آراء

لا تثقوا بالولايات المتحدة (42):

husan sarmakالمجرم كيسنجر أسقط التجربة الديمقراطية في بنغلاديش (1/2 مليون – 3 مليون قتيل) وفي شيلي (3 آلاف قتيل و30 ألف معتقل ومختفٍ)

(رابعاً: كيسنجر وحمّام الدم في بنغلاديش- إسقاط الرئيس البنغلاديشي المُنتخب- كيسنجر يتسبّب في مقتل من نصف مليون إلى ثلاثة ملايين بتغلاديشي ويشكر الجنرال السفّاح على لطفه وكياسته- الحليف الأبدي للجنرالات الديكتاتوريين الطغاة- خامساً: كيسنجر واحتضار تيمور الشرقية (قتل 200,000 مواطن)- الضحايا يفضحون كيسنجر الكذّاب بعد عشرين عاماً من المذبحة- كيسنجر كذّاب.. كذّاب.. كذّاب- مُختص بالكذب الهستيري المُرتجل- مذكرة منتسبي وزارة الخارجية التي أثارت غضب كيسنجر- سادساً: إسقاط الديمقراطية في شيلي واغتيال وزير الدفاع- (1) شيلي: عندما يصبح رجل السياسة قاتلاً مأجوراً- إسقاط التجربة الديمقراطية من أجل عيون شركة بيبسي كولا- التخطيط لاغتيال وزير دفاع شيلي المؤيّد للديمقراطية- الوثائق تفضح كيسنجر الكذأب القاتل- أدلة قاطعة على مسؤولية المجرم كيسنجر عن قتل وزير دفاع شيلي- (2) شيلي: موت في الجنوب- يكذب على الكونغرس ويلح على معرفة تفاصيل مجازر الانقلابيين- كيسنجر مبتكر عولمة فرق الموت- الوثائق تكشف: كيسنجر الديمقراطي يتملق السفّاح بينوشيه- مذكرات الكذّاب كلّها أكاذيب- العهر في تقرير وكالة المخابرات المركزية عن انقلاب شيلي- وكالة المخابرات المركزية تساعد قتلة وزير دفاع شيلي بـ 35 ألف دولار لأسباب إنسانية !- في واشنطن: دعم واستقبال السفّاح كونتريراس الذي يذبح الديمقراطيين في شيلي- ملاحظة عن هذه الحلقات الخاصة بالمجرم هنري كيسنجر- ملاحظة عن هذه الحلقات).

 

رابعاً: كيسنجر وحمّام دم في بنغلاديش:

لم تكن قبرص الحالة الأولى التي يتم فيها إدراك الحاجة لتهدئة الصين تفوق حتى أبسط حالات الإهتمام بالحياة البشرية في الاماكن الأخرى. في 6 نيسان/ ابريل 1971 كُتبت برقية احتجاج من قنصلية الولايات المتحدة في ما كان يُسمّى آنذاك بالباكستان الشرقية، "الجناح" البنغالي للدولة الإسلامية في باكستان المعروف لمواطنيه الوطنيين العنيدين باسم "بنغلاديش" . كانت البرقية موقّعة من قبل القنصل العام في "دكا" وهو "آرشر بلوود - Archer Blood" برغم أنها ستصبح معروفة باسم "برقية بلوود - Blood Telegram" كناية عن "برقية الدم" . أُرسلت البرقية مباشرة إلى واشنطن. وكانت غايتها بكل بساطة الإبلاغ عن تورّط الولايات المتحدة في إبادة بشرية.

كان القسم الأكبر منها يقول:

"حكومتنا فشلت في شجب قمع الديمقراطية. حكومتنا فشلت في اتخاذ الوسائل الكفيلة بحماية مواطنيها. في الوقت نفسه تعتمد على الرجعيين لاسترضاء حكومة باكستان الغربية المستبدة. أظهرت حكومتنا ما اعتبره الكثيرون أفلاساً أخلاقياً، ومن سخريات القدر أن حكومة الاتحاد السوفيتي أرسلت إلى الرئيس يحيى خان رسالة تدافع فيها عن الديمقراطية وتشجب اعتقال القائد المُنتخب ديمقراطيا لحزب الأكثرية.. ولكننا اخترنا عدم التدخل حتى أخلاقيا، على اساس أن صراع عوامي، الذي ينطبق عليه لسوء الحظ مصطلح الإبادة البشرية، هو شأن داخلي لدولة مستقة، العسكريون الأميركيون عبّروا عن استيائهم، ونحن كموظفي خدمة عامة مختصّين، نعبّر عن شجبنا للسياسة الراهنة، ونأمل بقوّة أن مصالحنا الدائمة هنا يمكن تحديدها، وسياستنا يُعاد توجيهها".

هذه البرقية كانت موقّعة من قبل عشرين موظفاً في البعثة الدبلوماسية للولايات المتحدة في بنغلاديش، وحال وصولها وزارة الخارجية وُقعت أيضا من قبل تسعة موظفين بارزين في قسم جنوب آسيا. لقد كانت المبادرة الدبلوماسية الأشد علنية والأشد قوة من موظفي وزارة الخارجية إلى وزارة الخارجية التي تم تسجيلها على الإطلاق.

 

إسقاط الرئيس البنغلاديشي المُنتخب:

كانت الظروف تبرّر هذا الإحتجاج تماماً . في كانون الأول 1971، سمحت النخبة العسكرية الباكستانية الحاكمة بأول انتخابات مفتوحة خلال عشر سنوات . فاز الشيخ مجيب الرحمن قائد حزب رابطة عوامي، في الانتخابات بسهولة، وحصل على الأغلبية الساحقة في الجمعية الوطنية. (في الشرق فقط فاز بـ 167 مقعدا من مجموع 169 مقعدا). وهذا، من بين أمور أخرى، شكل تحدّياً للهيمنة السياسية والعسكرية والاقتصادية للـ "الجناح" الغربي. كان مخطّطاً أن تجتمع الجمعية الوطنية في 3 آذار 1971. في الأول من آذار قام الجنرال يحيى خان رئيس المجلس العسكري الذي كان عليه أن يسلم السلطة، بتاجيل الاجتماع، الأمر الذي أدى إلى احتجاجات جماهيرية واسعة، وعصيان مدني سلمي في الشرق.

في 25 آذار 1971 قام الجيش الباكستاني بتطويق العاصمة دكا، وقام باعتقال وخطف الشيخ مجيب الرحمن ونقله إلى باكستان الغربية، وخطط لتصفية مناصريه . تمّ طرد الصحفيين الأجانب من المدينة، ولكن أغلب الدلائل المباشرة لما حدث لاحقاً أرسل عبر مُرسل إذاعي يعمل في القنصلية الأمريكية. آرشر بلوود نفسه قام بإرسال تقرير عن واحدة من تلك الوقائع إلى وزارة الخارجية وإلى مجلس هنري كيسنجر للأمن القومي.

ولأنهم قد استعدوا لهذا الكمين، قام الجنود النظاميون الباكستانيون بإطلاق النار على مهاجع النساء في الجامعة ثم سحقوا الساكنات بالبنادق الآلية وهنّ يحاولن الفرار (البنادق وجميع التجهيزات العسكرية كانت مجهزة وفق برامج المساعدة العسكرية الأميركية).

 

كيسنجر يتسبّب في مقتل من نصف مليون إلى ثلاثة ملايين بتغلاديشي ويشكر الجنرال السفّاح على لطفه وكياسته:

التقارير الأخرى أرسلت إلى التايمز اللندنية وصانداي تايمز من المراسل الشجاع "أنثوني ماسكارنهاز" فأثارت الرعب في العالم. اغتصاب، قتل، تقطيع، وقتل للأطفال استخدم كوسائل منظمة للقمع والترويع. ذُبح على الأقل 10,000 مدني خلال الأيام الثلاثة الأولى، وتم تخمين عدد الخسائر بما لا يقل عن نصف مليون ولا يزيد على ثلاثة ملايين ! . ولأن كل المواطنين الهنود أيضاً في البلاد كانوا مُستهدفين من قبل العسكريين الباكستانيين الشوفينيين فقد بدأت حركة نزوح عَبَرَ خلالها ما لا يقل عن عشرة ملايين مواطن الحدود الهندية.

ولنلخّص الوقائع: أولاً، الرفض المباشر لانتخاب ديموقراطي؛ ثانياً، الشروع بإبادة بشرية؛ ثالثاً، خلق أزمة عالمية خطيرة. وخلال وقت قصير، ضمّ السفير "كنيث كيتنغ" الدبلوماسي الأمريكي البارز في نيودلهي صوته إلى المحتجين، ودعا الإدارة في برقية أرسلها في 29 آذار إلى شجب علني وفوري وقوي لهذه الوحشية، وأن ما هو أكثر أهمية هو أن تّتخذ هذه الخطوات الآن .

تصرّف نيسكون وكيسنجر بسرعة. بمعنى أن آرشر بلوود قد استُدعي فورا من منصبه، والسفير كيتنغ وُصف من قبل نيكسون لكيسنجر بأنه قد سيطر عليه الهنود ! . وفي نهاية نيسان 1971، وكانت المذبحة الجماعية قد وصلت ذروتها، أرسل هنري كيسنجر رسالة إلى الجنرال يحيى خان يشكره فيها على "كياسته ولطفه".

 

الحليف الأبدي للجنرالات الديكتاتوريين الطغاة:

وقد عرفنا الآن السبب الذي جعل الجنرال مفضّلاً جدّاً في وقت جعل نفسه ومساعديه مسؤولين عن أبشع الجرائم ضد الإنسانية. في نيسان 1971، تمت الموافقة على دعوة فريق كرة منضدة أمريكي للعب في بكين، ومع نهاية ذلك الشهر، وباستخدام السفير الباكستاني في الصين كوسيط، وافق المسؤولون الصينيون على إرسال رسالة إلى الرئيس نيكسون لإرسال مبعوث. ولهذا لم يكن هناك سوى سبب واحد جعل نيكسون وكيسنجر يورّطان بلدهم في المذبحة الجماعية في بنغلاديش.

لقد كانت هناك دائماً "قنوات خلفية" للاتصال بين واشنطن وبكين. كانت تُمرّر من خلال نيقولاي شاوشيسكو ديكتاتور رومانيا.

وقد صرح "ونستون لورد" نائب كيسنجر في معهد كارنيجي للسلام العالمي بأن الإدارة الأمريكية كانت تريد أن تثبت للصينيين بأننا حكومة يمكن التعامل معها، وأننا نحترم الصداقة المتبادلة. أي أن تأييد الولايات المتحدة للإبادة البشرية في باكستان الشرقية ومقتل ما يقارب الثلاثة ملايين إنسان كان من أجل أن تثبت حكومة الولايات المتحدة للصين أنها حكومة معتمدة ويمكن الثقة فيها !!

ومعرفة هذه الدبلوماسية السرّية والإمتيازات التي ترافقها حرّر الجنرال الباكستاني من أي قيود قد تمنعه من الإبادة . لقد أخبر الجنرال أقرب مساعديه وبضمنهم وزير اتصالاته "شودوري" أن هذا التفاهم الخاص بين واشنطن وبكين سيوفّر له الحماية. كتب شودوري لاحقاً: "لو أن كيسنجر ونيكسون لم يعطياه مثل هذا الأمل الكاذب، فإنه كان سيصبح أكثر واقعية" . ولهذا فإن التآمر معه في موضوع الصين، ضاعف من تورّط كيسنجر ونيكسون المباشر في المذابح .

 

خامساً: كيسنجر واحتضار تيمور الشرقية (قتل 200,000 مواطن):

ما أثار غرابة المحللين هو أن مذكرات هنري كيسنجر تميّزت بالغياب التام لقضية إقليم صغير وضعه هذا المجرم على طريق الاحتضار والاختفاء النهائي هو تيمور الشرقية . ولأن تيمور الشرقية قد تركت خارج الجزء الثالث والأخير من هذه المذكرات المليئة بالتزييف والأكاذيب: (سنوات التجديد) فإن لا أمل – ومثل دوره الإجرامي في قضية قبرص – لأن تكون موضوعا للاستذكار المتجّل المتأخر. وباختصار لقد تم محوها .

يوم الغزو الإندونيسي لهذه الجزيرة الصغيرة المجاورة لإندونيسيا هو 7 كانون الاول / ديسمبر 1975، هو يوم مميز . ففي ذلك اليوم وصل الرئيس الأمريكي جيرالد فورد ووزير خارجيته هنري كيسنجر إلى هاواي، في ختام زيارة رسمية لجاكارتا. ولأنهما كانا قد جاءا توّاً من اجتماع مع اللجنة العسكرية الحاكمة في إندونيسيا، ولأن الولايات المتحدة هي المصدر الأساسي للسلاح الذي يُجهز به الجيش الإندونيسي، كان من الممتوقع أن يُستفسر من القائدين الأميركيين حول منح القيادة الإندونيسية "الضوء الأخضر" لغزو الجزيرة . كان الرئيس فورد متملّصاً ومراوغاً حيث قال وهو يبتسم حين حطّ في هاواي وسأله الصحفيون عن تعليقه على غزو تيمور: "سنتحدث عن هذا لاحقاً" . ولكن سكرتيره الصحفي "رون نيسين" أعطى الصحفيين لاحقاً تصريحاً قال فيه: "الولايات المتحدة قلقة دائماً من استخدام العنف، والرئيس يأمل أن تُحل المشكلة سلميّاً".

وهذا التفكّك الحرفي لهذا التصريح الرسمي – حل سلمي لاستخدام العنف – قد يعكس ترابطاً "داخلياً": الأمل في نصر سريع لقوّة قاهرة . لكن كيسنجر نقل هذا الشك إلى موضع أقرب إلى الحقيقة في تعليقه الأكثر صراحة والذي قدّمه وهو ما يزال على التراب الإندونيسي حيث قال للصحافة بأن الولايات المتحدة لن تعترف بالجبهة الثورية لتحرير تيمور الشرقية FRETILIN، وأن "الولايات المتحدة تتفهّم الموقف الإندونيسي من هذا الموضوع" .

وكانت التقارير اللاحقة عن المجازر الجماعية والاغتصاب والتجويع مروّعة إلى الحد الذي جعل أي التباس في التأويل خارج الإطار . فقَتْل مجموعة من الصحفيين الأستراليين الذين كانوا شهودا على المجازر الإندونيسية، والتدمير المرعب للعاصمة "ديلي – Deli"، والمقاومة الفلاحية السلمية العنيدة لجبهة تحرير الجزيرة، جعلت ما يجري في تيمور الشرقية فضيحة للنظام الإندونيسي الجديد أكثر منه إعلانا عن قدرته .

حاول كيسنجر تجنّب أي توضيح لدوره في استئصال التيموريين من خلال السماح بشحن الأسلحة للقائمين بالمجازر، وكان قادراً على تمرير ما يريد من خلال سفيره للأمم المتحدة "دانيال باتريك موينهان"، الذي اعترف في مذكراته لاحقاً المسمّاة: "مكان خطر" بأن عدد الخسائر الإبتدائي لغزو تيمور الشرقية يوازي خسائر الاتحاد السوفيتي خلال الحرب العالمية الثانية.

وأضاف موينهان: "كانت الأمم المتحدة ترغب في أن تجري الأمور كما تريد، لكن وزارة الخارجية الأمريكية كانت ترغب في أن تظهر الأمم المتحدة غير فاعلة ومرتبكة في أي إجراء تتخذه . وقد عُهد بهذه المهمة إليّ وأنجزتها بنجاح هائل" . ومصطلحات "الولايات المتحدة" و"وزارة الخارجية" قد استُخدمت بروح داعرة شريرة من قبل هذا السيّد المفوّه لأن كليهما كانا مرادفين لهنري كيسنجر .

 

الضحايا يفضحون كيسنجر الكذّاب بعد عشرين عاماً من المذبحة:

بعد عشرين عاماً، في 11 تموز 1995، تمت مواجهة كيسنجر بأسئلة مباشرة حول الموضوع . فخلال حفل توقيع وترويج لكتابه الأخير "الدبلوماسية" في نيورورك (ولأنه حذف مأساة تيمور من مذكراته ومن كتابه هذا ومن حديثه) لم يكن يتوقع تساؤلات الخط الأول في القاعة . بدأ العرض "كونستانشيو بينتو" وهو قائد سابق في المقاومة التيمورية اُسر وعُذّب من قبل الجيش الإندونيسي وهرب إلى الولايات المتحدة:

بنتو: أنا تيموري . اسمي كونستانشيو بينتو وقد تابعت حديثك اليوم وكان مهما حقا . شيء واحد أعرفه لم تذكره وهو مكان غزته إندونيسيا في عام 1975. مكان في جنوب شرق آسيا . ونتيجة لهذا الغزو قُتل 200,000 إنسان في تيمور . وكما أعلم كان الدكتور كيسنجر في إندونيسيا في اليوم الذي سبق الغزو . وساندت الولايات المتحدة هذا الغزو. ولهذا أريد أن أعرف ما الذي كنت تفعله في ذلك الوقت .

كيسنجر: ما الذي كنت أفعله في ذلك الوقت ؟ هل تقصد كل الوقت أو الوقت المتعلق بتيمور ؟ ما لا يدركه أغلب الأشخاص الذين يتعاملون مع الحكومة هو واحد من أكثر التجارب إيلاماً لكونك في منصب عال. وجود مشكلات أكبر دائما مما يمكن أن تتوقعه في أي مرحلة محدّدة. وعندما تكون في سياسة دولية وتكون قوة عالمية هناك قضايا كثيرة جدا .. كان لدينا خلال ذلك الوقت، كانت هناك حرب مستمرة في أنغولا . كنا قد انسحبنا توّاً من فيتنام . كنا نجري مفاوضات في الشرق الأوسط . والوضع متفجّر في لبنان، وكنا في رحلة إلى الصين . قد لا نكون، للأسف، قد فكرنا بتيمور على الإطلاق. أنا أخبرك عن حقيقة الوضع آنذاك. السبب الذي كنا لأجله في إندونيسيا كان عرضيّاً . كان قصدنا الأساسي هو الذهاب إلى الصين. نحن تعني الرئيس فورد وأنا وآخرين . كان قصدنا الذهاب إلى الصين لخمسة ايام . وهي المدة التي كان فيها "ماو" [الرئيس الصيني آنذاك] مريضاً جدا وكان هناك اضطراب في الصين .. لهذا قطعنا الرحلة إلى الصين قبل موعدها .. لم يتم طرح قضية تيمور أبدا عندما كنا في إندونيسيا . في المطار عندما كنا نغادر أخبَرَنا الإندونيسيون بأنهم سوف يحتلون مستعمرة البرتغال في تيمور . بالنسبة لنا لم يبدو هذا الحدث مهماً جدا، لأن الهنود كانوا قد احتلوا مستعمرة البرتغاليين في "غوا" قبل عشر سنوات، وبدا الأمر بالنسبة لنا كإنهاء للإستعمار. لم يكن لأحد أدنى فكرة عمّا سيحصل لاحقاً، ولم يسألنا أحد عن رأينا، ولم أكن أعرف ماذا نقول لو طلب أحد رأينا ..

الآن كانت هناك مأساة إنسانية مرعبة في تيمور بعد ذلك . سكان تيمور قاوموا، ولا أعرف هل أن أرقام الخسائر صحيحة . أنا لا أعرف فقط، ولكن من المؤكد أنها عالية، ولا يوجد شك في أنها مأساة هائلة. كل ما أستطيع أن أخبرك به هو ما نعرفه في 1975، لم يكن هذا شيئا كبيرا على شاشة رادارك. لا أحد سمع ثانية عن "غوا" بعد أن احتلها الهنود .. وبالنسبة لنا كانت تيمور تبدو على الخريطة مثل لطخة لجزيرة وسط أرخبيل هائل، وكان نصفها برتغاليا . لم يكن لدينا سبب للقول بأن البرتغاليين سوف يبقون هناك ..

 

كيسنجر كذّاب.. كذّاب.. كذّاب:

ألن نيرن: سيّد كيسنجر، اسمي ألن نيرن، وأنا صحفي في الولايات المتحدة. وأنا واحد من الأمريكيين الذين نجوا من مجزرة تيمور الشرقية في 12 نوفمبر 1991، مجزرة قتلت فيها القوات الإندونيسية المجهزة بالسلاح الأمريكي 271 مدنيا تيموريا على الأقل في مقبرة سانتا كروز عندما كانوا متجمعين في اجتاج وحزن سلميين . الآن أنت تقول بأنك في اجتماعك مع سوهارتو في ظهيرة يوم 6 كانون الأول/ ديسمبر 1975 لم تناقش قضية تيمور، لم تناقشها إلى أن وصلت إلى المطار . طيّب، لدي الآن التصريح الرسمي عن اجتماعكما أنت والرئيس فورد مع سوهارتو ؛ ديكتاتور إندونيسيا، لقد تم نشره تحت قانون حرية المعلومات، وواضح من النص المنشور بأنك قد ناقشت الغزو الوشيك لتيمور مع سوهارتو، وهي حقيقة أكّدها لي الرئيس فورد نفسه في مقابلة لي معه . أخبرني الرئيس فورد أنك ناقشت الغزو الوشيك لتيمور مع سوهارتو وأنك أعطيت الولايات المتحدة.

كيسنجر (مقاطعاً): من ؟ أنا أم هو ؟

نيرن: أنت والرئيس فورد سويّة أعطيتم موافقة الولايات المتحدة على غزو تيمور . وهناك مذكرة أخرى داخلية من وزارة الخارجية . تعود هذه المذكرة إلى يوم 18 ديسمبر 1975 حيث عقد اجتماع في وزارة الخارجية. هو اجتماع عُقد مباشرة بعد عودتك من رحلتك، وكنت توبّخ فريقك لأنه قدّم مذكرة تحمل رأي المستشار القانوني للوزارة السيّد ليغ يقول فيها بأن الغزو الإندونيسي لتيمور غير شرعي، وأنه لا يخرق فقط القانون الدولي بل يخرق قانونا أمريكيا بعدم جواز استخدام الأسلحة الأمريكية في الغزو، وأنا أدعو كل الحاضرين في القاعة إلى قراءة المخطوطة التي يظهر واضحا فيها بأنك كنتَ غاضباً لأنك خفتَ أن هذه المذكرة سوف تتسرّب أوّلاً، وثانياً لأنك كنت تساند الغزو الإندونيسي لتيمور الشرقية . وإذا نظر أحدنا إلى الوضع العام آنذاك، سيجد أن القوات الإندونيسية قد قامت بذلك الإنزال المظلي على العاصمة ديلي بعد 16 ساعة فقط من اجتماعك مع سوهارتو . لقد نزلوا على الشاطيء أيضاً وبدأوا المجازر التي لم تتوقف إلّا بعد أن قُتل ثلث سكان تيمور الشرقية . فأعلنتَ أنتَ مضاعفة المساعدة العسكرية المقدّمة من الولايات المتحدة إلى إندونيسيا في ذلك الوقت ..

كيسنجر: أنتظر، أعتقد أننا جميعا فهمنا المسألة

نيرن: سؤالي سيد كيسنجر، سؤالي سيّد كيسنجر من شقّين، الأوّل: هل قدّمتَ تنازلا تحت قانون الخصوصية لمساندة رفع السرية الكامل عن المذكرة بحيث نرى بصورة دقيقة ماذا قلت أنت والرئيس فورد لسوهارتو ؟ والثاني، هل ستساند اجتماع محكمة جرائم الحرب الدولية بإشراف الأمم المتحدة لبحث موضوع تيمور الشرقية، وهل ستوافق على الخضوع لحكمها في ما يتعلق بسلوكك في هذه القضية.

(أتمنى على السيّد القارىء ملاحظة سلوك كيسنجر في ردوده الذي هو أكثر ارتباطاً بسلوك السفلة القوّادين أو العاهرات من سلوك سياسي دكتوراه في السياسة) .

كيسنجر: أنا أقصد، حقاً، هذا النوع من التعليق هو واحد من الاسباب التي تجعل قواعد السياسة الخارجية تصبح مستحيلة تقريباً في مثل هذه الظروف . هنا زميل لديه بعض الهواجس والشكوك .. لقد جمع حزمة من الوثائق .. أنتم لا تعرفون ماذا في هذه الوثائق ..

نيرن: أنا أدعو مستمعيك إلى قراءة هذه الوثائق .

ومن المهم ملاحظة تفكّك خطاب كيسنجر المتماسك والمقتدر عادة في الجواب الأخير . ومن المهم أيضاً ملاحظة عمليات آلية الإنكار - denial لديه ايضاً . ومن الخصائص الخطيرة لدى هذا الشخص هو أنه يتنفّج دائما بمصلحة الولايات المتحدة العليا ومصلحة الوطن، وكتاباته وأحاديثه مُتخمة بموضوع "المصداقية"، والحاجة للتأثير في الأصدقاء والأعداء بعزم اميركا الذي لا يلين، ولكن عند مواجهته بأي تحقيق يشمله في جريمة أو مخالفة، نجده ينطلق نحو الإستهانة ببلاده، وتحقير موظفيها المحترفين، واتهامهم بأنهم مهملون، يعرفون القليل، ويهتزون تحت ضغط الأحداث. كما نجده يلوذ بنوع من الإنعزالية الديماغوجية . ويصل هذا إلى حدّ الزعم بأن الولايات المتحدة هي خصم ضعيف أمام جمهوريات الموز الطامحة .

 

مُختص بالكذب الهستيري المُرتجل:

وهذا القلب شبه الواعي للخطاب يقود أيضا إلى نوبات متكررة من الكذب الهستيري المُرتجل (تذكّر زعمه للصينيين بأن السوفيت هم الذين حرّضوا الأتراك على غزو قبرص) . ومقارنة فكرة غزو إندونيسيا لتيمور باحتلال الهند لجزيرة "غوا" هي فكرة غريبة جدا لتُقتبس في أي اعتذار سابق أو لاحق . وما كان يبغيه كيسنجر من هذه المقارنة هي السرعة التي تم بها نسيان احتلال غوا . وما تناساه كيسنجر هو أنها نُسيت لأنها أولا لم تكن دموية مثل اجتياح تيمور، وثانيا أنها أكملت استقلال الهند. تيمور مثّلت تعزيز استعمار إندونيسيا. كما أنه من الواضح تماما أن غزو إندونيسيا لتيمور الذي حصل بعد ساعات من مغادرته مطار جاكارتا قد تم الإعداد له لأيام عديدة قبل وصوله . ومثل هذه الخطط كان يستطيع أن يعرفها اي ملحق عسكري في سفارة وأي وزير خارجية أمريكي زائر.

نحن لدينا في الواقع كلمة "فيليب ليشتي" ضابط عمليات وكالة المخابرات المركزية السابق في إندونيسيا:

"سوهارتو أعطي الضوء الأخضر للقيام بما قام به. كانت هناك مناقشة في السفارة وفي الاتصالات مع وزارة الخارجية حول المشكلات التي ستحصل لنا إذا عرف الراي العام والكونغرس بمستوى ونوع المعونة العسكرية التي كانت تُرسل إلى أندونيسيا في ذلك الوقت.. وبدون المساعدة العسكرية الأمريكية الكبيرة لم يكن بإمكان الإندونيسيين القيام بذلك الغزو".

حتى وزير خارجية إندونيسيا "آدم مالك" أكّد بصورة علنية أن عدد القتلى كان بين 50,000 و 80,000 مدني تيموري خلال أول ثمانية عشر شهرا من الغزو الإندونيسي ؛ بعبارة أخرى تحت رقابة كيسنجر وبالأسلحة التي خرق بها القانون الأمريكي لمساعدة القتلة في حين أن القانون الأميركي ينص على استخدامها للدفاع عن النفس فقط.

 

مذكرة منتسبي وزارة الخارجية التي أثارت غضب كيسنجر:

موظفو وزارة الخارجية المدركون للقانون، استنتجوا أن المساعدة الأميركية لجنرالات جاكارتا يجب أن توقف فورا . ومذكرتهم التي لخّصت هذه الحالة كانت السبب في الاضطراب الداخلي الهائل الذي حصل في وزارة الخارجية وانعكس على الحالة العصبية والهياج اللذين أصابا هنري كيسنجر وهو يحاسب - وبشدّة - مظفي الوزارة لرفعهم برقية تشير إلى لاقانونية الغزو الإندونيسي لجزيرة تيمور الشرقية وبالتالي لاقانونية المساعدات العسكرية التي أمر بها كيسنجر . كان كيسنجر عصبيّاً جدا ويكرر تخوّفه من تسرّب البرقية .

لم يخرج أحد من هذا الإجتماع بصورة جيدة أبداً، ويمكن أن نلاحظ أن كيسنجر وعلى العكس من تصريحاته العلنية: (1) امتنع عن أي ذكر لـ "غوا" (2) لم يتردد في كشف مواقفه وتوبيخ مرؤوسيه لكونهم بلداء ولا يعرفون تلك المواقف (3) لم يُظهر أي شعور بالمفاجأة لما حصل في تيمور الشرقية (4) أقرّ بأنه قد خرق القانون (5) شعر بأن من الضروري أن يعلن بأنه لا يستفيد شخصياً من شحنات الأسلحة إلى إندونيسيا، وهو إنكار لم يسأله عنه أحد !!

ثم ظهرت وثائق رُفعت عنها السرية بصورة كاملة لكنها تم حذف سطور وجمل منها بصورة رسمية، ولكنها كشفت حماس الإدارة الأمريكية في الاستمرارا بتزويد جاكارتا بالأسلحة والتجهيزات العسكرية للقوات الجوية والبحرية والبرية الإندونيسية .. كما كشفت أيضا عن إلحاح الجنرالات الإندونيسيين على سوهاتو كي يطرح قضية احتلال تيمور في اجتماعه المقبل مع فورد وكيسنجر والحصول على تعاطفهما وتأييدهما .

 

سادساً: إسقاط الديمقراطية في شيلي واغتيال وزير الدفاع:

(1) شيلي: عندما يصبح رجل السياسة قاتلاً مأجوراً:

في تعبير شهير عن تعلّقه بالديمقراطية، قال كيسنجر مرّة أنّه "لا يرى سبباً يدعو للسماح لبلد معيّن أن يصبح شيوعياً بسبب عدم شعور شعبه بالمسؤولية". والبلد المعني كان شيلي الذي كان في وقت تعليقه هذا يحظى بسمعة ديمقراطية ممتازة بصفته البلد الأكثر تطوّراً من ناحية التعدّدية الديمقراطية في النصف الجنوبي من الأمريكيتين. وهذه التعددية كان يعبر عنها في صناديق الاقتراع كثلث للمحافظين، وثلث للشيوعيين والاشتراكيين، وثلث للمسيحيين الديمقراطيين والوسط. وهذا الترتيب يجعل من العسير على الماركسيين الوصول إلى السلطة، وهذا ما ضمنته وكالة المخابرات الأمريكية منذ عام 1962 كما كان الحال في إيطاليا مثلاً . لكن في انتخابات عام 1970 حصل مرشحوا اليسار على أغلبية أصوات بمقدار 36,2% في الإنتخابات الرئاسية، وهي نسبة ضمنت أن يكون سلفادور ألندي هو الرئيس المُقبل لشيلي . ولكن اسم سلفادور ألندي كان يمثل لعنة لليمين المتطرف في شيلي، ولبعض الشركات الكبرى القوية (ITT الأميركية للاتصالات، وبيبسي كولا، وبنك مانهاتن لصاحبه روكفلر) التي تقوم بأعمال في شيلي والولايات المتحدة، ولوكالة المخابرات المركزية الأميركية.

 

إسقاط التجربة الديمقراطية من أجل عيون شركة بيبسي كولا:

هذا التقزّز أوصل نفسه بسرعة إلى الرئيس نيكسون الذي كان شخصيّاً مديناً لـ "دونالد كندال" رئيس شركة بيبسي كولا الذي قدّم له قيمته العالمية الأولى حينما ارتبط – كسياسي فاشل – بمؤسسة وول ستريت القانونية . وخلال أحد عشر يوما من فوز ألندي بالإنتخابات عُقدت سلسلة اجتماعات في واشنطن لتحدّد مصير الديمقراطية في شيلي. وبعد مناقشات طويلة مع دونالد كندال، وديفيدروكفلر صاحب بنك مانهاتن، وريشارد هيلمز مدير وكالة المخابرات الأميركية، ذهب كيسنجر مع ريشارد هيلمز إلى المكتب البيضاوي للقاء بالرئيس نيكسون . وحسب ملاحظات هيلمز فإن نيكسون لم يهدر وقتا في الإعلان عن رأيه:

"هاكم 10,000,000 دولار .. وإذا أردتم المزيد .. اجعلوا الاقتصاد الشيلي يصرخ .. لديكم 48 ساعة لوضع خطة للعمل .. ليتفرّغ أفضل رجالنا للعمل بوقت كامل" .

وحسب الوثائق التي رُفعت عنها السرّية فإن كيسنجر الذي لم يكن يعرف بشيلي سابقا ولم يهتم بها، وصفها وبدون سابق إنذار بأنها "خنجر مصوّب إلى قلب أمريكا الجنوبية"، وأخذ دوره بجدّية للتأثير في رئيسه. عقدت مجموعة عمل اجتماعا في وكالة المخابرات الأميركية ووضعت خطة عمل من مسارين: الأول دبلوماسي مُعلن، والثاني سرّي غير معروف حتى من قبل وزارة الخارجية أو سفير الولايات المتحدة في شيلي "إدوارد كوري" وتقوم استراتيجيتها على الفوضى والخطف الإغتيال للإعداد لانقلاب عسكري.

 

التخطيط لاغتيال وزير دفاع شيلي المؤيّد للديمقراطية:

كانت هناك معوّقات قصية الأمد وأخرى طويلة الأمد تعيق احتضان مثل هذا التدخل، خصوصا أن ألندي سوف يؤدي القسم بعد مدة قصيرة. المعوّق الطويل الأمد يتمثل في تقليد الامتناع العسكري عن التدخل في السياسة في شيلي، وهو تقليد ميّز البلد عن جيرانه. مثل هذه الثقافة العسكرية لا يمكن تغييرها بين ليلة وضحاها. أما المُعوِّق قصير الأمد فيتمثل في شخص فرد واحد هو الجنرال "رينيه شنيدر" قائد الجيش في شيلي والذي كان يعارض أي تدخل من قبل الجيش في مسارات الانتخابات. ووفق ذلك اتُخذ القرار في اجتماع يوم 18 ايلول 1970 بضرورة التخلّص من الجنرال شنيدر.

وكانت الخطة التي وثقها الصحفي الشهير "سيمور هيرش" وآخرون، تقوم على أساس خطف الجنرال بطريقة تُظهر أن السبب في ذلك هم ألندي ومناصروه. وسيؤدي الاضطراب – كما كان يأمل المُخططون – إلى قيام الكونغرس الشيلي في منع ألندي من تولي الرئاسة. تم تخصيص 50,000 دولار لأي ضابط أو مجموعة ضباط يظهرون استعدادا للقيام بالمهمة [وكأننا في مزاد علني للإنقلابات! ]. هيلمز في ملاحظاته عن العملية كان متشائما واخبر كيسنجر بأن الفرصة ضئيلة للنجاح . لكن كيسنجر طلب منه الاستمرار في الضغط مهما كلف الأمر.

علينا أن نتوقف هنا للمراجعة والتقييم: مسؤول غير مُنتخب في الولايات المتحدة يجتمع مع آخرين، بدون علم أو تفويض من الكونغرس، ليخطط لاختطاف مسؤول كبير معيّن دستوريا في بلد ديمقراطي لم يكن في حالة حرب مع الولايات المتحدة ويحتفظ بعلاقات رسمية مستقرة معها . أليس هذا شكل من أشكال إرهاب الدولة ؟

السفير إدوارد كوري أبلغ موظفي سفارته بعدم التعامل مع مجموعة:

"Patria y Libertad "، وهي مجموعة شبه فاشية في شيلي تعارض نتائج الانتخابات، وأرسل برقيتين إلى مرؤوسيه في واشنطن يحذّر من التعامل معها، ولم يكن يعلم أن ملحقه العسكري في سفارته قد أُبلغ بالتعاون مع هذه المجموعة وإخفاء الحقيقة عنه. وحين أعلن الرئيس المغادر "إدواردو فري" بأنه يعارض أي تدخّل أمريكي وسيصوّت لصالح الرئيس المنتخب شرعيا ألندي، هنا انتبه كيسنجر نحو هذه العصابة للتعامل معها . في 15 أيلول 1970، أُخبر كيسنجر عن جنرال من الجناح اليميني المتطرف اسمه "روبرتو فايوكس" متعاون مع المجموعة الفاشية ويتقبل الخطة الأميركية السرّية لخطف الجنرال شنيدر. أمرت مجموعة كيسنجر للمسار الثاني بتزويد مجموعة الجنرال فايوكس بالأسلحة الرشاشة والقنابل المسيلة للدموع، ولم تستفسر منهم عمّا سيفعلوه بالجنرال شنيدر بعد اختطافه.

 

الوثائق تفضح كيسنجر الكذأب القاتل:

لندع الوثائق تتكلم: هناك برقية مُرسلة إلى مجموعة كيسنجر للمسار الثاني من العاصمة سانتياغو بتاريخ 18 تشرين الأول 1970، الأسماء فيها ممسوحة للسرّية، تشير إلى لقاء سرّي بضابطين شيليين يوم 17 تشرين الأول 1970 طلبا عشر قنابل مسيلة للدموع، وثلاث بنادق آلية، وخمس مئة إطلاقة، خلال 48 ساعة للعمل بسرعة لأنهم يشعرون بأنهم تحت شكوك ألندي. وأن مجموعتهم تحت قيادة أدميرال (لم يُحدّد اسمه) . ثم تشير البرقية إلى تسليم ست قنابل مسيلة للدموع وثلاث بنادق آلية للمجموعة يوم 18 تشرين الأول مساءً . تأتي برقية مرسلة من واشنطن تبلغ المُرسل بأنهم سوف يرسلون القنابل المسيلة للدموع والبنادق الآلية والذخيرة يوم 19 تشرين الأول حتى لو استخدم البريد الدبلوماسي الخاص .

والروعة الكاملة لهذه البرقية لا يمكن تقديره بدون قراءة برقية أسبق منها مؤرخة في 16 تشرين الأول (ولاحظ أن ألندي سوف يؤدي القسم أمام الكونغرس الشيلي يوم 24 من ذلك الشهر):

"سياسة وأهداف وأفعال تمت مراجعتها من قبل الحكومة الأميركية مساء 15 تشرين الأول وستكون دليل عملكم، وكما يلي:

إنّها سياسة ثابتة وحازمة بأن سلفادور ألندي يجب أن يتم إسقاطه بانقلاب . ومن الافضل أن يتم ذلك يوم 24 من الشهر، وأن تستمر الجهود في هذا الإطار بتركيز أكبر بعد ذلك التاريخ، يجب أن نستمر في توجيه الضغط الأقصى لتحقيق هذه الغاية مستخدمين كافة الموارد المتيسرة بشرط أن يتم ذلك بصورة سرّية وخفيّة تضمن عدم ظهور أيادي الحكومة الأميركية . ثم تطلب الرسالة الاتصال بالجنرال فايوكس والطلب منه بعدم القيام بالانقلاب في الوقت الحاضر لأنه لن ينجح، وأن يستمر في التعاون مع الولايات المتحدة في التحضير للانقلاب وأنه ستُقدم له المساعدات المطلوبة .

ثم تدعو الرسالة إلى مراجعة كافة الأساليب القديمة والجديدة واستخدام كل السبل لتحقيق هذه الأهداف: الدعاية، العمليات السوداء، الاتصالات الشخصية، التضليل الاستخباراتي، أو أي وسائل "يستحضرها خيالك" وتتيح لك المضي قدما لتحقيق هذه الأهداف بطريقة سرّية .

ثم يأتي محضر اجتماع الحكومة يوم 15 تشرين الأول 1970 الذي اشارت إليه الرسالة السابقة، ولم يكن أكثر من الدكتور كيسنجر ووزير الدفاع الجنرال هيغ والسيّد "كاراميسينس" الذي نظم العديد من العمليات السرية في امريكا اللاتينية، وفي هذا الاجتماع طلب كيسنجر من كاراميسينس أن تستمر وكالة المخابرات المركزية في استعداداتها للقيام بانقلاب عسكري ..

وقد ظهر في الاجتماع أن المسار الثاني السري من الخطة صار لديه مساران أيضاً: الأول يقوده الجنرال فايوكس ومجموعته وظهر أن هؤلاء غير مرغوب فيهم من قبل الأوساط العسكرية، والثاني أكثر علنية واحتراما يقوده الجنرال "كاميلو فالنزويلا" قائد حامية العاصمة.

وكما ظهر في مذكرة 15 تشرين الأول المعروضة أعلاه فإن كيسنجر وكاراميسسينس قد طوّرا فكرة ثانية في الدقيقة الأخيرة من الاجتماع مفادها أن الجنرال فايوكس الذي سلمته محطة وكالة المخابرات 20,000 دولار يوم 13 تشرين الأول، ووعدته ببوليصة تأمين على الحياة مقدارها 250,000 دولار . هذا العرض جاء مباشرة من البيت الأبيض بتوجيه صارم من الرئيس نيكسون الذي كان يرى إن من المحتم أن لا يتم انتخاب ألندي للرئاسة، حيث بدأ الضغط يشتد على مجموعة فالنزويلا، فشعر فايوكس بالحماسة خصوصا أمام كلمات التشجيع الدافئة التي حملتها الرسالة السابقة إليه، ولكي يخيب ظنون من كانوا يشكّون في كفاءته.

في مساء 19 تشرين الأول 1970، قامت مجموعة فالنزويلا بمساعدة عصابة فايوكس ومسلحة بالقنابل المسيلة للدموع بمحاولة اختطاف الجنرال شنيدر الذي كان خارجا من عشاء رسمي، ولكن العملية فشلت لأن شنيدر خرج بسيارة مدنية شخصية وليس بسيارته الرسمية . وصلت رسالة شديدة اللهجة من مقر وكالة المخابرات المركزية تدعو للقيام بمحاولة ثانية سريعة حسب طلب مراجع عليا .. وتم إعطاء فالنزويلا ومساعده 20,000 دولار، فجرت محاولة ثانية يوم 20 تشرين الأول، لكنها فشلت أيضاً، وفي المحاولة الثالثة يوم 22 تشرين الأول قامت عصابة الجنرال فايوكس بقتل الجنرال شنيدر.

 

أدلة قاطعة على مسؤولية المجرم كيسنجر عن قتل وزير دفاع شيلي:

يمكن القول وبثقة أن هنري كيسنجر يتحمل المسؤولية المباشرة عن قتل الجنرال شنيدر كما تثبت ذلك النقاط التالية:

(1) "بروس مكماستر" واحد من عملاء السي آي إيه يحمل جواز سفر كولومبي ويدّعي أنه يمثل مصالح أمريكية في شيلي أفصح عن جهوده في توصيل أموال - كرشوة للسكوت - لأعضاء مجموعة فايوكس المسجونين بعد الإغتيال وقبل أن يورّطوا الوكالة.

(2) الكولونيل "بول ويمرت" قنصل عسكري في سانتياغو، ورئيس مستشاري الـ CIA مع مجموعة فالنزويلا، شهد بأنه بعد مقتل شنيدر استعاد البنادق الآلية وقاد سيارته إلى شاطىء البحر حيث رمى البنادق في البحر، كما شهد شريكه في محطة الوكالة "هنري هكشر" بأنه أبلغ واشنطن بأن فالنزويلا أو فايوكس سيكون قادرا على إزاحة شنيدر وبالتالي البدء بانقلاب .

(3) مذكرة كيسنجر /البيت الأبيض في 15 تشرين الأول تدعو فايوكس إلى عدم القيام بالانقلاب وتوفير جهوده وتنظيم جماعته .. وأنها ستستمر في دعمه .. إلخ.

(4) في الرسالة قلق المراجع العليا عن فشل المحاولة الأولى ... إلخ .. وحين سُئل ثوماس كاراميسينس من قبل الكونغرس عن المقصود بالمراجع العليا قال إن المقصود هو هنري كيسنجر.

 

(2) شيلي: موت في الجنوب:

في 9 تشرين الثاني 1970 حرّر هنري كيسنجر مذكرة قرار مجلس الأمن القومي 93 التي راجعت السياسة تجاه شيلي مباشرة بعد تولي سلفادور ألندي الرئاسة. اقترحت المذكرة وسائل المضايقات الاقتصادية التقليدية (لأن نيكسون قال يجب جعل الاقتصاد يصرخ) مع قطع المساعدات وإيقاف الاستثمارات، والأهم هو أن كيسنجر دعا إلى الحفاظ على علاقات وثيقة بالقيادات العسكرية في البلدان المجاورة لشيلي من أجل تنسيق الضغوط على شيلي واحتضان المعارضة داخل البلاد. وباختصار كانت هذه هي الأطر العامة لـ "عملية كوندور – Operation Condor" وهي عملية تحالف بين الديكتاتوريات العسكرية في أمريكا الجنوبية بإشراف ومعاونة الولايات المتحدة .

 

يكذب على الكونغرس ويلح على معرفة تفاصيل مجازر الانقلابيين:

عندما حصل الإنقلاب ضد ألندي في 11 ايلول 1973 كذب هنري كيسنجر على لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس حين قال بأن حكومة الولايات المتحدة لم يكن لها أي يد في الانقلاب . ولا يحتاج المرء أكثر من مراجعة تقرير الوضع رقم 2 المرفوع من القنصل البحري الأمريكي في شيلي "باتريك ريان" الذي يصف فيه علاقاته الجيّدة بالضباط الذين اسقطوا ألندي ويصف يوم الإنقلاب بأنه "يومنا"، أو يراجع الوثيقة التي رُفعت عنها السرية والتي تكشف اتصالات وكالة المخابرات المركزية بكيسنجر ولجنة الأربعين حول القيام بعملية سرية ولاشرعية ضد الحكومة الشيلية المنتخبة.

وما هو أفظع من ذلك هو أن كيسنجر كان يلح على أن تصله تقارير تفصيلية عن مجازر طغمة بينوشيه العسكرية الديكتاتورية، وقد أرسل إليه معاونه "جاك كوبيش" تقريرا بدأه بملاحظة "كما طلبت ببرقية من طوكيو" . والمذكرة تشير إلى إعدام 320 مواطنا خلال أول 15 يوما من الانقلاب العسكري .

ثم رفع كوبيش السؤال المُحرج عن مقتل اثنين من المواطنين الأمريكيين من قبل الطغمة العسكرية، اللذين ما زالت عوائلهما تبحث عن مصيرهما لأكثر من ربع قرن . وسبب طول البحث يمكن استخلاصه من برقية مؤرخة في 11 شباط 1974 حيث عقد اجتماع مع وزير خارجية الطغمة العسكرية، والملاحظة التي طرحها كوبيش عن الأميركيّيْن المفقودَيْن "في إطار الحاجة للحفاظ على قضية صغيرة في علاقتنا قد تجعل تعاوننا أكثر صعوبة..."

 

كيسنجر مبتكر عولمة فرق الموت:

وكعودة عبر هذه المداورة إلى عملية كوندور ؛ كوندور هي عمليات استخباراتية قذرة عابرة للحدود للاغتيال والاختطاف والتعذيب والإرهاب بالتعاون والتنسيق بين البوليس السري لشيلي بينوشيه، وباراغواي ستروسنر، وأرجنتين فيدال، وسفاحي المنطقة الآخرين، عولمة فرق الموت هذه كُشف الآن عن أنها مسؤولة عن قتل المعارض الجنرال كارلوس براتس وزوجته من شيلي في بوينس آيرس، وقتل الجنرال البوليفي خوان توريس في الأرجنتين أيضاً، والسناتور الديمقراطي الشيلي برناردو لايتون في إيطاليا، .. والعشرات غيرهم .

وقد قام فريق من كوندور بتفجير سيارة في واشنطن في أيلول 1976 أدت إلى مقتل وزير خارجية شيلي السابق أورلاندو ليتليه ومساعده روني موفيت . وقد كُشف تواطؤ الولايات المتحدة مع هذه الشبكة على كل المستويات، فعلى سبيل المثال ساعد مكتب المباحث الفيدرالي بينوشيه في القبض على "جورج إسحاق فيونتس" الذي اعتُقل وعُذب في باراغواي، ثم نُقل إلى شرطة شيلي السرية حيث "اختفى" . والعجيب أن مسح اللاجئين الأمريكيين اللاتينيين المعارضين في الولايات المتحدة قد قُدَّم لشبكة كوندور من قبل الاستخبارات الأميركية .

 

الوثائق تكشف: كيسنجر يتملق السفّاح بينوشيه:

الطغاة نالوا جزاءهم: أُسقط سترويسنر، وفيدال في السجن، وبينوشيه قُدّم للمحاكمة في شيلي (آنذاك) .. أما كيسنجر فما يزال حرّاً . كل الجرائم السابقة حصلت تحت رقابته وبتخطيطه المباشر أو الغير مباشر، ولا يستطيع أي أحد القول بأنه لم يكن يعلم أو يكترث بما يجري .. ففي مذكرة سرية رُفعت عنها السرية عام 1999 وتتضمن تفصيلات مؤلمة عن محادثة خاصة جرت بين كيسنجر وبينوشيه في سانتياغو العاصمة في شيلي في 8 حزيران 1976 يظهر تواطؤ وتآمر وكذب وقذارة كيسنجر الرهيب.

عُقد الاجتماع قبل يوم واحد من إعلان كيسنجر عن منظمة دول أمريكا اللاتينية . كان الموضوع هو حقوق الإنسان. كان كيسنجر متألماً لأنه سوف يقدّم بعض الملاحظات عن هذا الموضوع والتي يجب أن تؤخذ جدّياً . وقد تمت مقارنة مذكرة المحادثة هذه بالوصف الذي قدّمه كيسنجر للاجتماع في الجزء الثالث من مذكراته: دفاع، سنوات التجديد:

المذكرات: خصصتُ الجزء الأكبر من الوقت في حواري مع بينوشيه لحقوق الإنسان، والتي كانت، في الواقع، العائق الأساسي أمام بناء علاقات وثيقة بين الولايات المتحدة وشيلي . بيّنت النقاط الاساسية لخطابي في منظمة الدول الأمريكية الذي سألقيه في اليوم التالي . لم يقم بينوشيه بأي تعليق .

وثيقة المحادثة السرّية: سأعالج حقوق الإنسان بعبارات عامة، وحقوق الإنسان في إطار عالمي، سأشير بمقطعين إلى تقرير لجنة حقوق الإنسان عن شيلي . وهذا يعود جزئيا إلى أفعال مرتبطة بالكونغرس، وسوف أضيف بأنني آمل بأنك سوف تزيل هذه العوائق ... لا أستطيع القيام بأقل من ذلك من دون أن أسبّب ردود فعل في الولايات المتحدة ستؤدي إلى تحديدات قانونية . الخطاب ليس المقصود منه شيلي . أنا أود أن أخبرك حول هذا الأمر . تقييمي هو أنك ضحية لكل مجموعات اليسار في العالم، وأن ذنبك الأكبر هو أنك أسقطت حكومة كانت ستصبح شيوعية .

المذكرات: كوزير للخارجية، شعرت بالمسؤولية لتشجيع الحكومة الشيلية في اتجاه ديمقراطية أكبر من خلال سياسة التفهّم لانشغالات بينوشيه. ذكّرني بينوشيه بأن "روسيا ساندت شعبها 100% . نحن خلفك. أنت القائد. لكن لديك نظام عقابي لأصدقائك. عدتُ إلى مشهدي الأساسي بأن أي مساعدة كبيرة منّا ستعتمد على التقدّم في مجال حقوق الإنسان.

وثيقة المحادثة السرّية: هناك جدارة في ما تقوله. إنّه وقت عجيب في الولايات المتحدة .. إنّه وقت منحوس. نحن في خضم فيتنام ووترغيت. يجب أن ننتظر حتى انتخابات 1976 . نحن رحّبنا بإسقاط الحكومة الشيوعية هنا . نحن لن نعمل على إضعاف موقفك.

بطريقة غير مريحة، ذكر بينوشيه لمرتين اسم أورلاندو ليتريه القائد المعارض الشيلي المنفي، متهماً إياه بتضليل كونغرس الولايات المتحدة . رد فعل كيسنجر، كما يمكن أن يُرى، كان الإعتذار عن الكونغرس واقتراح أن الديكتاتور يأمل بأيام أفضل بعد الانتخابات المقبلة . بعد ثلاثة أشهر، قَتَل انفجارُ سيارةٍ في واشنطن ليتريه، الإنتهاك الوحيد الذي اقترف في عاصمة الأمة من قبل عملاء نظام أجنبي (وهي حادثة غائبة تماماً عن مذكرات كيسنجر) . الرجل المسؤول عن تدبير الجريمة وهو الجنرال "مانويل كونتريراس" رجل البوليس السري الشيلي الذي لا يقوم بأي فعل بدون أمر شخصي مباشر من بينوشيه.

 

مذكرات الكذّاب كلّها أكاذيب:

"أريد رؤية علاقتنا وصداقتنا تتحسن"، أخبر كيسنجر الديكتاتور بينوشيه (ولكن لم يخبر قرّاء مذكراته بذلك)؛ "نريد أن نساعدك لا أن نُضعفك" . بنصحه قاتلاً وطاغيةً بهذه الطريقة، صار دوره أن يساعد على فرضه، وبإهماله ملاحظاته التالية كرشوة للكونغرس، فإن كيسنجر يهين الديمقراطية في كلا البلدين. إنّه يقدّم أيضاً الألوان الأكثر اخضراراً للإرهاب المضاف الداخلي والعابر للحدود، وكل منهما ليس غير معروف تماماً من قبله. (في مذكراته ذكر ما سمّاه وكالة بينوشيه الإستخبارية المضادة للإرهاب !!) .

تآمر إضافي لكيسنجر مع بينوشيه ضد كونغرس الولايات المتحدة، الذي كان ينظر في قطع مبيعات الأسلحة لمن يخرق حقوق الإنسان بواسطة "تعديل كنيدي"، حيث علّق كيسنجر بتزلّف:

"لا أدري هل أصغيت لي على الهاتف، ولكن إذا فعلت وسمعتني أوضح التعليمات لواشنطن كي [نهزم تعديل كنيدي] إذا هزمناه نستطيع منحك طائرات F-5E كما اتفقنا على أن نفعل" . (أليس هذا شكل من أشكال الدعارة السياسية ؟) .

إن المقطع السابق يجعلنا نضع في أذهاننا الأكاذيب التي ضمّتها مذكرات كيسنجر، وهو دعوة لأعضاء الكونغرس، ومنظمات حقوق الإنسان لإعادة فتح التحقيقات التي لم يتم إكمالها في جرائم تلك المرحلة. كما أن الشعب الشيلي مدعو لمقاضاة هذا الرجل على الإساءة التي وصمه بها كيسنجر حين قال إنه شعب لا يشعر بالمسؤولية، وهو شعب جليل ونبيل، عانى ما هو أكثر من الإهانة اللفظية على يديه.

 

العهر في تقرير وكالة المخابرات المركزية عن انقلاب شيلي:

في الولايات المتحدة هناك قاعدة قانونية تعاقب الموظفين الذين يتأخرون في تقديم المعلومات وليس في إخفائها فقط، في أيلول 2000، "تقيّأت" الـ CIA نتائج تحقيق حول شيلي كان مطلوبا منها رسمياً. هذا التقرير أدهش كل الباحثين والمراقبين من ناحية السفالة والقذارة والجسارة التي تتمتع بها وكالة المخابرات المركزية الإمريكية:

(المؤيدون لانقلاب في 1970 تحت "المسار 11" من الخطة الستراتيجية، حاولت الوكالة تدبير انقلاب يمنع ألندي من تسلّم الرئاسة بعد أن فازبالانتخابات في 4 أيلول وقبل الإقرار الدستوري لأنه لم يفز بالأغلبية المطلقة، الكونغرس الشيلي أكّد انتصاره. عملت الوكالة مع ثلاث مجموعات من المتآمرين، كلّها اتفقت على أن أي انقلاب لن ينجح إذا لم يتم خطف قائد الجيش رينيه شنيدر الذي كان يشعر بعممق أن الدستور يفرض أن يتسلّم ألندي السلطة. اتفقت الوكالة مع هذا التقييم. وعلى الرغم من أنها زوّدت إحدى المجموعات بالسلاح، لم نجد معلومات تدل على أن المتآمرين أو الوكالة كانت لديهم النيّة في قتل الجنرال . ألغت الوكالة مبكراً التعاون مع إحدى المجموعات بسبب ميولها المتطرفة، قدّمت الوكالة قنابل مسيلة للدموع وبنادق آلية وذخيرة للمجموعة الثانية، التي أصابته بجروح قاتلة خلال الهجوم. كانت الوكالة قد شجّعت هذه المجموعة على القيام بانقلاب ولكنها سحبت تأييدها قبل أربعة أيام من الهجوم لأن الوكالة شعرت بأن المجموعة لن تستطيع تنفيذ الانقلاب بنجاح".

هذا يعيد علينا النقاش السخيف للتمييز بين الخطف والقتل، ويثير من جديد السؤال المزعج: ماذا كانت الوكالة ستفعل بالجنرال شنيدر بعد اختطافه ؟ (ولاحظ أيضاً، البساطة التي يقول فيها التقرير: " لم نجد معلومات تدل على أن المتآمرين أو الوكالة كانت لديهم النيّة في قتل الجنرال" . ما الذي سيحدّد هذه النيّة العجيبة ؟ ولكن الآن سنعلم أن هذه المجموعة المنفلتة قد أخذت تعليماتها بصورة جدّية).

لنواصل قراءة الوثيقة:

"في تشرين الأول 1970 أعاد عضو من مجموعة فايوكس أفلت من الاعتقال، الإتصال بالوكالة وطلب دعما مالياً لصالح المجموعة . وعلى الرغم من أن الوكالة ليس عليها التزام تجاه المجموعة لأنها تصرفت لصالحها، ولكن كمحاولة للحفظ على الارتباط السابق سرّياً، والحفاظ على الإرادة الطيبة للمجموعة، ولأسباب إنسانية، قدّمت 35,000 دولار لها" .

 

وكالة المخابرات المركزية تساعد قتلة وزير دفاع شيلي بـ 35 ألف دولار لاسباب إنسانية !:

"أسباب إنسانية" !! على المرء أن يحترم هذا الإبتكار الشفاف في هذا التفسير. حسب أسعار 1970 في شيلي يمثل هذا دخلا ضخماً . ويريد أحدنا أن يعرف كيف قرّرت لجنة الأربعين ورئيسها المحترس "هنري كيسنجر" أن أفضل طريقة للانفصال عن عصابة منفلتة هي منحها ثروة صغيرة نقداً بعد أن اقترفت جريمة قتل بدم بارد.

ونفس التساؤل يثور وبصورة أكثر حدّة عن كشف آخر في التقرير وذلك تحت عنوان: العلاقة مع كونتريراس. ومانويل كونتريراس كان رئيس شرطة بينوشيه العسكرية السرّية، وهو منظم موت وتعذيب و "اختفاء" عدد كبير من الشيليين ومستخدم طرق التفجير والاغتيال بعيدا عن شيلي حتى وصل واشنطن. وقد اعترفت الوكالة مبكراً في الوثيقة بانها:

"علاقة استشارية في شيلي مع هدف أساسي هو تأمين المساعدة في جمع المعلومات الاستخبارتية عن الأهداف الخارجية. قدّمت الوكالة هذه الخدمات لمنظمات داخلية ودرّبت العناصر لمواجهة التخريب والإرهاب القادم من الخارج، وليس لمواجهة المعارضين الداخليين للحكومة".

مثل هذا التعبير المسطّح الخادع الذي يقوم على أساس التمييز بين "الأهداف الخارجية" والأفعال القذرة للسلوك الديكتاتوري الداخلي، يدعونا للتساؤل: أي خطرخارجي كان يهدّد شيلي ؟ كانت لشيلي خلافات على شريط بحري مع الأرجنتين، وفي الارجنتين كانت الوكالة تعمل أيضاً على بقاء النظام الديكتاتوري العسكري. شيلي لم يكن لها أعداء خارجيون، ولكن نظام بينوشيه الديكتاتوري القمعي كان لديه الكثير من المناهضين في الخارج وهم المواطنون الشيليون الذين طوردوا وأجبروا على مغادرة وطنهم، وكان واجب مانويل كونتريراس هو مطاردتهم وقتلهم كما بيّن ذلك التقرير نفسه:

"خلال الفترة بين 1974 و1977، احتفظت الوكالة بصلة مع مانويل كونتريراس الذي أصبح لاحقاً مزعجاً لمساهمته في الإساءة إلى حقوق الإنسان. وقد بارك المجتمع السياسي للحكومة الأمريكية هذه الصلة مع كونتريراس بأخذ موقعه كرئيس المنظمة الاستخبارية الرئيسية في شيلي، كضرورة لانجاز الوكالة لمهمتها، على الرغم من التحسّب من أن هذه الصلة ستجعل الوكالة عرضة للاتهامات بأنها تعزّز القمع السياسي الداخلي".

وبعد أخذ ورد حول التمييز بدون اختلاف بين تكتيكات الشرطة "الداخلية" و "الخارجية"، يعلن التقرير بصراحة:

"مع نيسان 1975، أظهرت التقارير الاستخبارية أن كونتريراس كان العائق الأساسي أمام سياسة معقولة في مجال حقوق الإنسان داخل اللجنة العسكرية الحاكمة، ولكن لجنة استخباراتية داخلية وجّهت الوكالة بالإستمرار في العلاقة مع كونتريراس. حثّ السفير الأمريكي في شيلي نائب مدير وكالة المخابرات الأمريكية الجنرال "فرنون والتر" على استقبال كونتريراس في واشنطن من اجل تعزيز العلاقة مع بينوشيه. وفي آب 1975 حصل هذا اللقاء بمباركة استخبارية داخلية".

في مايس وحزيران 1975، أقترحت عناصر داخل وكالة المخابرات بإقامة علاقة تمويل مع كونتريراس للحصول على معلومات استخبارية اعتمادا على موقعه الفريد وقربه من بينوشيه. لكن هذا المقترح أُهمل التزاما بسياسة حكومة الولايات المتحدة حول العلاقات السرّية مع رئيس جهاز استخباري سيّء السمعة في مجال الإساءة إلى حقوق الإنسان. ولكن، بأخذ سوء التواصل في توقيت مثل هذا التبادل ـ فإن دفعة مالية واحدة قد أُعطيت لكونتريراس".

 

في واشنطن: دعم واستقبال السفّاح كونتريراس الذي يذبح الديمقراطيين في شيلي:

ولا يتطلب هذا الكلام شرحاً وتحليلاً فهو صارخ في العهر والقذارة والسفالة والنفاق. في وقت ما بعد أن تم الاستنتاج من قبل الوكالة أن مانويل كونتريراس كان "العائق الأساسي" أمام سياسة معقولة في مجال حقوق الإنسان"، أُعطي أموال دافعي الضرائب الأميركيين واستُقبل على أعلى مستوى في واشنطن. وكانت مذكرة الوكالة دقيقة في توضيح أنه حيثما وُجدت الشكوك، فإنّها تُلطّف بـ "المجتمع السياسي للحكومة الأميركية" وبـ "لجنة بين الوكالات" . وهي – أي المذكرة – تحاول الإيحاء بأن رئيس جهاز الإجرام الاستخباراتي الأجنبي قد أُعطي رشوة "بالغلط" . وواحدنا يتعجّب من هو مُصمم هذه المهزلة وكيف مرّت على تدقيق لجنة الأربعين ورئيسها الدكتور الدقيق هنري كيسنجر.

والتقرير يناقض نفسه أيضاً، فيقول في أحد المواضع أن نشاطات كونتريراس الخارجية كانت غامضة ثم يقول في موضع آخر:

"خلال السنة التي أعقبت الإنقلاب، أدركت وكالة المخابرات ووكالات حكومية أمريكية اخرى، وجود تعاون ثنائي بين وكالات استخبارات بلدان المنطقة لملاحقة نشاطات و "على الأقل في حالات معدودة" قتل المعارضين السياسيين. هذه كانت مقدّمات عملية كوندور وهي تنظيم استخباراتي مشترك بين شيلي والأرجنتين والبرازيل والأورغواي وباراغواي تأسس عام 1975".

إذن، نحن نعرف الآن إن: مبدأ عولمة فرق الموت فُهمت وبوركت من قبل المخابرات الأميركية وسادتها السياسيين عبر إدارتين . والشخص الرئيسي المسؤول عن ذلك في كلا الإدارتين كان هنري كيسنجر. ومهما كان معنى تعبير "لجنة بين الوكالات"، وفي ما إذا كانت لجنة الأربعين أو لجنة بين الوكالات حول شيلي تعلم أم لا، فإننا سنعود في كل الأحوال إلى نفس المصدر.

عندما غادر هنري كيسنجر وزارة الخارجية، قام بصفقة استثنائية وغير معقولة منح وفقها أوراقه ووثائقه إلى مكتبة الكونغرس (حاول أوّلاً تقديمها إلى مؤسسة روكفلر في نيويورك) ولكن وفق شرط وحيد وهو أن تبقى خلف ستار السرّية والكتمان حتى خمس سنوات بعد وفاته. لكن صديق كيسنجر مانويل كونتريراس اقترف غلطة كبيرة حينما قام بقتل المواطن الأميركي "روني كاربن موفيت"، في عملية تفجير سيارة في واشنطن قُتل فيها أيضاً المعارض الشيلي المنفي أورلاندو ليتليه في 1976 .

 

ملاحظة عن هذه الحلقات الخاصة بالمجرم هنري كيسنجر:

هي حلقات مُعدّة ومترجمة ومجموعة من المصادر الآتية:

-المصدر الرئيسي هو كتاب الصحفي كريستوفر هيتشنس: محاكمة هنري كيسنجر:

Christopher Hitchens: The Trial of Henry Kissinger - Christopher Hitchens own site

- وتليه في الأهمية المصادر التالية:

Kissinger Head Of 9/11 Commission

HENRY KISSINGER IS A WAR CRIMINAL http://www.zpub.com/un/wanted-hkiss.html

Elite Watch Home - Kissinger Associates / - Kissinger McLarty Associates

THE TRIAL OF HENRY KISSINGER http://www.trialofhenrykissinger.org

The nation responded: http://www.thenation.com/capitalgames/index.mhtml?bid=3&pid=176 "

Regarding Henry Kissinger: The Making of a War Criminal

Henry Kissinger - 9/11 Encyclopedia

Henry Kissinger: War Criminal or Old-Fashioned Murderer?

Wanted - - WAR CRIMES - Henry Kissinger

Pol Pot And Kissinger On war criminality and impunity by Edward S. Herman

Henry Kissinger: War Criminal Page

www.trialofhenrykissinger.org

http://www.cnn.com/2001/US/09/17/gen.kissinger.cnna/index.htm

Green Lights and Red Herrings - By Stephen R. Shalom

With Friends Like These - Kissinger does Indonesia - by Terry J. Allen - In These Times, April 2000

Iraqgate - United States history - Written by: The Editors of Encyclopædia Britannica

THE ADMINISTRATION'S IRAQ GATE SCANDAL - (BY WILLIAM SAFIRE) - (Extension of Remarks - May 19, 1992)

Iraqgate (disambiguation) - Wikipedia, the free encyclopedia

The Case Against Henry Kissinger: Part One - The making of a war criminal - by Christopher Hitchens - Harpers magazine, March 2001

Kissinger Associates - Wikipedia, the free encyclopedia

Kissinger Associates / Kissinger McLarty Associat:- www.bibliotecapleyades.net/sociopolitica/elite/

Kissinger Associates, Inc. – SourceWatch:

www.sourcewatch.org/index.php/Kissinger_Associates,_Inc

 

ملاحظة عن هذه الحلقات:

هذه الحلقات تحمل بعض الآراء والتحليلات الشخصية، لكن أغلب ما فيها من معلومات تاريخية واقتصادية وسياسية مُعدّ ومُقتبس ومُلخّص عن عشرات المصادر من مواقع إنترنت ومقالات ودراسات وموسوعات وصحف وكتب خصوصاً الكتب التالية: ثلاثة عشر كتاباً للمفكّر نعوم تشومسكي هي: (الربح فوق الشعب، الغزو مستمر 501، طموحات امبريالية، الهيمنة أو البقاء، ماذا يريد العم سام؟، النظام الدولي الجديد والقديم، السيطرة على الإعلام، الدول المارقة، الدول الفاشلة، ردع الديمقراطية، أشياء لن تسمع عنها ابداً،11/9، القوة والإرهاب – جذورهما في عمق الثقافة الأمريكية)، كتاب أمريكا المُستبدة لمايكل موردانت، كتابا جان بركنس: التاريخ السري للامبراطورية الأمريكية ويوميات سفّاح اقتصادي، أمريكا والعالم د. رأفت الشيخ، تاريخ الولايات المتحدة د. محمود النيرب، كتب: الولايات المتحدة طليعة الإنحطاط، وحفّارو القبور، والأصوليات المعاصرة لروجيه غارودي، نهب الفقراء جون ميدلي، حكّام العالم الجُدُد لجون بيلجر، كتب: أمريكا والإبادات الجماعية، أمريكا والإبادات الجنسية، أمريكا والإبادات الثقافية، وتلمود العم سام لمنير العكش، كتابا: التعتيم، و الاعتراض على الحكام لآمي جودمان وديفيد جودمان، كتابا: الإنسان والفلسفة المادية، والفردوس الأرضي د. عبد الوهاب المسيري، كتاب: من الذي دفع للزمّار؟ الحرب الباردة الثقافية لفرانسيس ستونور سوندرز، وكتاب (الدولة المارقة: دليل إلى الدولة العظمى الوحيدة في العالم) تأليف ويليام بلوم .. ومقالات ودراسات كثيرة من شبكة فولتير .. وغيرها الكثير.

 

ترجمة وإعداد: د. حسين سرمك حسن

بغداد المحروسة -2015

 

في المثقف اليوم