفلاح كما مر أعلاه ولكنه أسس أعظم ملك لبني إسرائيل وهذا لكون المجتمع قد كان مجتمعا مفتوحا لا يئد أبنائه ويخصيهم خصاء فكريا وعلميا واجتماعيا وسياسيا لصالح عقم السادة . أما اليوم فلنا مثال كوريا الشمالية ذلك المجتمع المغلق والمتخلف وهذا على عكس جاره الجنوبي المفتوح والذي استطاع أن يخرج من مجموعة الدول العشرة الأكثر فقرا إلى الأكثر ثروة لا لشيء سوى لتقديسه المجتمع المفتوح . كما أن الاتحاد السوفياتي المغلق تدمر وانهار بعد وفاة من كانوا تسلموا زمامه وكان الأجدر بهم أن يفتحوا المجتمع حتى يسلم المشعل من يد إلى يد أخرى ومن فرد إلى آخر .

ولعل من أغرب ما قرأت في الصحف الوطنية الجزائرية أن مترشحا في برنامج غنائي يعتني بالمواهب الشابة قد جاء لأحد السيدات والتي كانت ضمن فريق لجنة التحكيم بتوصية فوقية فما كان منها حسب قولها دوما إلا أن مزقتها في وجهه ونحن هنا نزجي لها جميل الشكر والعرفان على صنيعها هذا والتاريخ سيقف منحنيا لها وهنا نقول ترى ماذا سيـُنتج عندنا فنان أو رياضي أو طبيب أو مهندس أو معلم أو أستاذ في الجامعة وصل بهذه الطريقة غير الفقر والقحط في ميدانه وغير الفشل لأنه هو أصلا فاشل وفاقد الشيء لا يعطيه كما يقال ولن ينتج إلا ما هو رث ومهلل وتافه مثله ترى هل سقراط وأفلاطون وهيباسيا وأفلاوطين وابن سينا وابن رشد وابن طفيل وابن القصيرة والجاحظ وابن حزم وليوناردو دا فنشي ومايكل أنجلو وكوبرنيكو وغاليلي وروسو وفيكتور هيجو وماري وبيار كيري ونابليون بونابرت والقائمة طويلة قد وصلوا إلى ما وصلوا إليه بواسطة ونفوذ أقربائهم ؟ نعم كل شيء يمكن أن يصنع إلا التميز فهو هبة من الله ومن الطبيعة وكنز الأمم المتجدد ومصدر فخرها نعم علينا أن نهتم بالإنسان لا بالأشياء كما ينصحنا بذلك مالك ن نبي رحمة الله عليه .

نعود ونقول إن معاداة المجتمع المفتوح وفرض نموذج الحاكم بأمره ستوصلان إلى طريق مسدود لأنهما سيقضيان على التمايز الذي يحرك تدافع المجتمع وحركيته وهذا لن يكون بفرض نموذج واحد يقضي على عوامل الإبداع حتى بداخله – المجتمع المغلق - ومن هنا الجمود فالإفلاس فالانهيار وهذا ما حدث لنظم أوروبا الشرقية ومن ماثلها . وهذا العمل هو خصاء جماعي للعقل القطري والجمعي لن تكون نتيجته سوى القحط والعقم الاجتماعي والثقافي والاقتصادي الخاص والعام .

وخلاصة القول نقول بأنه يجب على النخب الحاكمة في الوطن العربي أن لا تنكمش وتتجمد في نموذج واحد ووحيد وكأنه الوحي المقدس والمنزل بل يجب عليها أن تتفتح على الأفكار الجديدة حتى لا يجرفها السيل ففكر الحداثة قد انتقد وتجاوز النقد البناء الكثير من مسلماته السابقة وهذا ما فعله جاك دريدا وميشال فوكو وهابرماس ولكن بعض النظم العربية قد ركنت إلى ما تم تجاوزه في حين أن الشعب والنخب الثقافية والسياسية تواكب التطورات ولهذا استطاعت وتستطيع أن تغير الواقع لصالحها .

 

سمير خلف اللــه بن امهيدي الطارف

الجزائر / الطارف

في المثقف اليوم