آراء

ولاية قبلي الحاضرة المنسية

alarabi benhamadiشهدت منطقتي دوز وسوق الأحد التابعتان لولاية قبلي الصحراوية مسيرات و تحركات وصدامات مع الامن، في شهر مايو الماضي، كان لها صدى محلي وعربي وعالمي

"بلاد نفزاوة: من بحيرات الملح الى فوضى الرمال" هو عنوان كتاب لضابط فرنسي(1) ألّفه ، خلال إقامته بنفزاوة اي ولاية قبلي الحالية، وذلك سنة 1949.

فعنوان هذا الكتاب يوحي بعزلة المنطقة وقسوة مناخها الصحراوي الجاف. فهي، بالفعل، بوابة الصحراء من جهة الجنوب، كما انها محاصرة بشطوط الملح (من أبرزها شط الجريد) من بقية الجهات، تقريبا. لكن هذا لم يحل دون تحدى سكانها هول وقسوة الطبيعة، حيث أقاموا بمجهوداتهم، التي تكاد تكون فردية، أكثر من مائة واحة غناء، على طول صحراء قبلي وعرضها، وهو ما يقدر باكثر من اربع ملايين نخلة، عائداتها من التصدير تحوم حول 300 مليار، ما يمثل 20 في المائة من عائدات التصدير الفلاحي، وبذلك تحتل ولاية قبلي المركز الثاني في سلم صادرات المنتجات الفلاحية بعد زيت الزيتون(2).

كما تضخ ولاية قبلي ملايين الدنانير من العملة الصعبة، سنويا، في شرايين الاقتصاد الوطني، بفضل سواعد أبنائها، الذين ضحوا وما زالوا يضحون بزهرة شبابهم،متغربين خارج الوطن، دون ان ننسى ما تدره السياحة الصحراوية من فائدة لاقتصاد تونس.

لكن المفارقة الكبرى، هي الفجوة بين مجهود الولاية في إنعاش الاقتصاد الوطني ونصيبها من التنمية. وما استفحال البطالة الا دليل صارخ على تعثر التنمية بهذه الولاية، التي تأتي في المقدمة في نسب البطالة،خاصة لدى حاملي الشهادات العليا... فهذا سامي، المجاز في علوم الحياة، يتنقل بين قبلي وتونس بحثا عن لقمة العيش، وهذه سلوى المجازة في الاقتصاد المالي والبنكي، ابنة العامل ألفلاحي الفقير، تنتقل من عطار إلى تاكسفون، منذ عدة سنين، مقابل 100 دينارا يتيمة، وتلك سامية، الحائزة على الماجستير في الإعلامية، تترك قبلي وتلتحق بأخيها، المقيم ببلد خليجي، بحثا عن مخرج، بعد أن خانتها مناظرة الكاباس في أكثر من مناسبة (3).

وفضلا عن استفحال البطالة فان الفوار، على سبيل المثال، هي معتمدية، بالاسم فقط، حيث تفتقر الى ابسط المرافق، كموزع آلي بمركز البريد، الذي يكاد يكون المرفق الوحيد بهذه المعتمدية، المترامية الاطراف(المطروحة تبعد 90 كم عن مركز المعتمدية) والفاقدة للإدارات المحلية.

انه انتحار بطئ لشباب متعلم في محيط تشغيل لا يقل قسوة عن مناخ متقلب بارد شتاء وحار صيفا.

والسؤال الذي يطرح نفسه: ما هو سبب هذه الفجوة بين مجهود المنطقة المحمود في إنعاش الاقتصاد الوطني وضعف نصيبها من التنمية؟

هناك أسباب عديدة، لعل أهمها تخلي الدولة القيام بدورها، كاملا، وعدم فاعلية رؤوس اموال المنطقة وسلبية نخبها، كما ان ضعف تقاليد العمل، الذي يمثل قيمة في ذاته، عامل اضافي يعرقل نمو الجهة .

وإذا لم تتضافر جهود الفاعلين، المشار اليهم، فان في انتظار المنطقة أيام صعبة. فاستنزاف المائدة المائية، الغير متجددة، هو على اشده، وابواب الهجرة باتت موصدة منذ عدة سنوات، والسياحة الصحراوية تترنح، كما ان اهم ثروة، المتمثلة في صابة التمور، هي عرضة للعوامل الطبيعية ومضاربات السوق.

وما التوتر الذي عاشته الجهة، في المدة الاخيرة، خاصة، بمعتمديات كل من دوز والفوار وسوق الاحد، الا نتيجة البطالة والتهميش وغياب التنمية، فضلا عما شاهدته السنة الجارية من انهيار لموسمي السياحة و التمور. فغالب النزل أغلقت أبوابها، ما اثر سلبا على الصناعات التقليدية وحركة الجمال، المسخرة للسياح والتي هي مصدر رزق لمئات العائلات، بكل من معتمدتي دوز والفوار. كما ان غالب أصحاب وحدات تخزين دقلة نور تأثروا سلبا بانحسار الترويج وبالتالي هبوط الأسعار هذه السنة.

ومن المفارقات، أيضا، أن ثروة المنطقة ومفخرتها، المتمثلة في دقلة نور المشهورة عالميا، تُصنّع خارج ولاية قبلي، ما يحرم الولاية من عدد هام من مواطن الشغل.

وفي اعتقادي، فهذه هي الاسباب الحقيقية وراء الإحداث الأليمة الأخيرة، بولاية قبلين والتي لم تسفر، من حسن الحظ، عن ضحايا، وإلا لآخذت الإحداث منحى آخر، اذا وضعنا في الذهن، انتفاضة الخبزالكبرى،التي اندلعت في اوائل الثمانينات من القرن الماضي، انطلاقا من دوز ثم عمت كامل الجمهورية (3).

إنها أحداث الفوار ودوز الاخيرة هي عفوية وموضوعية، اساسا. وما تعمد الحديث عن أيادي خفية، تقف وراءها، الا محاولة، القصد منها، تحويل الانتباه عن الأسباب الحقيقية التي تقف وراء الأحداث، وهو يذكرنا بلغة خشبية، قادمة من عهود، خلناها ولّت.

لكن هذا لا ينفي محاولة البعض الركوب على الإحداث و الاستفادة منها سياسيا. وقد تكون هناك بعض الجيوب التي تحلم بموقع لما يشبه الامارة الصحراوية في انتظار الغيث من وراء الحدود. لكن هذه احتمالات ضعيفة، وقع تضخيمها لغاية في نفس يعقوب، اما شباب الجهة فهو اكثر وطنية من بعض الاصوات الناعقة من هنا وهناك. كما لابد من الاشارة الى ان المعالجة الامنية التقليدية المتمثلة في مواجهة المحتجين يالقوة، ثبت فشلها، بهذه المنطقة، حاضرا وماضيا. ومن هنا فلا غنى عن لغة الحوار بين المجتمع المدني والامن، لتجنب تدخل الجيش في كل مرة لحماية الأمنيين انفسهم ومراكز عملهم التي اصبحت عرضة للحرق والتدمير نظرا للقطيعة بين الامن والمواطنين(3).

ختاما فولاية قبلي تواجه تحديات خصوصية تكاد تكون وجودية. فحتى النواة الوحيدة للتعليم العالي المتمثلة في المعهد التكنولوجي هي في انحسار متواصل حيث تقلص عدد الطلبة والمبيت الجامعي بها شبه خال.

الحل يكمن في تظافر الوطني والجهوي والاخذ بيدي الجهة، وذلك بوضع خطط تخفف عنها مرارة الحاضر وسوء عاقبة المستقبل، آخذين في الاعتبار اولوية الجهة في التمتع بثرواتها البترولية وغيرها. مع التذكير ان المستعمر الفرنسي كان يمتع العاملين بها منحا خصوصية لمواجهة قسوة الطبيعة، في حين يكتفي الوزراء الوطنيون باطلاق كلمة (المرابطون) على سكانها خلال زياراتهم الخاطفة.

 

العربي بنحمادي

..........................

الهوامش

Le pays des Nefzaouas : des lacs de sel au chaos du sable(1)

المصدر: المجمع المهني المشترك للغلال بقبلي(2)

(3) استطاعت الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان، فرع قبلي،التي تشرفت برئاستها في الثمانينات والتسعينات، خلال انتفاضة الخبز والحرب على العراق، وبالتعاون مع المجتمع المدني، تجنيب المنطقة مزيد من الضحايا وذلك بالتدخل في الاوقات الحرجة بين الامن والمواطنين خاصة بمركز الولاية الذي لم يشهد قط سقوط ضحايا عكس ما حصل في كل من منطقتي دوز وسوق الاحد التابعة للولاية

في المثقف اليوم