آراء

الأتراك ومكانهم في لعبة الكبار (1 و2)

لم يتوقف الصراع الايديولوجي داخل بنية المجتمع التركي عامة والنخبة السياسية خاصة منذ سقوط الامبراطورية العثمانية وأنهاء الخلافة الاسلامية التي كانت الامبراطورية تحكم تحت علمها لقرابة 600 عاماً حينما أعلن مصطفى كمال اتاتورك عام 1924 إنهاء تلك الخلافة وإعلان تركيا دولة جمهورية علمانية والى اليوم .

لقد أرسى كمال اتاتورك دعائم حكمه ودولته وفقاً لمعايير ومفاهيم جديدة في حينها على المجتمع التركي، وقد اتخذ إجراءات صارمة للمضي بمشروعه القائم على عزل الدين عن الحياة السياسية والاجتماعية فأغلق التكيات والجوامع ومنع الحجاب وغير الطربوش بالقبعة والغى الحروف العربية في اللغة التركية واستبدلها بالحروف اللاتينية وأعلن تنازل تركيا عن ولاياتها إبان حكم العثمانيين، وأسس حزب الشعب الجمهوري الذي يتبنى العلمانية كفكرة جوهرية لإدارة الدولة وتوصيف مجتمعها وأسس برلماناً كان هو وحزبه صاحب الصوت الأعلى والأغلب فيه . في وقت انزوى فيه دعاة الفكر الديني واصحاب التوجهات الاسلامية بعيداً عن ذلك المعترك بعدما رأو من اتاتورك شدة وغلاظة تجاههم وتجاه غيرهم ممن يخالف عقيدته السياسية . وقد تبنت المؤسسة العسكرية التركية حماية مشروع الجمهورية التركية العلماني بعد وفاة مصطفى كمال اتاتورك عام 1938 لاسيما وان هذا الرجل قد خرج من رحم تلك المؤسسة وكان الابرز والأمهر والاشجع بين رجالها .

وقد دفع الأتراك ثمناً باهضاً كنتيجة حتمية لهذا الصراع الأيدلوجي بين العلمانين والإسلاميين وكذلك جانب اخر قد أخذ مآخذه منهم وهو الصراع الكردي التركي داخل تلك الجمهورية والذي راح ضحيته المئات والألوف من الجانبين، وعليه فقد عصفت بالبلاد الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وترتب على ذلك تفشي الفقر والجريمة في المجتمع، وتعاظم اضطهاد السلطة لمعارضيها فشاعت الاعتقالات القصرية والاغتيالات السياسية للجبهات المعارضة داخل النخبة السياسية، وبذلك يكون الأتراك قد استهلكوا ما بجعبتهم من رؤى وإرادات ومطامح وأمال ليرضوا بواقعهم المحبط وحياتهم البائسة، ولكن الى حينْ.

***

لم يسمح مصطفى كمال أتاتورك بمشاركة الأحزاب السياسية في أدارة شؤون تركيا آبان تأسيس الجمهورية وحَصر هذا الامر في حزب الشعب الجمهوري الذي أسسه أتاتورك نفسه ، لان أيديلوجية هذا الحزب تحمل الخطوط الجوهرية في فكرة علمانية تركيا التي أسس لها أتاتورك .

بقى الحال على ما هو عليه حتى بعد وفاة مصطفى كمال عام ١٩٣٨ وأنتهاء الحرب العالمية الثانية عام ١٩٤٥ ، والتي أضرت بأوضاع تركيا الاقتصادية والاجتماعية رغم عدم مشاركتها في هذه الحرب .

وفي عام ١٩٤٥ قام مجموعة من الضباط الأتراك المنتمين لحزب الشعب الجمهوري بالاستقالة من الحزب وأعلنوا تأسيس حزب جديد أسموه الحزب الديمقراطي وعلى رأس هؤلاء الضباط عدنان مندريس وجلال بايار وقد تمكن الحزب بحصد بعض مقاعد البرلمان عام ١٩٤٦ ولكن بنسبة بسيطة ، الا ان عام ١٩٥٠ كان عام النصر لهذا الحزب الذي تمكن من الفوز بالاغلبية ليتمكن من تشكيل حكومة من غير حزب الشعب الجمهوري ، وهي المرة الاولى منذ أعلان تأسيس الجمهورية وأصبح عدنان مندريس رئيساً للوزراء وجلال بايار رئيساً للجمهورية .

وبرغم إعلان الحزب الديمقراطي تمسكه بعلمانية الدولة التركية ألا أن عدنان مندريس وحكومته قاموا باتخاذ إجراءات إصلاحية هامة داخل المجتمع التركي وهذه الإصلاحات والتغيرات هي التي حفرت أسم عدنان مندريس في ذاكرة الأتراك الى يومنا هذا .

فقد سمح مندريس مثلاً بإقامة الاذان في المساجد باللغة العربية وأسس المعاهد الدينية وسمح ببناء المساجد وتخريج الخطباء والوعاظ الدينين ، بالاضافة الى تغيرات اقتصادية شملت المجال الزراعي والصناعي فقام باستصلاح الاراضي وبناء السدود واستيراد المعدات الزراعية الحديثة وإنشاء العديد من المصانع وعسكريا ضم تركيا لحلف الناتو وأرسل قوات تركية للمشاركة في الحرب الكوبية ، فشعر المجتمع التركي بأرتياح كبير وخاصة في مجال الحرية الدينية والممارسات العقائدية وخاصة الصوفية الشائعة في الأوساط الدينية التركية ، مما مكن الحزب الديمقراطي بالفوز بانتخابات برلمانية ثانية ، ورغم الإنجازات التي حققها عدنان مندريس الا ان وضع تركيا الاقتصادي ظل يترنح نتيجة تداعيات الحرب العالمية الثانية على الدول ، ومما لاشك فيه فأن ما قام به مندريس لم يكن يرق للمؤسسة العسكرية التركية وحزب الشعب الجمهوري ولذلك قامت مجموعة مكونة من ٣٨ ضابط من قادة الجيش في عام ١٩٦٠ بإصدار بيان بتولي الجيش أدارة شؤون البلاد وألقي القبض على عدنان مندريس وجلال بايار وبعض وزراء حكومتهم ووجهتم لهم تهمة محاولة قلب نظام الحكم العلماني والسعي لتأسيس دولة دينية ونُفذ حكم الإعدام بعدنان مندريس وبعض رفاقه فيما حكم بالسجن مدى الحياة على رئيس الجمهورية

في المثقف اليوم