آراء

داعش كسلاح إسرائيلي جديد .. تحليل خصائصه المميزة

saieb khalilيمكن تحليل أية ظاهرة من وجهات نظر عديدة، وظاهرة داعش لا تختلف عن ذلك. ونحن إذ نحللها هنا على أساس انها "سلاح جديد"، فإننا ننطلق من افتراض اولي بأن داعش من صنع إسرائيل - أميركا، وأن أميركا تتصرف بشكل عام كوكيل لإسرائيل في الشرق الأوسط وتلتزم اجندتها (مع استثناءات نادرة جداً) وبالتالي فأن اميركا تعامل داعش كفرقة أمريكية سرية أو كسلاح سري أميركي. ومن حق القارئ ان يرفض هذا الافتراض وبالتالي يتوقف عن القراءة لأننا لن نناقشه في هذه المقالة فقد تم ذلك مرات عديدة وسنعيد ذلك كلما شعرنا بالحاجة إليه، اما الآن فهذه المقالة مخصصة لنا نحن الذين اقتنعنا بهذه النقطة ونريد أن نتقدم خطوة أخرى في تحليلها لنعرف كيف نتعامل معها.

عندما نقول "سلاح جديد" فإننا لا نقصد بالضرورة "سلاح حديث" بالمعنى التكنولوجي، وإنما سلاح يتم إدخاله لأول مرة في المعركة، وهذا ما يعطيه صفات معينة من القوة والضعف.

فمن المعروف أن إدخال سلاح جديد إلى المعركة كثيرا ما يتسبب في قلب موازين المعركة لصالح الجهة التي تستعمله، حيث لا تمتلك الجهة المقابلة ما يقابله. لكنه بالمقابل يكون سلاح غير مجرب وغير مهذب أي يحمل وفرة من نقاط الضعف ويحتاج الكثير من الوقت لتطويره، وفي هذه الأثناء يكون العدو قد فهم الجهاز واتخذ ما يلزم لمواجهته بعد فهم نقاط ضعفه، أو تقليده.

ويتيح لنا تاريخ "الأسلحة الجديدة" وتعامل المقابل معها، فرصة جيدة لدراسة والتعامل مع أي سلاح جديد. دعونا نأخذ جولة قصيرة مع ذلك التاريخ.

بشكل عام فأن السلاح "الجديد" يأتي دائما للتغلب على مشكلة أو نقطة ضعف في الحرب فيحقق الأفضلية لأصحابه. وقد يكون السلاح الجديد لسد ثغرة في الدفاع، كما قد يكون لسد ثغرة في الهجوم. لنأخذ على سبيل المثال تاريخ أسلحة مهاجمة القلاع. لقد كانت بوابة القلعة هي نقطة الضعف الكبرى في دفاعاتها. فاخترع المدافعون البوابات المتعددة التي تصل بينها الممرات الطويلة ليمر بها الغزاة ليلقى عليهم من ثقوب في اعلاها الماء والزيت المغلي أو الأحجار والسهام. وإن كان سور القلعة هو الاختراع الدفاعي الأساسي فيها، فقد كان الآشوريون الذين حكموا إمبراطورية عراقية عظيمة لثلاثمئة عام منذ 900 ق.م.، يستعملون عربة تحمل جذعاً ضخماً معلق بشكل افقي بواسطة حبال، وله رأس معدني. وتتم أرجحة الجذع بالقرب من السور وضربه به لتحطيمه. لكن ذلك كان يعرض الجنود القائمين عليه إلى قصف المدافعين بالسهام وغيرها من الأعلى، مما يعطي المدافعين أفضلية الضرب من الأعلى. فصنع المهاجمون الآشوريون "الأبراج المتحركة" المصنوعة من الخشب والحصران، وتحمل في اعلاها رماة الأسهم، فأعطتهم الأفضلية وعنصر المفاجأة. لكن خصومهم سرعان ما اكتشفوا ان النار خير دفاع بوجه هذا السلاح.

ثم اخترع المقدونيون المقلاع الذي كان يوتر بواسطة حبل يتم برمه فيتقلص طوله ثم يفلت فيطلق الحجارة أو النار على الأسوار لتحطيمها او داخل القلعة المحاصرة لحرقها. لكن نقطة الضعف لهذا السلاح انه كان ثقيلا ولا يسهل نقله مع الجيش إلى المدن البعيدة، وأحيانا يتطلب نقل حجارته معه.

وجاءت حرب الخنادق الطويلة في الحرب العالمية الأولى باختراعات عديدة للتغلب على نقاط الضعف فيها، وكانت نقطة الضعف الأساسية هي صعوبة الهجوم على المدافعين المتخندقين وكلفته العالية، خاصة بعد اختراع الأسلاك الشائكة. وأدى ذلك إلى حالة من التوازن الجامد، فاخترعوا الأنفاق التي تحفر تحت الخنادق والقيام بتفجيرها. فاستعمل المدافعون أجهزة تحسس للأصوات والارتجاجات ليفاجئوا المهاجمين قبل ان يفاجئوهم. واستعمل الألمان الغازات السامة عام 1915 فرد عليهم المقابل بالأقنعة الواقية والغازات السامة المقابلة، وتكررت نفس القصة مع قاذفات اللهب التي اخترعها الألمان عام 1915. ثم اخترع الإنكليز عام 1916 الدبابة التي لا تؤثر بها رصاصات الرشاشات الآلية، وتستطيع بفضل سرفتها أن تسحق الأسلاك الشائكة وتعبر من فوق الخنادق والحفر. فكانت مفاجئة الحرب المخيفة، لكن سرعان ما اكتشف العدو نقاط ضعفها وسهولة اعطابها، وصنع دباباته هو أيضاً. ولمواجهة الأسطول البريطاني القوي، استعمل الألمان الغواصات (U-boat) التي اغرقت الكثير من السفن البريطانية قبل ان يجدوا لها حلا، وهكذا تستمر الحرب وتتطور في وحشيتها في كل مرة بسلاح جديد للهجوم او الدفاع، ليعود الخصم ليجد له حلا او يصنع نسخته منه، الخ.

كيف ننظر إلى داعش كسلاح جديد؟ وما هي صفاته وما هي نقطة الضعف التي جاء من صنعه به ليسدها؟

قلنا إننا ننطلق مما نعتبره حقيقة، هي أن داعش من صنع الإسرائيليين والأمريكان، وبالتالي فهم أصحاب هذا "السلاح الجديد"، وبما انهم الأقوى والذين يهاجمون كل العالم اليوم، فمن المنطقي ان يخدم سلاحهم الجديد لسد نقاط ضعف هجومية. لكن هل هناك حقاً نقاط ضعف هجومية في منظومة اقوى دولة في العالم والتي تنفق على السلاح ما يعادل بقية دول العالم مجتمعة، علما ان معظم الدول التالية في القوة، هم حلفاء لها؟ وهل يعقل ان في سلاح الهجوم لأميركا وإسرائيل بأسلحتهما النووية والتقليدية المتقدمة، نقطة ضعف يمكن ان تسدها مثل داعش؟

إنه الرأي العام! الرأي العام في العالم، وحتى داخل البلدان المعتدية نفسها، صار يشكل عقبة بوجه الهجوم، وصار سلاح الدفاع الرئيسي للجانب الأضعف، حتى قال البعض أن في العالم اليوم قوتان عظيمتان، هما أميركا والرأي العام.

هل هذا حقيقة ام اننا نبالغ؟ اليس الإعلام الجبار كله بيد أميركا وإسرائيل؟ أليست الأمم المتحدة العوبة بيدها؟ أي رأي عام هذا المؤثر ليحسب له الأمريكان والإسرائيليون حساباً ويخترعون من اجله اسلحةً؟

ربما نحن لسنا راضين عن مستوى هذا الرأي العام، ولنا الحق في ذلك، لكن الإحصاءات تبين أن الأمر ليس بهذا السوء، وأن المعتدين لا يخدعون الجميع، بل لا يخدعون إلا أقلية، رغم حجم اعلامهم واموالهم!

فهذا استبيان تم في عام 2003، يبين أن جميع شعوب دول الاتحاد الأوروبي بلا استثناء رأت في إسرائيل الخطر الأكبر على السلام في العالم، وبمعدل مهول بلغ 60%! (1) وجاءت اميركا في المرتبة الثانية في الاستبيان المذكور. ولم تملك إسرائيل تجاه ذلك سوى "الغضب" المضحك ولم ترد إلا بتأسيس مؤسسات إعلامية جديدة للرد على "تشويه سمعتها"، وكأن تلك السمعة لم تأت من وقائع حقيقية.

وتوالت الإحصاءات وبقيت هاتان الدولتان في المراكز المتقدمة كمراكز تهديد كما تراها شعوب العالم (2). ورغم كل التمثيليات الكبيرة فأن استبياناً قبل عامين بين ان الأمريكان أنفسهم توصل إلى نتيجة مدهشة هي أن الأمريكان يخشون حكوماتهم أكثر مما يخشون الإرهاب! (3)

ولكن هل يعيق أي رأي عام، حتى لو كان داخل أميركا وإسرائيل، ساستها واثرياء حروبها من شن الحروب؟ لقد لاحظ جومسكي أن هناك توصية منذ منتصف القرن الماضي، ان تكون الحروب سريعة. وفسر الأمر على أن الرأي الشعبي المضاد للحرب ينمو تدريجياً، وأن صناع الحروب يخشون تفاقم الرأي العام داخل شعوبهم وفي العالم. وقد اضطرت أميركا للانسحاب من فيتنام بالضغط الشعبي والرأي العالمي. وصحيح أنها بعد ذلك هاجمت يوغوسلافيا والعراق رغم الرأي العالمي ورغم الأمم المتحدة، إلا أن ذلك كلفها الكثير من سمعتها وجعلها تبدو كتهديد لكل الشعوب، كما رأينا في الاستبيانات، وهي لا تستطيع الاستمرار بذلك بدون تهديد بنيتها الداخلية. وقد تجمع الضغط الشعبي ليظهر تأثيرا مباشرا لأول مرة في منع تشكيل التحالف لمهاجمة سوريا، حيث رفضت بريطانيا لأول مرة في تاريخها طلبا أمريكيا بالتعاون على الهجوم على جهة ما، وبالرغم من ان حكومتها كانت حكومة ذيلية لأميركا إلى حد بعيد، فحتى مثل هذه الحكومة قد تصل حداً تضطر فيه ان تحسب لرأي شعبها حساباً.

إذن كان هناك بالفعل مشكلة كبيرة لدى المهاجم، وعقبة تقف بوجه طموحاته وتشل قدرته على استعمال تفوقه العسكري التقليدي، فتوفرت الحاجة، وهي ام الاختراع، إلى السلاح الجديد، فتم اختراع "داعش"!

ما هي افضليات هذا السلاح الجديد؟ اختراع "داعش" وأخواتها، كفرق إرهابية إسرائيلية – أمريكية تحمل علماً مزيفا يمثل ضحايا إسرائيل وأميركا نفسهم، من خلال جنود تم تجنيدهم من الدول العربية والإسلامية، ويرفعون أكثر شعارات عنف وجدها مؤسسوها في التراث الإسلامي، وبشكل مقنع للعالم وللكثير من الضحايا أنفسهم، يتيح لهاتين الدولتين تجاوز تلك العقبة تماماً، واستخدام هذه الفرق يوفر فرصة ذهبية للمهاجم، حيث يضع في يده سلاح خفي لا يستطيع الرأي العام أن يراه وينتقده عليه. فهذا السلاح منيع على سلاح الرأي العام لدى المدافع، تماما كمناعة طائرات الشبح أمام الرادارات. فهو يتيح له أن يشن الحروب بكل حرية دون أن يتعرض لاحتجاج الأمم المتحدة أو منظمات حقوق الإنسان أو غيرها، فالمشهد يبدو وكأن اعداءه قد جن جنونهم فصاروا يقتلون بعضهم البعض، وهو بعيد عن الساحة تماماً. إضافة إلى ذلك فهو يتيح له أن يصور ضحاياه كوحوش بشعة تستحق احتلاله لأرضها واستغلالها، بل والتظاهر باتخاذ موقف "مبدئي"، وتقمص دور المدافع عن الحرية والمهاجم للإرهاب. والأكثر من ذلك ان هذا السلاح يمنع التكاتف الذي يلجأ اليه المدافعون، ليصبحوا قوة فعالة بوجه المهاجم، فهو يحول مشاعر الغضب لتتجه داخليا بين فصائل الضحايا وخلافاتها الداخلية.

ويقوم عملاء أميركا في الإعلام وكذلك الذين تم اقناعهم بأجندتها دون علم، بإضافة اللمسات الأخيرة على كل المشهد، وبشكل يبدو بريئاً، فيبحثون في تاريخ الإسلام عما يؤكد للعالم أن "داعش" نتاج طبيعي لهذا التاريخ، بينما يقوم آخرون بمنع توجيه الاتهام إلى أميركا وإسرائيل بالتركيز على شعارات مثل "أن ننظر إلى أنفسنا أولاً". إضافة إلى كل ذلك يلعب هذا السلاح الدور الأساسي في التحطيم الطائفي للإسلام، كما انه يصبغه بصبغة الجنون والعنف في نظر العالم ونظر المسلمين أنفسهم ويبعث فيهم اليأس منه.

ويتم هذا التحطيم بخطوتين: الأولى إظهار وحشية داعش بأبشع ما يمكن، والثانية التأكيد هي أن داعش هي ما يمثل الإسلام الحقيقي، وأنها النتاج الطبيعي لأفكاره ومفاهيمه.

وإذا تذكرنا أن التنظيمات الإسلامية هي الجهات الوحيدة التي بقيت صامدة في مقاومة إسرائيل في الوطن العربي، وإن تنظيمات العلمانيين (اليساريين) قد ارهقت تماما إلى حد اليأس والاستسلام وتماهوا مع أميركا ومع عملاء إسرائيل، نفهم أهمية هذا السلاح الجديد لتوجيه الضربة القاصمة لبقايا من يقاوم من المدافعين على الصعيد النفسي، مثلما هو على الصعيد العسكري البحت.

كيف توصلت إسرائيل وأميركا إلى بناء هذا السلاح الجديد الذي يستخدم قوة الضحايا نفسها لمهاجمتهم؟ لو لاحظنا ان الغالبية الساحقة من المجندين الأصليين لداعش جاءوا من بلدان تحظى فيها أميركا وأحيانا إسرائيل ايضاً بحظوة كبيرة، ولها القدرة على اختراق المؤسسات المختلفة. ولم تكتف الدولتان باختراق المؤسسات العسكرية والأمنية والسياسية، وإنما عملت أيضا على اختراق المؤسسات الدينية. ومن خلال هذا الاختراق تمكنت من خلق نواة داعش والتي استفادت بالذات من المشاعر الدينية والوطنية وكره الأنظمة الحاكمة العميلة لهاتين الدولتين، لتخلق مجندين مخدوعين وتدربهم على القتال وتحث فيهم الهمة للقتال من أجل الإسلام والموت في سبيله وصولا الى الجنة. وقد قامت بتدريبهم تدريبا عسكريا جيدا في دول عربية وتركيا. ومن المحتمل جدا أن يكون الأمر قد حدث في كردستان، حيث نشرت البي بي سي فلما وثائقيا عن تدريب ضباط إسرائيليين لمجندين مجهولين في كردستان. وفي وقتها انكرت كردستان ذلك وأنكر النائب محمود عثمان معرفته بالأمر وقال إنه لو حدث لكان عرف به من معارفه. لكن الفلم الوثائق مثبت وقد حدث، وظهر فيه ضباط إسرائيليون أكدوا دخولهم إلى كردستان لتدريب المجندين، إلا أن هؤلاء المجندون بقوا غير معروفين الهوية من قبل الفلم الوثائقي. كذلك شمل التجنيد عدد من المسلمين الذين سبق ان لجأوا إلى عدد من الدول الغربية. إن قيادات هذه المجموعات وحدها تعلم حقيقتها، أما الباقين فليس لديهم أي علم بما يفعلون، وقد اتخذ من صنع هذه الفرق احتياطات كافية للتعامل مع من يفتح عينه ويرى الحقيقة، كما أن منع طرح الأسئلة قد تم الاتفاق عليه مسبقا مع المجندين.

وهكذا حصلت إسرائيل على السلاح الأمضى الذي تستطيع به أن تضرب ضحاياها وتدمر بلادهم تماما وبكل وحشية، دون أن تخشى أن يوجه اللوم إليها، ولا ان تثير تلك الحرب احتجاجات لا في العالم ولا في الداخل، حيث لا توجد خسائر تثير الاحتجاج الداخلي. كما أن هؤلاء بإيمانهم الشديد، مستعدون للموت في سبيل غاياتها، حتى وإن لم يعلموا!

وتعتمد فرق الكوماندوس الإسرائيلية هذه من المجندين المسلمين - "داعش"، على ما تقدمه له إسرائيل وبالذات أميركا من الدعم والحماية. وينقسم الدعم إلى دعم معلوماتي - أمني ولوجستيكي (النقل والتموين) وعسكري وأحيانا السياسي. فمن المستحيل أن تتمكن مجموعة مثل داعش من احتلال مدينة مثل الموصل بدون كم هائل من المعلومات عن كل من يسكن في المدينة. وهذه المعلومات تم الحصول عليها من خلال أجهزة التجسس الإسرائيلية والأمريكية. سواء كان ذلك من خلال عملائهما في الحكومة العراقية واختراقها للمؤسسات الحكومية، أو من خلال التنصت للاتصالات التلفونية، وخاصة عبر "فايبر"، وهي شركة أسسها أحد رجال الموساد المتقاعدين، أو معلومات مواقع التواصل الاجتماعي. وفي أكثر من مرة عبر سكان الموصل والمناطق الغربية عن دهشتهم الشديدة لمدى المعلومات الدقيقة والمفصلة التي يعرفها داعش عنهم، وتساءلوا من أين حصلوا على هذه المعلومات، وكيف يمكن جمع التخلف الفكري والتوحش مع كل هذا التقدم التقني المعلوماتي.

كذلك لاحظنا ان اميركا قدمت دعما عظيما لداعش من خلال من قامت بتجنيده من العملاء من قيادات الجيش العراقي من البعثيين السابقين الذين ضغطت لإعفائهم من احكام المساءلة ووضعهم على راس القيادات العسكرية في الموصل، وأمرتهم في اللحظة الحاسمة بالانسحاب أمام داعش، مع ترك أسلحتهم لها.

ولم يكن ذلك دون ان تطمئنهم أولا بأنها ستؤمن سلامتهم في بغداد، فقام نوري المالكي بإحالتهم على التقاعد دون محاكمة عسكرية كما يتوقع ويفترض، وأن يتم إعدامهم بعد إثبات الخيانة العظمى عليهم.

وفي الأنبار تكرر الأمر نفسه مع القيادات، وخاصة فاضل برواري، البيشمركة السابق وقائد الفرقة الذهبية، وهو العميل الذي كان مسؤولاً عن حماية الإرهابيين لحين إكمال مهمتهم في عملية كنيسة سيدة النجاة قبل أعوام، وقد كتبنا عن الموضوع كثيراً، دون جدوى. ومازال برواري يقود الفرقة الذهبية ويتحرك بحرية، بل، وعلى العكس من القادة العملاء في الموصل الذين افتضحوا، فأن الإعلام قد تمكن من ان يصنع من برواري بطلا، رغم فضيحة كنيسة سيدة النجاة ورغم فضيحة الأنبار التالية، وهو إنجاز عظيم لإسرائيل وأميركا بحق، في قياد الرأي العام العراقي.

وما هي نقاط ضعف السلاح الجديد؟ إن نقطة ضعفه الأساسية هي كونه غير نظامي ويعتمد تماما على ما تقدمه له إسرائيل وبالذات أميركا من الدعم والحماية، وفوق ذلك، لأنه لا يحمل العلم الأمريكي او الإسرائيلي علناً فمن الصعب جدا سياسياً دعم هذه الفرق من قبل دولها. كذلك لم يكن سهلا الدفاع عنه من قبل تلك الدول بحجة "التدخل الإنساني" لأنه من الضروري له لكي يكمل مهمته في تشويه صورة المسلمين، أن يعلن عن وحشيته قدر الإمكان بل وحتى بالمبالغة بذلك.

ورغم أن إسرائيل قد دعمته علنا أحيانا، خاصة في تطبيب جرحاه، وأن أميركا دعمته علنا في البداية في سوريا من حيث ارسال السلاح. وكذلك جاء جون كيري وزير الخارجية الأمريكي يطالب رئيس الحكومة العراقية السابق بدعم داعش في سوريا، إلا ان المالكي رفض تلك المهمة المستحيلة واعتذر عن تلبية الطلب. لكننا لا نستبعد أنه اعطى وعوداً بعدم دعم سوريا، كحل وسط. وبالفعل أعلن أكثر من مرة عن "عدم التدخل في الشأن السوري" و"وقوف بلاده على الحياد"، رغم أن داعش كانت تهدد بلاده بشكل علني. في هذه الأثناء كان وزير الخارجية "العراقي" هوشيار زيباري يقف موقفا أكثر طموحا في تحقيق الأجندة الإسرائيلية فيعلن بتحد لرئيسه، أن العراق "لن يقف على الحياد بين الشعب السوري والدكتاتورية". وهو هنا يعرف "الشعب السوري" بالتعريف الإسرائيلي الأميركي، أي "داعش" والفصائل الإرهابية الأخرى.

كانت تلك فترة شهر العسل من الدعم الأمريكي المباشر لداعش لكنها لم تستمر طويلا. فبعد أن فشل مشروع التدخل العسكري في سوريا، اضطرت اميركا إلى العودة الى الاكتفاء بالدعم السري، عدا في كردستان حيث ظهر فلم يعترف فيه افراد البيشمركة بأنهم ممنوعون من التعرض لقوافل داعش على الطريق الذي يؤمن اتصالاتهم.

وعادة نقطة الضعف الأساسية في هذا السلاح تظهر بقوة. ويبدو أن مساعدة داعش لوجستيا للبقاء على قيد الحياة عانت من الصعوبات الكثيرة، ولم تجد أميركا طريقا لذلك غير ان تدخل العراق بقواتها ثانية لإيصال تلك المعونات. وكانت الطريقة هي إبعاد المالكي "المتعنت" في تلك النقطة والإتيان بشخص مطيع تماما لا يعترض على إعطاء الحصانات ولا يرفض شيئا، وقد اختاروا لذلك حيدر العبادي. وقد كوفئت كردستان التي قامت بالعمل التنفيذي لمؤامرة العبادي بحصولها على كل شروطها الابتزازية الجديدة وأهمها "حق" تصدير النفط (لإسرائيل) وتثبيت نفط كركوك كجزء من نفط كردستان. وقد اختيرت وزارة العبادي بدقة لتحقق تلك الشروط بتوزير عادل عبد المهدي على النفط وزيباري على المالية. كما وضع مخطط الحرس الوطني الذي كان سيؤمن للفرق الإسرائيلية الحصول على مناصب عسكرية في كل محافظة على حدة، وتأمين تقسيم العراق. ونلاحظ ان كل تلك التحركات تهيئ البيئة اللازمة لأفضل استفادة من السلاح الجديد "داعش"، والذي كان قد قدم كركوك لكردستان، مع أسلحة القوات التي كانت فيها.

لكن الخطة لم تسر بالتوفيق المرجو لها حتى النهاية، فاكتشف الدعم اللوجستي الأمريكي الذي أمنه تحالف العبادي، واكتشفت بعض الباراشوتات التي كان الأمريكان يرسلونها للمعونة، إضافة إلى حديث شهود عن طائرات هيلوكوبتر. وقد تسبب افتضاحها بإحراج العبادي وفالح الفياض اللذان جهدا لإنكار ما جاء في تقرير لجنة الأمن البرلمانية الذي أكد الدعم. ومثله كان الدعم العسكري الأمريكي لداعش بضرب مواقع الحشد والجيش بالصواريخ، قد اثار ضجة كبيرة، ولم يعد هناك في العراق اية نسبة من الناس لا تؤمن بأن اميركا تدعم داعش، حتى من بين المشككين بأنها هي التي خلقتها. وكان في ذلك إحراج كبير جدا للعبادي الذي كان قد وضع كل أوراقه في السلة الأمريكية التي جاءت به، فتراه يفقد اعصابه وهو يجاهد لإنكار ما جاء في التقرير البرلماني ومدافعا عن الحلف، أكثر من السفير الأمريكي ذاته. كذلك كان انعدام وجود أية نتائج على الأرض لهذا التحالف خلال سنة، كابوسا وفضيحة كبرى للعبادي. وانتشر بين الناس تساؤل عن كيف يمكن لأرتال داعش ان تنتقل تحت سمع وبصر الأقمار الصناعية الأمريكية دون ان تصيبها طلقة واحدة؟

وقد كان الأمريكان يدركون أن لحظة افتضاح لابد ستأتي عاجلا أو آجلاً، فحاولوا الاستعداد لها فصرح أوباما بأن الحرب على داعش ستستمر ثلاث سنوات، بينما كان وزير دفاعه السابق أكثر "وقاحة" وقال انها ستستغرق ثلاثين سنة!!

قلنا إن نقطة الضعف الأساسية في سلاح فرق "داعش"، هي عدم إمكانية أميركا أو إسرائيل الدفاع عنها علناً كفرق إسرائيلية أو أمريكية. وسمحت هذه النقطة للجنرال سليماني ومجموعة من الضباط الإيرانيين الذين استشهد بعضهم، أن يقودوا مجموعة "الحشد الشعبي" إلى أول انتصاراتهم على تلك الفرق الإسرائيلية، ودون ان تجد أميركا أو إسرائيل طريقة لمنعها دون فضح اللعبة كلها، ففضلت أميركا أن تتخلى عن فرقها على ذلك، واكتفت بخطة لتأمين حماية أرواح منتسبيها من خلال الضغط على العبادي الذي أوقف الحشد عن تكريت لحين انسحاب داعش منها، فدخلها الحشد بعد أسابيع ليجدها خالية إلا من المحلات الملغومة. وقد وصلني أن داعش كانت تنسحب دائما من المناطق الخطرة تاركة المتطوعين (من الصغار غالباً) الذين تم تجنيدهم من المناطق المحتلة نفسها ليموتوا دفاعا عنها ويغطوا انسحابها.

وهاهو بوتين اليوم يستغل نقطة الضعف تلك بشكل مباشر تماماً ويعلن هجومه على داعش دون ان يخشى رد فعل أمريكي كما هو متوقع لو أنه فعل ذلك ضد فرق أمريكية معلنه. بل أنه أرسل دعوته (الساخرة؟) للولايات المتحدة للتعاون في هذا الأمر! وقد رفضت واشنطن ذلك، وعملت جهدها لإفشال الحملة الروسية بأشكال غير مباشرة. فنرى امامنا كوميديا تهديدات سعودية وتركية لروسيا، بينما تكتفي أميركا باعتراضات بسيطة وموقف سلبي، وهي ترى فرقها تترنح خلال اقل من أسبوع من الضربات الروسية، وتهجر مناطقها وتصدر التعليمات لإخلاء الجوامع، وهو ما لم يحدث أيام "القصف" الأمريكي، مشكلا بذلك فضيحة جديدة لذلك السلاح. ويحتار العبادي كيف يفسر للشعب رفضه أن يطلب من روسيا حتى الآن أن تدخل القتال في بلاده لتحررها من داعش كما تفعل الآن مع سوريا، فأميركا لم تجد له حتى الآن منفذا سياسياً يتحجج به لهذا التهرب، الذي يفضح دوره في القضية كلها، مثلما فضح المالكي اعفاءه قادة الجيش الذي سلموا الموصل لداعش.

وفكرة داعش الأساسية، المتلخصة بضرب "العدو" بنفسه، ليست فكرة جديدة تماماً، إنما وجدت في داعش تطبيقاً حديثاً ومتميزاً. ونجاح هذا السلاح في التسبب في كل هذا الدمار الذي عجز عنه الجيش الإسرائيلي في مختلف حروبه المدمرة التي كان يوقفها في كل مرة عن إتمام مهامها الضغط الدولي او الداخلي، يوحي لإسرائيل باستخدام هذا السلاح في كل مكان تجد فيه صعوبة في الهجوم على ضحاياها. وهنا نراهم قد طبقوا ذلك على الانتفاضة الجديدة بإيجاد "عرب" يخترقون الشبان العرب الذين يقذفون الإسرائيليين بالحجارة لينقضوا عليهم في اللحظة المناسبة ويكونوا كفرقة إرهاب إسرائيلية تخترق صفوف شباب الحجارة وتقوم بتصفيتهم. (1)

في العادة تكون السرية نقطة قوة كبيرة للسلاح الجديد، لكن نقطة ضعف هذا السلاح بالذات هي سريته وعدم قدرة أصحابه على الاعتراف به علناً، وهو ما يتركه عرضة للهجوم دون أن يتمكن أصحابه من الدفاع عنه. وهي الحقيقة التي أدركها بوتين وسارع للاستفادة منها كما فعل ذلك الحشد الشعبي وسليماني قبله، والذي سبب فرحاً عارماً لشعوب المنطقة. ولا شك أن شعور الناس في هذه البلدان الضحية للمؤامرات الإسرائيلية الأمريكية من الارتياح الشديد وهم يرون هذا السلاح الذي أرعبهم لعدة سنوات وبدا غير قابل للكسر، يتهاوى مرة تحت ضربات الحشد ومرة تحت ضربات بوتين، يشبه ارتياح جنود الخنادق الألمان وهم يرون بيدهم مدفعاً يعطب ذلك الوحش الإنكليزي الذي طالما أرعبهم والذي لا يؤثر فيه الرصاص، أو شعور سكان القلاع وهم يرون جنودهم يحرقون بسلاح الماء المغلي، الغزاة الذين يخترقون بوابات قلاعهم. فلكل سلاح جديد صولة، ونهاية، وقد بدت نهاية سلاح إسرائيل وأميركا الجديد: داعش!

 

صائب خليل

................

(1) - EU poll sees Israel as peace threat

http://www.theguardian.com/world/2003/nov/03/eu.israel

(2) -Poll: Israel and US Biggest Threats to World Peace

http://www.twf.org/News/Y2003/1031-Poll.html

(3) Americans fear government more than terror

http://www.wnd.com/2013/04/americans-fear-government-more-than-terror

في المثقف اليوم